بيروت الزائلة

بيروت الزائلة

في‭ ‬مقـــدمة‭ ‬كـــتابه‭ ‬ابيــروت‭: ‬ذاكــرتنا‭ - ‬جــــولة‭ ‬مـــصورة‭ ‬في‭ ‬الــمــــديـــنة‭ ‬الــقديمة
1880‭ - ‬1930ب،تتحدث‭ ‬المهندس‭ ‬الراحل‭ ‬فؤاد‭ ‬دباس‭ ‬عن‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬بدأ‭ ‬فيها‭ ‬مشواره‭ ‬مع‭ ‬الصور‭  ‬والبطاقات‭ ‬البريدية،‭ ‬اذات‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬مايو‭ ‬1974‭ ‬حين‭ ‬كنت‭ ‬أتنزه‭ ‬على‭ ‬أرصفة‭ ‬نهر‭  ‬السين‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬إذ‭ ‬لاحظت‭ ‬لدى‭ ‬أحد‭ ‬بائعي‭ ‬الكتب‭ ‬المستعملة‭ ‬بطاقات‭ ‬بريدية‭ ‬قديمة‭. ‬دفعني‭ ‬الفضول‭ ‬إلى‭ ‬سؤاله‭ ‬عما‭  ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬لديه‭ ‬بطاقات‭ ‬كهذه‭ ‬عن‭ ‬بلدان‭ ‬أخرى،‭ ‬خصوصاً‭ ‬عن‭ ‬لبنان،‭ ‬فكان‭ ‬جوابه‭ ‬بالتأكيد‭. ‬وعدت‭ ‬أدراجي‭ ‬مندهشاً‭ ‬وفي‭ ‬حوزتي‭ ‬حوالي‭ ‬خمسين‭ ‬بطاقة‭ ‬بريدية‭ ‬مصورةب‭. ‬واشترى‭ ‬دباس‭ ‬البطاقات‭ ‬بأسعار‭  ‬زهيدة،‭ ‬وصارت‭ ‬المحطة‭ ‬التي‭ ‬انطلق‭ ‬منها‭ ‬ليجمع‭ ‬آلاف‭ ‬الصور،‭ ‬وليرتبط‭ ‬اسمه‭ ‬بكنز‭ ‬من‭ ‬المحفوظات‭.‬

يتذكر دباس سبب حماسته الغامرة لاقتناء الصور: «كان يحز في نفسي، أيام الدراسة، ما تفتقر إليه كتبنا من صور تعبيرية عن تاريخ لبنان، واعتقدت بتسرع أن لا وجود لمثل هذه الصور. ولكن، هأنذا في باريس وبين يدي صور قديمة عن شوارع وساحات بيروت وعن قرى لبنانية. تأكدت عندئذ أن ثمة وجهاً من وجوه لبنان قد حُجب عني أو سرق مني، وأن بإمكاني أن أراه بعيون جديدة». بدا بالنسبة إليه، كأنه يقول إن الأماكن يصبح لها معنى آخر تتوافر صورها وترصد أنماط تحولاتها... على أن التاريخ المدرسي في لبنان كان يحجب الحقبة العثمانية أو «يشيطنها» فلا نكاد نجد من تلك المرحلة إلا الحديث عن المعارك وأعواد المشانق.

 

ذاكرة‭ ‬بيروت‭ ‬الغابرة

ومنذ تلك اللحظة الباريسية، شعر فؤاد دبّاس بأنه أمسك بطرف الخيط الذي سيقوده إلى استعادة ذاكرة بيروت الغابرة، واهتم بشوارعها ومحالها وناسها وتاريخها ومصوريها ومهنها، وحاول دباس من خلال هذه الهواية فهم المدينة وتفكيك تفاصيلها من خلال المادة التصويرية التي لاحظ أنها تنقص كتب التاريخ اللبناني، يوماً بعد يوم، ازداد اهتمام دباس بالصور وبالبطاقات البريدية. وسّع جغرافيا مقتنياته إلى صوَر سورية ومصر وتركيا والأراضي الفلسطينية، وصولاً إلى جزر مالطة. وكان لبيروت القديمة أو الأولى موقعها الخاص في اهتمامه، فجمع لها صورا كثيرة تعود إلى القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بين 1814 و1918، بينها صور تتميّز بأهمية فنية واضحة وأخرى ذات أهمية وثائقية ومتحفية وتأريخية، باعتبار أن «هناك منافذ إلى تعددية التاريخ تتيح للقارئ أو المشاهد أن يوسع آفاقه..»، وترصد صور دباس أماكن بيروت الزائلة أو المتحولة، ساحة البرج (الشهداء) الحافلة بعربات الخيل، والناس بثيابهم القروية والبلدية والجبلية... الأحياء بأبنيتها وبيوتها القرميدية وقناطرها التراثية، وتحيطها أشجار النخيل على مقربةٍ من خطّ الترامواي (وقد أنهى آخر جولاته عام 1965 متقاعدًا في عزّ عطائِه)، محيط السراي الحكومي وكان سوقاً شعبياً، وتغيرت معظم ملامحه وناسه ووظائفه، واهتم دبّاس بالحقبة العثمانية «لأننا لم نعايشها»، بيروت التي عرفها كانت مدينة الأسواق والشوارع والمقاهي والساحات، حيث التقى أبناؤها على اختلاف انتماءاتهم وثقافاتهم. بيروت القديمة، بنظر دباس، كانت تجسيداً للتعايش، وانتشلت صور مجموعته، وهي بعدسات مصوّرين لبنانيين وعالميين وأرمن، معالم المدينة من النسيان والتلاشي والذوبان في التحولات الديموغرافية والعمرانية. وهي (أي بيروت) على ما يبدو كانت «تطأ أرض الحداثة بخطى متعثّرة»، أي إنها واكبت الحداثة في مناطق منها وبقيت في نسيجها رهن ثقافة القرابة والدم، ولم تنح لتتخطى ثقافة النظام الأبوي. وشكلت الصور الفوتوغرافية والبطاقات البريدية مصدراً لاستجلاء ملامح الفترة التي تغطي العقود الأخيرة من الحكم العثماني. وحتى في حال مدن مثل بيروت عرفت التصوير الفوتوغرافي مبكراً فإن مجموعة دباس البريدية تعطي تفاصيل أكثر عنها. واعتبر دباس ذلك مهمة عاجلة وضرورية، لأن بيروت التي عرفها كانت مهددة بالمزيد من الدمار والزوال. وكتب في هذا السياق أن التاريخ لم يرحم المدينة القديمة: «... فقد قذفها الأجانب بقنابلهم، وفتتها العثمانيون، ودمرها المتهربون من كل لون منذ عام 1976، ثم وجهت إليها الجرافات الضخمة الطعنة القاضية... واليوم نجد أن بيروت القديمة شبه ميتة، لكن هناك خمسة آلاف سنة من التاريخ تحت سطحها... لقد صُممت مشاريع عديدة لإعادة استخدام الأراضي المحررة: أبنية ومكاتب تجارية ومرائب للسيارات...». ستكون أفكار دباس وصوره منطلقاً لبعض الكتب الأخرى المهمة، منها على سبيل الذكر «بيروت والسلطان» لمعديه سوسن أغا قصاب وخالد تدمري، و«بيروت/ ضوء على ورق» (1850 - 1915) لبدر الحاج، تتكامل هذه الكتب في استنباط مشهدية بيروت في الحقبة العثمانية.

 

مرحلة‭ ‬التوثيق‭ ‬المرئي

يرصد فؤاد دباس حركة التصوير الفوتوغرافي منذ أن استنبط الفرنسي لويس داغير آلة التصوير الشمسي المسماة بـ«داغيرو تيب» وطوّر مواطنه نويل لوروبور هذه الآلة، وصنع منها عدداً ثم وضعها في عهدة المسافرين عام 1839، طالباً منهم التقاط صور عن البلدان التي يمرون فيها بغية نشر ألبوم مصوّر عن مدن العالم، كاشفاً عن طبيعة التنظيم المدني لبيروت في تلك الفترة الزمنية، راسماً خطاً بيانياً لتطور فن العمارة وكيفية تغيّر وتحوّل هندسة البناء العربي. ويحدد دباس أول رحلتين سلكتا طريق الشرق القديم سنة 1839 بقيادة هوراس فيرنيه وتلميذه غوبيل فيسكيه (1817 – 1878)، والثانية بقيادة بيار جولي دولوبينير. والتقط فيسكه أول صورة في بيروت لمئذنة جامع السراي التي تتوسط مشهدا عاماً للمدينة، وذلك في 30 يناير 1840. كانت تلك الصورة بمنزلة البداية لمرحلة التوثيق المرئي لبيروت بواسطة الفوتوغرافيا. ومع مرور ما يقارب المئة وعشرين عاماً على التقاط صورة فيسكه، لا تزال تظهر بين الحين والآخر صورة مجهولة أو غير معروفة لمدينة بيروت التقطت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وأصبحت مدينة الذاكرات المتراكمة، أو طبقات من الذاكرة، يضيع المرء في تفكيكها وتفنيدها، من عام 1840 بدأت بيروت بالتحول إلى مركز تجاري ومالي، وموقع المدينة الجغرافي، لكونها أفضل مرفأ في لبنان أو ما يسميه بدر الحاج «الساحل السوري»، جعلها في المرتبة الأولى من حيث إنتاج الصورة الشمسية ومركزا دائما لأبرز المصورين الفوتوغرافيين العاملين في المشرق... وبذلك تفوقت على مدينة القدس رغم كون هذه الأخيرة ذات أهمية تاريخية ودينية تفوق بكثير مدينة بيروت.

 في عام 1844 وصل إلى جبل لبنان فيليبير جيرو دو برانجي الخبير في الهندسة المعمارية والتقط صوراً كثيرة للآثار والمباني. وأخذ صورة كبيرة لبيروت من الباخرة. كما التقط لويس دوكلير صورة كبيرة لبيروت تمثل بانوراما شاملة من سطح «راهبات المحبة» تظهر فيها المدينة من جهة البحر، جهة الجنائن، جهة البلد. وهي من أهم الصور التي التُقطت لبيروت قبل عام 1860. وازداد عدد المصورين نتيجة دخول الجيش الفرنسي إلى بيروت بسبب أحداث عام 1860 يرافقه عدد كبير من المصوّرين والصحافيين أمثال إدوار لوكروا، جان جورج هوشيت، وبعض أعضاء الحملة مثل نودوشانلوي ستوكلي، ساكرست، وبعض المسافرين، مثل راوول دوسان سين، واغتنموا فرصة وجودهم في لبنان لالتقاط الصور. وهناك المصور دوسان سين الذي التقط صوراً لساحة رياض الصلح وللمقاهي المتناثرة على نهر بيروت، وللمرفأ حيث ترسو البواخر. وفي عام 1864 ظهر المصور وليام هامرشميت الذي جاء إلى لبنان والتقط بانوراما لبيروت، وكذلك بت فورد الذي جاء مع أمير ويلز إدوارد السابع. ومن الصور التي نسبت إلى مجموعة دباس، صورة للقسم الشرقي من بيروت وبدت فيها المحكمة الهمايونية ومطبعة الإرسالية الإنجيلية الأميركية والصورة من تصوير جورج صابونجي عام 1885. وهناك صور محطة سكة الحديد التي أنشئت عام 1986، وواحدة لساحة وشارع السراي والجانب الغربي للمدينة، وبدا فيها برج الساعة الحميدية الذي بني على تل القشلة (السراي) وهي من تصوير الأخوين صرّافيان عام 1902.

ويروي دباس في كتابه «مصوّرون فوتوغرافيون في بيروت» أنه افتتح أول استديو في بيروت عام 1845 لصاحبه الفرنسي تيودور ليوف، وخلفه ابنه أونوريه، ثم الإيطالي - الفرنسي تانكراد دوما الذي افتتح محترفاً كبيراً لبيع الألبومات وللتصوير... إلخ، ثم توالت البعثات العلمية إلى بيروت، ونقل المصورون التحول الذي شهدته المدينة، لا سيما مع قيام أسواق وأبنية وطرقات. ومع افتتاح الجامعتين الأميركية واليسوعية في بيروت عامي 1866 و1875 بدأ المصورون يعدون ألبومات صور تعرض للبيع. وعام 1868 قدم إلى لبنان المصوّر فيلكس بونفيس وكان له الأثر الكبير في تطوير التصوير الفوتوغرافي في لبنان. وواصلت ليدي كابانيس بونفيس العمل في الاستديو في بيروت، وتعتبر من أهم النساء اللواتي احترفن التصوير الفوتوغرافي. وبعد وفاة بونفيس تابع العمل في الاستديو أدريان بونفيس الابن، وعمل معه بعض المصورين أمثال رمبو، قيصر حكيم، وآل صابونجي.

 

ولادة‭ ‬بيروت‭ ‬‮«‬الثانية‮»‬

ومن دون شك ترافق التصوير في بيروت مع تحول المدينة وانفتاحها، فهي كانت من أصغر المدن الساحلية، وكتب شارل أوبريف «أصبحت بيروت، بفضل السفن البخارية، مدينة سيؤمها السياح عما قريب، طلبًا لربيع دائم في سفوح لبنان، وذلك على غرار الذين كانوا يؤمون جنوبي فرنسا... فالرحلة البحرية سهلة نسبيًّا... وتستغرق ثمانية أيام، والخدمة ممتازة». كان مرفأ بيروت متواضعًا بسيطًا كما تكشف عنه الصور الملتقطة له. غير أن تطورًا كبيرًا حدث له عقب توسعته على يد الشركة الإمبراطورية العثمانية؛ فبات مرفأً حديثًا امتد في البحر بفضل إنشاء رصيف بحري طوله ثمانمائة متر شبه موازٍ للشاطئ، مما يسمح ببلوغ أعماق كبيرة. وبحسب الكاتب والصحافي سمير قصير شهدت بيروت «ولادتها الثانية» في القرن التاسع عشر، حين انفتحت على العالم، وشاءت المصادفات أن يختارها إبراهيم باشا. من هذه اللحظة يبدأ افتتان قصير بالمدينة، بكل وجوهها: هي المنفتحة على الغرب، وفي الآن نفسه، العربية بامتياز. وحرص إبراهيم باشا والأوروبيون على الحدّ من انتشار الأوبئة، ما أثار ضرورة إنشاء مبنى للحجر الصحي. فأصبحت المرفأ الذي رست عنده البواخر، والمرفأ الذي استورد وصدّر، ما اضطر الدولة العثمانية إلى بناء مرفأ جديد، وامتدّت المدينة خارج أسوارها القديمة، وازدهرت تجارتها، وتحوّلت بيروت إلى عاصمة اقتصادية إلى جانب كونها مركزاً تجارياً. وأُنشئت في تلك الفترة شركة كهرباء بيروت، وأضيئت المدينة في 1874! وأسّست في حينها شركة مياه بيروت، والبلدية التي عملت على تبليط الأرصفة والإنارة وتنظيم حركة السير والترامواي. كذلك بُنيت خلال تلك الفترة المخافر والمباني الحكومية والحدائق التي لم يبق منها إلا حديقة الصنائع.

وبني أول فندق عند المرفأ في عام 1849، على يد الفندقي الشهير باتيستا، وقبالة الفندق، على الأرض المستحدثة من جراء ردم المرفأ القديم، أزيلت قلعة بيروت البحرية التي لم يبق منها إلا الصور. وافتتحت محال أوروزدي باك الكبيرة فرعها في بيروت في سبتمبر عام 1900، لمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لوصول السلطان عبدالمجيد الثاني إلى الحكم، فكان أجمل فرع لهذه المحال في المشرق. كان الباب العالي يجري إصلاحات مدنية جذرية. هكذا، أُطلقت مشاريع تجميلية على نطاق واسع دمّرت قسمًا من المدينة القديمة بين عامي 1870 و1900. وظهرت أماكن عامة، كالحدائق ونوافير المياه ومحطّة القطار... إلخ. حوّلت هذه الأماكن بيروت إلى «واجهة» السلطنة العثمانية، وأدّت إلى بروز نمط جديد من الألفة المدنية. 

وحظيت بيروت بتصميمات للمعماري الفرنسي غوستاف إيفيل عام 1893، كان منها رصيف بحري ومحطة استقبال الركاب في المرفأ ومستودعات الجمارك. وشهــدت بيروت عمليات هدم متتالية سواء لشق شوارع واسعة أو لخطوط سير الترامواي، على أن بيروت خرجت من أسوارها في عام 1830، ما جعل الفنادق تنتقل غرباً عند واجهة البحر.

 

أسواق‭ ‬بيروت‭ ‬القديمة

 ولا يمكننا أن نرى بيروت القديمة أو العثمانية إلا عبر الصور الاستشراقية والبطاقات البريدية. وتتسم بجمالية تكشف عن خصائص الزمن في حقبة مهمة من تاريخ الشرق، وتطوف بنا الصور في عدد من الأحياء البيروتية العريقة، ومنها: حي الصنائع، وقصر فرعون، الذي بناه روفائيل فرعون عام 1892، ومن ثم جمع فيه حفيده هنري واحدة من أجمل المجموعات الخاصة من الأثريات والتحف الإسلامية والصينية، وكذلك مجموعة سجاد شرقي. وتوثق البطاقات البريدية التغيرات التي طرأت على الأمكنة وتسجل الحركة الكثيفة للسفن والبواخر في مرفأ بيروت، فضلاً عن الأرصفة والركاب والبضائع. وتظهر معالم كثيرة، مثل: جامع المجيدية وخان أنطوان بك على ميناء الخشب وميناء القمح عام 1905، وحفل تدشين محطة المرفأ، وعدد من البانورامات المأخوذة من الأسطح العالية للفنادق والجوامع والكنائس، مثل بانوراما سوق البازركان المأخوذة من مئذنة الجامع الكبير، وبانوراما الجهة الغربية للأسواق المأخوذة من برج ساعة الكنيسة الأمريكية. كما تظهر الصور عدداً من أسواق المدينة القديمة، مثل سوق مار جرجس 1930، وسوق الفشخة عند سوق سرسق الذي تظهر فيه جميزة السرايا الشهيرة 1905، وسوق الجميل 1910، وسوق البرتقال وسوق الخوخ وخان فخري بك 1905. أيضاً نرى صورة يظهر فيها الوفد البطريركي الماروني عائداً من أوربا 1905، والحديقة العامة لساحة البرج، وكاتدرائية مار جرجس للموارنة، وساحة عالسّور وسبيلها الحميدي 1900، وحي الزيتونة وشارع البطريرك حويّك... وتختصر صور فؤاد دباس وتسجل المناسبات التاريخية التي مرت بها لبنان، مثل: زيارة القيصر غليوم الثاني إلى بيروت 1898، وثورة عام 1908، ودخول جيوش الحلفاء إلى بيروت، وإعلان دولة لبنان الكبير.

ورصدت عدسات المصورين الأوائل أيضاً المهن البيروتية التي اشتهرت في تلك الفترة، مثل: بائعي شراب السوس الجوّالين في الصيف، والفخّارين في أثناء عملهم، والغزّالين الذين يغزلون في الهواء الطلق، والدبّاغين وبائعي الروزنامات والخبز والإسكافة... والبدويّة بائعة السليقة البرية، الدرويش المتسوّل بشعره الطويل الأجعد، السيدة البيروتية المتزينة بالحلي والجواهر الكثيرة في العنق والأذنين، الحلاق وزبونه الغريب الأطوار الذي يشرب من كأس كبيرة وهو حافي القدمين، وباعة الكعك والباذنجان، كلّها صور لأناس حقيقيين عاشوا في تلك الحقبة 1880، يبدون اليوم في نظر اللبنانيين، في دائرة الانقراض أو من المهن التي ذابت في التحولات وأصبحت تثير الاستهجان.

 جوهر كتاب فؤاد دباس هو الذاكرة، ويجاريه بدر الحاج ويقدم رؤية لواقع الإنتاج الفوتوغرافي في تلك الفترة، مفنّداً محتواه، وبنيته، كما يلقي الضوء على ارتباط ذلك الإنتاج بـ«الرؤية الاستشراقية» للبنان والشرق، أما خالد تدمري فيسأل: هل يعلم أبناء بيروت أن غالبية المباني التراثية الكبرى التي تزين مدينتهم ترجع إلى الحقبة العثمانية لا الفرنسية؟.