غوستاف لوبون وكتابه: «السُنَن النفسية لتطوّر الأمم»

غوستاف لوبون وكتابه: «السُنَن النفسية لتطوّر الأمم»

قد‭ ‬تكون‭ ‬المصادفة‭ ‬وحدَها‭ ‬قادتني‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬كتاب‭ ‬الدكتور‭ ‬غوستاف‭ ‬لوبون‭: ‬االسُنَن‭ ‬النفسية‭ ‬لتطور‭  ‬الأممب‭ ‬الذي‭ ‬نُشر‭ ‬عام‭ ‬1894‭ ‬وأعيدت‭ ‬طباعته‭ ‬خلال‭ ‬العشرين‭ ‬سنة‭ ‬التي‭ ‬تلت‭ ‬صدوره‭ ‬اثنتي‭ ‬عشرة‭ ‬مرّة‭.‬

كتاب‭ ‬عالم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الدكتور‭  ‬لوبون‭ ‬الذي‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬بطبعته‭ ‬العربية‭(‬‭*‬‭)‬،‭ ‬بحث‭ ‬في‭ ‬صفات‭ ‬العروق‭ ‬النفسية‭ ‬وتغيّر‭ ‬أخلاقها‭ ‬ومراتبها‭ ‬وفي‭ ‬اختلاف‭ ‬الأفراد‭ ‬وتفاوت‭ ‬العروق‭. ‬كما‭ ‬يتناول‭ ‬العروق‭ ‬التاريخية،‭ ‬مؤكداً‭  ‬أن‭ ‬عناصر‭ ‬الحضارة‭ ‬مظهر‭ ‬خارجي‭ ‬لروح‭ ‬الأمة،‭ ‬إلى‭ ‬الإحاطة‭ ‬بتأثير‭  ‬المبادئ‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الأمم‭ ‬وتأثير‭  ‬الديانات‭ ‬في‭ ‬تطور‭  ‬الحضارات،‭ ‬وزوال‭ ‬الحضارات‭ ‬وموت‭ ‬الآلهة‭ ‬والعظماء‭.‬

قسّم لوبون كتابه إلى خمسة أبواب، كلّ منها فصول. غير أن أفضل هذه الأبواب ما يحمل الرقم «4» بعنوان: «كيف تتغيّر أخلاق العروق النفسية»؟ وفيه فصْلان.

في الفصل الأول «شأن الأفكار في حياة الأمم» إحاطة بالأفكار (أو المبادئ) المكوِّنة للحضارات، وارتباط هذه المبادئ بالحضارات نفسها. فتاريخ الأمم يرتكز على الأخلاق النفسية للعروق، حيث تتحوّل هذه الأخلاق (التي تعرف بالعناصر) مع الزمن إلى تراكمات وراثية بطيئة، شبيهة بالعناصر التشريحية للأنواع، حيث تشهد بهذه التحوّلات تطوُّر الحضارات النامي، المستمر، كما أن العوامل في تغيّرات نفسية تتنوّع تبعاً للاحتياجات والمنافسة الحيوية للبيئات وتقدم العلوم والفنون والتربية والمعتقدات. وفي الدراسات تبيّن أن الحضارات أُرفدت منذ نشوئها بمبادئ أساسية، وأن تاريخ الأمم قصير جداً إذا ما قورن بمبادئ الأمم نفسها. وحين يتيسّر لحضارة ما في قرن واحد إحداث مبدأين أو ثلاثة أساسية موجّهة في ميادين الفنون والعلوم والآداب والفلسفة، أمكن اعتبارها ذات نضارة استثنائية، وليس للمبادئ أيّ عمل فعّال في روح الأمم إلاّ إذا اقترنت بنضج بطيء في مناطق الفكر المتحوّلة إلى أخرى «لا تنبُّهيّة» بعيدة عن المشاعر، حيث تنضج عوامل سِيَرنا فتولّد تلك المبادئ عناصر أخلاق، وتؤثّر على الأخلاق والسيرورة التي «تتكوّن من بعض الوجوه من تنضُّر المبادئ اللاشاعرة». 

وحيث تنضج المبادئ بطيئة، يعظم سلطانها فلا يبقى للعقل سلطان عليها. ولا يؤثر في المؤمن (لا فرق هل إيمانه ديني أو عقائدي) أيّ معقول مهما كان الذكاء الذي يفترض له. وكل ما يمكن أن يحاول هذا المؤمن (وغالباً لا يحاول) هو إدخاله «بحيَل فكريّة وتشويهات كبيرة في الغالب المبدأ الذي يعارض به إلى منطقة المبادئ المسيطرة عليه». وإذا تأكّد أن المبادئ لا تؤثر إلا بعد هبوطها من دوائر الشعور إلى دوائر اللاشعور، فإنه من المستنتج أنها لا تتحوّل إلا ببطء ملحوظ، وأنّ المبادئ الموجّهة للحضارة قليلة جداً. كما نلاحظ أن الجديدة منها تنحلّ مع الوقت، وإذا كانت القديمة ثابتة تماماً، لم تحقق الحضارات أي تقدّم. ولاعتبار أن تحوّلاتنا النفسية بطيئة يقتضي مرور أجيال لتطفئ المبادئ الجديدة وكذلك أجيال لتزول هذه المبادئ. و«أشدّ الأمم تمدّناً هي التي تجلّت فيها الأفكار الناظمة على مقياس واحد من التحوّل والثبات، والتاريخ حافل ببقايا الأمم التي لم تقدرْ على حفظ هذا التوازن».

قامت القرون الوسطى على مبدأيْن أساسيّين: الديني والإقطاعي وعنهما صدرت فنون تلك القرون وآدابها. وبحلول عصر النهضة، طرأ تغيير على المبدأين، ففرض المثل الأعلى للعالم الإغريقي اللاتيني سلطانه على أوربا، وجرى تحوُّل في الفنون والآداب والفلسفة وتزعزعت هيبة التقاليد فبرزت الحقائق العلميّة مكان الحقيقة المنزّلة تدريجاً، وشرعت الحضارة في التحوُّل من جديد.

و«اليوم يظهرُ أن المبادئ الدينية القديمة فقدت شيئاً من سلطانها، فصارت تلوح بوادر انهيار النظم الاجتماعية التي تستند إليها».

تنتشر معظم المبادئ على نمط واحد في جميع الأوقات. سواء أكانَ المبدأ علمياً أم فنياً أم فلسفياً أم دينياً. ويجب للمبدأ أول الأمر، اعتناق قليل من الرسل له، فينالون نفوذاً عظيماً لشدة إيمانهم أو مكانتهم. ويؤثرون بالتلقين أكثر مما بالبرهان. ويجب ألا يبحث في قيمة  البرهان عن عناصر الإقناع الجوهرية. والمخاطِب (بكَسْر الطاء) يفرض أفكاره بنفوذه الشخصي، أو بإثارة الأهواء. ولا يمارس أيّ نفوذ بمخاطبته العقل وحده. و«الجماعات لا تقنع بالأدلّة أبداً، بل بضروب التوكيد، ويتوقّف سلطان هذا التوكيد على نفوذ الشخص الذي يصدر عنه».

وحين يَُوفَّق الرُّسل في إقناع بعض الأتباع، يدخل المبدأ منطقة الجدل فيثير أول الأمر من الناس اعترافاً يصطدم بهؤلاء الأتباع الذين يدافعون عن المبدأ الجديد بحماسة ليست وليدة تفهُّم، بل اعتناق. وتشتدّ المناظرات فينمو المبدأ تدريجاً بالمجادلات المحتدمة، ويميل الناشئون الذين يجدونه مناقشاً إلى اعتناقه، لأنّهم ولِعون بالاستقلالية والتمرّد ومعارضة كل ما اتفق عليه الناس أو اتّبعوه.

 

إمبراطورية‭ ‬عظيمة

والمبدأ النامي يستغني عن مروّجين ودُعاة، وينتشر بفعل التقليد كالعدوى، لأن التقليد «ملكة يتصّف بها الناس إلى أبعد درجة على العموم، كما تتصّف بها القردة الكبيرة التي يذهب العلم الحديث إلى أنها أجداد الناس». وبانتشاره يكتسب المبدأ قوّة نفّاذة دقيقة محدثاً «جوّاً» خاصاً، ونمطاً عاماً للتفكير، فيصير بنتائجه جزءاً من الموروثات الكثيفة التي تفرضها التربية علينا. وينقسم المبدأ إلى قسمين: أولهما يختص بالفنون والفلسفة فيلازم طبقات الشعب العليا. وثانيهما يختصّ بالأفكار الدينية والسياسية فيهبط إلى أعماق الجماعات، حيث يصل مشوّهاً فيمارس حينئذ سلطاناً «على النفوس الساذجة، العاجزة عن المناظرة، ويمثّل أموراً تنتشر نتائجها بقوة السيل الذي لا سبيل إلى ردّه بسدّ. ومن السهل أن نجد في الأمّة، دائماً، مائة ألف رجل مستعدّين للتضحية بأنفسهم دفاعاً عن مبدأ إذا ما تمكّن هذا المبدأ منهم. وتظهر عندئذ تلك الحوادث العظيمة التي تقلب التاريخ، والتي لا يقدر على إنجازها غير الجماعات». ويرى المؤلف أنه «بفضل البضاعة المزجاة نظرياً والقوية عملياً» استطاع بدويو صحارى جزيرة العرب أن يفتحوا قسماً من العالم اليونانيّ الرومانيّ القديم، وأن يشيّدوا إمبراطورية من أعظم الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ.

وللعقيدة القوية منعة لا تكافحها إلا عقيدة مماثلة. فالعرب - كما يلفت المؤّلف - في فتوحهم الأولى التي هي أصعب الفتوح وأهمها على الدوام، لاقوا أعداء ضعفاء من الناحية الأدبية بالرغم مما كان عليه هؤلاء الأعداء من تنظيم عسكريّ قويّ، محكم.

ولم يجد العرب في سورية، التي كانت أول بلد حملوا إليه سلاحهم، غير جيوش بيزنطية مؤلّفة من مرتزقة قليلي الاستعداد للتضحية بأنفسهم، فشُتتوا «بسهولة كالتي شتّت فيها في ما مضى، لفيف من الأغارقة الذين كان يمسكهم حبّ المدينة جنود سرخس الكثيرين إلى الغاية». وفي الدّين، كما في السياسة، يكون النّصر
(وفق تعبير المؤلف) دائماً للمؤمنين. وإذا تحوّل المبدأ عند المؤمن إلى مشاعر، وتالياً إلى عقيدة، ترسّخ طويلاً، وذهبت جهود كل عمل يأتيه العقل، هباء. واكتسب شكلاً نهائياً بالتعديل والتحسّس والتشويه والمناقشة والدعاية، وأصبح جزءاً من المعتقدات العامة التي يقوم عليها كيان الأمة. وباكتسابه صفة الشمولية وجَب إعطاؤه دوراً مهماً، ولم تكن أدوار التاريخ الكبرى، كعصر أغسطس ولويس الرابع عشر إلا استقراراً للمبادئ وهيمنة على أفكار الناس بعد خروجها من دورين مهمّين: التجسّس والجدل. من هنا، يبحث الإنسان المعاصر عن المبادئ التي تصلح لحالة اجتماعية مقبلة بالرغم مما يحيط بها من خطر خلاصته أنّ تحوّلات المبادئ الأساسية هي العناصر المهمّة في تاريخ الأمم والقادرة على تغيير مصيرها، «لا الثورات والحروب التي تمحو ما تؤدي إليه من تخريب سريع، وتلك التحوّلات لا تتمّ من غير أن يؤدي ذلك إلى تحوّل جميع عناصر الحضارة دفعة واحدة، فالثورات الحقيقية، وهي أخطر الثورات على حياة الأمة، هي التي تحدث في أفكارها».

في الفصل الثاني يعالج غوستاف لوبون موضوع المعتقدات الدينية في تطوّر الحضارات, مبيناً أن المعتقدات الدينية هي أهم عنصر في حياة الأمم، وفي تاريخها، وكان ظهور الآلهة وموتها أعظم الحوادث التاريخية، وتولد مع كل مبدأ دينيّ حضارة جديدة، لافتاً إلى أن جميع النظم السياسية والاجتماعية منذ بدء الأزمنة التاريخية قائمة على معتقدات دينية: «ولك أن تبيّن حال أمّة نوّمتها أوهامها من خلال فتوح العرب والحروب الصليبية وإسبانيا في زمن محاكم التفتيش وإنجلترا في الدور البيوريتاني وفرنسا في ملحمة سان بارتلمي وحروب الثورة الفرنسية.

فللأوهام تأثير دائم يبلغ من الشدّة ما يتحوّل به كل مزاج نفسي تحولاً عميقاً، ولا مراء في أنّ الإنسان هو الذي يخلق آلهته، ولكن إذا ما خلَقها استعبدته من فوره».

فالآلهة ليست وليدة الخوف كما زعم لوكريس، بل هي وليدة الأمل، ولذلك لها النفوذ الأبديّ الفعّال. غير أن الذي أنعمَت به الآلهة على الإنسان حتى اليوم، هي الحال النفسية التي تشتمل على السعادة، حيث قلّما نجد فلسفة - مهما علا شأنها - حقّقت هذا العمل.

وقد مثلت الروح الدينية دوراً سياسياً مهماً في حياة الأمم، وذلك لأنها كانت العامل الوحيد القادر على التأثير في أخلاقها بسرعة. ولاعتبار أن الآلهة ليست خالدة، فإن الروح الدينية باقية. وإذا كانت تغفو لفترة معيّنة، فإنها تصحو عند ابتداع ألوهية جديدة، و«الروح الدينية هي التي استطاعت أن تقف بها فرنسا منذ قرن ظافرة أمام أوربا المدجّجة بالسلاح، وبذلك رأى العالم مرة أخرى ما تقدر عليه الروح الدينية».

 

معتقدات‭ ‬الأمة

كما يرى لوبون أن تاريخ الأمم السياسي والفني والأدبي وليد معتقداتها، غير أن المعتقدات مع تأثيرها في الأخلاق تتأثر بدورها بالأخلاق تأثراً شديداً».

وأقلّ تغيير في معتقدات الأمة يقود إلى سلسلة من التطورات في حياتها وفقاً للضرورة.

ما يؤكّد ذلك الاختلاف بين رجال القرنين الثامن عشر والسابع عشر في فرنسا، ويتجسّد في انتقال النّفس من اللاهوت إلى العِلْم، وفي معارضة التقاليد بالعقل والحقيقة المنزلة بالحقيقة المشاهدة، وفي تحوّل رؤية العصر إلى أمور خلّفها هذا التغير.

وإذا كان المجتمع الحالي يهتزّ فوق ركائزه وترتجف أنظمته عميقاً، فلأنه يخسر تدريجاً ما اتكأ عليه من معتقدات قديمة. وحين يفتقد هذه المعتقدات يستقبل حضارة جديدة قائمة على إيمان جديد. و«ممّا يدلّ عليه التاريخ أن الأمم لا تعيش طويلاً بعد تواري آلهتها، وأنّ الحضارات التي قامت بفعل هذه الآلهة تموت معها، فلا شيء أشدّ تخريباً من عَفْر الآلهة الميّتة».

يزاوج لوبون في كتابه (لاسيّما الباب الذي نحن في صدده) بين الاجتماعي والنفساني ليضع بحثاً قيّما في سوسيولوجيا الانتحار الجماعي، تاركاً بصمات واضحة على نتاج علماء الاجتماع والنفس الأوربيين، لاسيّما دوركهايم في كتابه «الانتحار» 1952، والدكتور جوزف تيشر الذي له كتاب بهذا الاسم (1964)، كما جاءت الترجمة العربية الرائعة التي وضعها المترجم عادل زعيتر لتفي بالغرض الأهم وهو تعريف القارئ العربي بالمفكّر الاجتماعي لوبون وإلقاء الضوء على بعض فكره وآرائه >

‭(*)‬‭ ‬ترجمة‭ ‬عادل‭ ‬زعيتر‭ ‬197‭ ‬صفحة‭ ‬من‭ ‬الحجم‭ ‬الكبير،‭ ‬ط‭ ‬بعة‭ ‬1957م،‭ ‬منشورات‭ ‬المعارف‭ ‬بمصر‭.‬