أمراء الشعر وبكواتُه

أمراء الشعر وبكواتُه

سألت الدكتور جابر عصفور مرة عن رأيه في الشعراء الذين قامت هنا وهناك في البلاد العربية حفلات بايعهم فيها القوم بإمارة الشعر بعد رحيل شوقي، مثل عباس محمود العقاد في مصر والأخطل الصغير في لبنان، دون أن ننسى حفلة لم تُقَم دعا إليها الناقد الدكتور لويس عوض لمبايعة الشاعر المصري صلاح عبدالصبور «أمير شعراء زمانه» بتعبير عوض.

فكان ردّ الدكتور عصفور أن هؤلاء الشعراء «بكوات»، في حين أن شوقي كان أميراً بالفعل.

وعندي أن كلمة الناقد المصري الكبير في محلها. فالحفل الذي أقيم في حديقة الأزبكية بالقاهرة لمبايعة العقاد، وكذلك الحفل الذي أقيم بقصر الأونسكو في بيروت لمبايعة الأخطل الصغير، ينبغي النظر إليهما على أنهما حفلان تكريميان لا أكثر. أما وصف لويس عوض لصلاح عبدالصبور بأنه «أمير شعراء زمانه»، فينبغي وضعه في باب الألفة والأُلاّف، بتعبير ابن حزم الأندلسي، أو في باب المودّات التي كانت تشدّه إلى صلاح، لا في باب الأحكام النقدية الصارمة، لأن صلاح في واقع أمره كان واحداً في جملة شعراء ينتمون إلى طبقة واحدة لا هو يتقدم عليهم ولا هم يتقدمون عليه.

هذا إن لم نقل إن زمان عبدالصبور قد تفتّق عن شعراء أهم منه بكثير، مثل نزار قباني أو بدر شاكر السياب. وأياً كان الأمر فإن عبارة «البكوات» في محلها تماماً، إذ من الجور على تاريخ الأدب العربي المعاصر اعتبار مَن جرى اختيارهم للإمارة بعد شوقي، أو من جرى التفكير فيهم لهذه الإمارة، في منزلة شوقي. فشوقي رغم كل الحملات القاسية التي تعرض لها في حياته على يد جماعة الديوان، وبعد رحيله، ظل أعلى كوكب سطع في سماء الشعر العربي في القرن العشرين. لم تنل هذه الحملات من مكانته تماماً، كما لم تنل الإبانة عن سرقات المتنبي أو عن نقاط ضعفه من مكانة المتنبي كشاعر بسط جناحيه على تاريخ الشعر العربي القديم كله. ولم يبالغ الذين جمعوا بينهما عندما درسوهما معاً فقالوا: «المتنبي وشوقي»!

ثمة إذن أميران أفرغهما تاريخ الشعر العربي على مدار عصوره: الأول في القديم، والثاني في الحديث. والباقون بكوات. ولكن البكوية لا تنطبق على جميع الشعراء، فهناك «أفندية»، وهناك غواة محبّون للشعر، راغبون في عقد صلة نسب معه، يعقدون مثل هذه الصلة حيناً ولا يوفقون حيناً آخر. وعلينا ألا نستهين أبداً بالبكوية، فهي ليست رتبة سهلة، وكثيراً ما تطلّب الحصول عليها «امتحانات» لا «حفلات»، ومن هؤلاء الممتحنين التاريخ والزمن والنُخب والجمهور العريض والغواة، وكان هؤلاء الأخيرون بالذات ذوي رأي مسموع يُحسب له حساب في التقييم والتصنيف. وغيابهم في زماننا الحالي من الأدلة القاطعة على أن الشعر ليس في أحسن أحواله.