على هامش الذكرى الخمسين للنكسة العربية يونيو 1967

على هامش الذكرى الخمسين  للنكسة العربية يونيو 1967

في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الشهر،‭ ‬يونيو‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1967م،‭ ‬تمكن‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬من‭ ‬احتلال‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الأراضي‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬فلسطين،‭ ‬ومدّ‭ ‬نفوذه‭ ‬إلى‭ ‬صحراء‭ ‬سيناء‭ ‬المصرية‭ ‬وهضبة‭ ‬الجولان‭ ‬السورية‭. ‬وصارت‭ ‬الأراضي‭ ‬الخاضعة‭ ‬لسلطة‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬89.359‭ ‬كم2،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬20.700‭ ‬كم 2،‭ ‬حيث‭ ‬تبين‭ ‬جليا‭ ‬بأنّ‭ ‬المعسكرين‭ ‬الشرقي‭ ‬والغربي،‭ ‬وهما‭ ‬أكبر‭ ‬قوتين‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬قد‭ ‬تآمرا‭ ‬على‭ ‬العرب،‭ ‬فأمدا‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭ ‬بكل‭ ‬وسائل‭ ‬القوة،‭ ‬عسكرياً‭ ‬واستخباراتياً‭ ‬ودبلوماسياً،‭ ‬لدرجة‭ ‬أصبح‭ ‬فيها‭ ‬الأمين‭ ‬العام‭ ‬لهيئة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬آنذاك‭ ‬يو‭ ‬ثانت‭ ‬U Thant‭ ‬مُخبراً‭ ‬لمصلحة‭ ‬إرادة‭ ‬الدول‭ ‬العظمى‭.‬

 كان يوثانت ينقل لهم ما يدور بين كواليس الحوار، ويطلب من القادة العرب بإصرار ألا يبدأوا بالتحرك العسكري الذي وصفه بالاعتداء، واضعاً المواثيق الدولية أساساً لحجته، فجاءت الضربة والاعتداء وخرق المواثيق الدولية من العدو الصهيوني، ولم تحرّك الأمم المتحدة حينها ساكناً.

 

من‭ ‬النصر‭ ‬إلى‭ ‬الهزيمة‭ ‬في‭ ‬ستة‭ ‬أيام

في ستة أيام كانت الحرب، ثم انتهت، بخسارة العرب، آمالهم وأحلامهم وأبناءهم وأموالهم. في ستة أيام عرفت الجماهير العربية أنها خُدعت وضُللت من القيادة العربية العسكرية، التي استخدمت سلاح الإعلام في تخدير الشعوب العربية. «صوت العرب من القاهرة» يعلن البيان تلو الآخر بانتصار الجيوش العربية، وبأنها حاصرت تل أبيب، وهي تنتظر الأوامر للإطاحة بعاصمة دولة العدو. وبيانات أخرى كاذبة تؤكد إسقاط العشرات من طائرات العدو، لتعم فرحة النصر المقاهي والأزقة والمساكن، تلك التي اجتمع ناسها حول المذياع لمتابعة مجريات وهم النصر العظيم. يومها كنت صبياً، أجلس مع أبناء جيراني مجتمعين حول مذياع صاحب البقالة «عوض»، وكان من جنوب اليمن. لم نعرف لعوض صفة الكَرَم، رغم أنه كان مؤدباً وتقياً، ولكنه في ذلك الصباح كان يوزع علينا المرطبات والسكاكر كلما تم الإعلان عن سقوط عشر طائرات من سلاح جو العدو. إنها فرحة الإنسان العربي البسيط، الذي كان يأمل أن تعود أرض فلسطين إلى أهلها. مواطن يمني يعمل في الكويت، تغرب عن أهله ووطنه من أجل لقمة العيش الكريمة، يفرّق علينا بكل فرحة وسرور ما كان يحتاج إلى قيمته، ومن لقمة عياله! كان البيان الأخير من «صوت العرب من القاهرة» صاعقة على رأس كل عربي، لم نفهم نحن المنتصرين كيف هُزمنا؟! لماذا انسحبت الجيوش العربية؟ لا أحد يدري! لتبدأ بعد ذلك الإشاعات والتبريرات والتحليلات، في الصحف والمجلات والإذاعات، تتوالى حتى ضاع المتابع العربي ولم يعرف سبب الهزيمة. تنحى جمال عبدالناصر عن رئاسة مصر، (الجمهورية العربية المتحدة)، وكان هذا تصرفاً سياسياً حكيماً، لكل متخذ قرار فشل في قراره. إلا أن حشوداً شعبية خرجت في الشارع المصري، وبعض شوارع الدول العربية، تطالب عبدالناصر بالعودة إلى منصبه وإكمال مسيرة الكفاح. نزل عبدالناصر عند رغبة الشعب، ولم يمهله القدر في تحقيق آماله وأحلامه، فتوفاه الله في سبتمبر 1970 عن عمر يناهز الثانية والخمسين عاماً، فنعته جميع الدول العربية.

 

خمسون‭ ‬عاماً‭ ‬من‭ ‬التضليل

خمسون عاما مضت على النكسة، خمسون عاماً نجلد فيها الذات العربية بسبب الهزيمة، وكلما ذكرناها حَزِنا. لم يكن حُزْناً بسبب الهزيمة وحسب، بل من الخيانة والتضليل. وكما أصيبت روح القومية العربية بالاكتئاب، أصيبت أقلام المثقفين بالكسل واللامبالاة. أما الشعراء فزفروا هَمّاً خالجه حشرجات من يحتضر، كقول نزار قباني: 

حربُ‭ ‬حُزيرانَ‭ ‬انتهتْ

فكلُّ‭ ‬حربٍ‭ ‬بعدَها،‭ ‬ونحنُ‭ ‬طيّبونْ

أخبارُنا‭ ‬جيّدةٌ

وحالُنا‭ - ‬والحمدُ‭ ‬للهِ‭ - ‬على‭ ‬أحسنِ‭ ‬ما‭ ‬يكونْ

جمرُ‭ ‬النراجيلِ،‭ ‬على‭ ‬أحسنِ‭ ‬ما‭ ‬يكونْ

وطاولاتُ‭ ‬الزّهرِ‭ .. ‬ما‭ ‬زالتْ

على‭ ‬أحسنِ‭ ‬ما‭ ‬يكونْ

والقمرُ‭ ‬المزروعُ‭ ‬في‭ ‬سمائِنا

مدَوَّرُ‭ ‬الوجهِ‭ ‬على‭ ‬أحسنِ‭ ‬ما‭ ‬يكونْ

وصوتُ‭ ‬فيروزَ

من‭ ‬الفردوسِ‭ ‬يأتي

‮«‬نحنُ‭ ‬راجعونْ‮»‬

تغَلْغَلَ‭ ‬اليهودُ‭ ‬في‭ ‬ثيابِنا

ونحنُ‭ ‬راجِعونْ

صاروا‭ ‬على‭ ‬مِترَينْ‭ ‬من‭ ‬أبوابِنا

ونحنُ‭ ‬راجِعونْ

ناموا‭ ‬على‭ ‬فراشِنا

ونحنُ‭ ‬راجِعونْ

وكلُّ‭ ‬ما‭ ‬نملكُ‭ ‬أن‭ ‬نقولَهُ

‮«‬إنا‭ ‬إلى‭ ‬اللهِ‭ ‬لَراجعونْ‮»‬

ومثل نزار كثيرون، ندبوا وبكوا. أما المثقفون في مصر، فكانوا ما بين فَزِعٍ ومضطرب، ضاع منهم التعبير، وقلّ عندهم التدبير. مُنِع عرض فيلم «العصفور» للمخرج يوسف شاهين، الذي يتحدث عن النكسة. وأذكر أنّه عُرض بسينما الحمراء في الكويت، وبعد يومين أتت الأوامر الرقابية بسحبه من دور العرض، ليس في الكويت فقط، بل في جميع دور العرض بالدول العربية. أما شعراء الثورة في مصر آنذاك، فلم يقدموا سوى كلمات مُلِئَت بأنّات لتكون أغنيات، لحنها كبار الملحنين كمحمد عبدالوهاب ورياض السنباطي وبليغ حمدي، وأنشدها كل من أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم حافظ، إلا أنّ أُذْناً عربية لم تستمع لها أو تستمتع بها، أو حتى تأثرت منها، لقد ماتت تلك الأناشيد كما ماتت الفرحة. وعلى الرغم من أنها كانت أناشيد مرحلة، فإنها كانت من أسوأ الأغاني التي قدمها هؤلاء العظام، ولا أدري هل كانت ردة فعل منهم أم دُفعوا إلى إنشادها غصباً؟ وقيل إنّ الشاعر صلاح جاهين أُصيب باكتئاب جعله يغير نمط كتاباته العميقة إلى «خلي بالك من زوزو»، و«الدنيا ربيع والجو بديع» ليقفل بها كل المواضيع ويموت باكتئابه. نحن قوم جادون في افتعال الألم، ناشطون في فتق الجروح، مهملون في اتباع النظام والتقيد بالقانون. نجح أعداؤنا في إفسادنا، فضاعت هويتنا، وأصبحنا كمن استجار من الرمضاء بالنار.

 

الهوية‭ ‬أصل‭ ‬البقاء

هوية الشعوب أصل بقائها، وكل هوية تحددها اللغة والدين ثم العادات والتقاليد، وهي التي ترسم معالم الذات وملامح الشخصية. وعلى هامش تلك الفترة، الستينيات تحديداً، تغيرت هوية الإنسان العربي تدريجياً، فحلت العامية محل الفصحى، التي لم تنقذها مناهج التعليم في أكثر الدول العربية، فقد ساد اللحن وضاعت المفردات. صحيح أنّ اللغة أشبه بالكائن الحيّ، وكل لغة حيّة إنما تحيا باستمرار الناطقين بها، فتشبّ وتكبر وتهرم، لكنها لا تموت. وعلى الرغم من جهود المجامع اللغوية العربية في تعريب المصطلحات الحديثة في مجالات العلوم، نرى أنّ جميع المخرجات، حتى تلك التي كان عليها شبه إجماع في تلك المجامع، لم تُستخدم إلا في الكتابات اللغوية الأكاديمية فقط، بينما يسلك المتكلم إلى تبسيط تلك المفردات أو المصطلحات، فيستخدم المفردات الأجنبية بدلاً من تلك التي عُرِّبَت، وربما يقوم بتصريف الكلمة الأجنبية مستنداً إلى العربية. كلمات كثيرة عُرّبت، مثل تليفون وراديو، لتكون هاتفاً ومذياعاً، إلا أنّ الاستخدام الأول للكلمات صار متداولا فغدت الكلمات مشهورة، وفي المقابل نرى أنّ المفردات المعربة أصبحت مهجورة. وتراجعت اللغة العربية بتراجع عدد مستخدميها. حتى الروايات والقصص أصبحت تُكتَب بالعامية، إما لعدم قدرة الكاتب على الالتزام بقواعد النحو العربية، أو لافتقاده رصيد المفردات التي تعينه على التعبير. أما الشعر، فالكلّ يعرف أنّ الشعر العامي، الشعبي أو النبطي، لم يحظ بذكر أو حفظ في خزانة تاريخ الأدب العربي، فالعامية قديمة في اللغة العربية، ولكن التاريخ لم يسجّل من الشعر العامي شيئاً مذكوراً. إنّ المتتبع لهذه المرحلة، مرحلة انسلاخ الهوية، يلاحظ أنّ شاعراً قديراً مثل أحمد رامي عندما بدأ ينظم شعره بالعامية، خشي محبوه، ومحبو الشعر العربي، من تراجع قصائد الشعر بالفصحى، وذلك يرجع إلى جمال ورقَّة الأحاسيس التي صاغها رامي بتلك القصائد، والتي شدت بها كوكب الشرق السيدة أم كلثوم فزادتها جمالاً وسحراً. 

وعندما تكون المسلسلات والأفلام السينمائية، خاصة التاريخية منها، باللغة العربية الفصحى، تكون أقرب إلى التندر والفكاهة منها إلى التوثيق التاريخي والمتعة الثقافية، فترى المسلسلات العربية التاريخية، التي جرت أحداثها في العصرين الأموي والعباسي، تُمد بها موائد الطعام الذي لم يُعرف في ذلك العصر! فعندما يُقدم لعمر بن عبدالعزيز مائدة الزهد من الطعام، نرى فيها الطماطم مثلاً، رغم أن الطماطم لم تؤكل إلا في القرن الثامن عشر الميلادي! كما ترى الأناناس والموز، كدليل للرخاء والعزّ، على موائد الخلفاء الأمويين والعباسيين! فضلاً عن الملابس والحُليّ وغيرها من زينة النساء. إنّ الملبس والمأكل جزء من هوية الشعوب، والعرب في الجاهلية لم تعرف من الأُكُل، خاصة الفاكهة والخضار، إلا ما ذُكر بالقرآن الكريم، أو جادت به الأرض، زرعٌ وضرع. وكانت التجارة نافذة العرب على حضارة الفرس والروم والحبشة، ولم يأخذوا منها إلا القليل. ومع الفتوحات الإسلامية وهجرة العرب وانتقالهم إلى أرض فارس والشام ومصر، شربوا من حضارة قومها، وتأثروا بعاداتهم وتقاليدهم، خاصة في المأكل والمشرب والملبس والسكنى. ومثلما أتى التغيير على المأكل والمشرب والسكنى، أتى التغيير الزمني ليجعل ارتداء الإزار والقميص والعمامة ينحسر، إلا من قلة قليلة تناثرت في اليمن وعمان والمملكة العربية السعودية والسودان والصومال. وبدأ القميص يطول ليصبح رداء، وتنحل العمامة لتصبح غطاء للرأس، أو تستبدل بالطاقية. 

وعلى مر السنين ساد اللباس الغربي محل اللباس العربي في دول الشمال الإفريقي ومصر والشام ثم العراق. كانت القبائل العربية في شمال الجزيرة العربية تُميّز رجالها بغطاء الرأس، لدرء الأخطار عنهم من ناحية، ولإثبات هويتهم من ناحية أخرى، لنرى بعد ذلك ألواناً من أغطية الرأس نسجت من الصوف الناعم أو من القطن، ومن «الشال» الصوفي الأسود أو البني إلى «الغترة» البيضاء، ومن «الشماغ» القطني الذي بمتزج به اللون الأبيض متناغماً واللون الأحمر، أو اللون الأسود، أو اللون الأخضر، ممثلاً بذلك هوية عشيرة من عشائر العراق أو الشام. وعلى الحال نفسها، كانت طاقية القبائل والعشائر في شمال إفريقيا، كل له لون، وله ما يتميز به من لباس، فكان غطاء رؤوسهم آنذاك لهم هوية. ومثل هذا ليس بجديد، فقد كانت الديانات تميز نفسها بغطاء للرأس، فتعرف من ذلك رجل الدين الهندوسي من اليهودي من المسيحي من المسلم. وامتد مثل هذا إلى الطوائف في الدين الواحد. وفي مصر، استطاع الضباط الأحرار الإطاحة بالنظام الملكي، ووَضْع منظومة اجتماعية اقتصادية تدعم الطبقة الوسطي، وكان على هامشها الشكلي أن ساد ارتداء بدلة عادية تتكون من قميص وبنطال من القماش نفسه، وهذا القماش مصري مائة في المائة، مورداً ونسيجاً وخياطة. كان يأتي بألوان مختلفة وغير فاقعة، رخيصاً وأنيقاً، أقرب ما يكون إلى لباس الحزب الشيوعي في الصين آنذاك. ويبدو أنّ أوامر عليا قد صدرت من القيادة المصرية لتعميم هذا اللباس، وإن لم ينته لبس البدلة الإفرنجية، التي أصبحت تُرتدى في المناسبات والاحتفالات. وفي ستينيات القرن الماضي انتهى لبس «الطربوش» تماماً، ولم يعد أحد يرتديه في العالم العربي، ولم يبقَ له أثر إلا من تحت عمائم رجال الدين في الشام. وظلّ لباس رجال الدين لهم هوية، استمرت إلى يومنا هذا، كما هو في مصر ودول المغرب العربي والشام والعراق والجزيرة العربية، مع اختلافه من قُطر إلى قُطر.

 

تفشي‭ ‬الفوضى‭ ‬وتخلخل‭ ‬المعايير

 تلك المرحلة هي عصر التحرر من الاستعمار الأجنبي، التي أُسست فيها الدول العربية الحديثة اعتماداً على دساتير وقوانين عامة وخاصة، أممية وعالمية ومدنية، تضمن حقوق المواطنين وتحدد واجباتهم، وتفصل بين تنازعاتهم. ومنذ ذلك الحين، لم تعرف كثير من الدول العربية معنى الاستقرار كمنظومة سياسية واقتصادية واجتماعية مدعمة بمنظور تنموي تربوي يرتكز على الأخلاق والتعليم والصحة كأسس في بناء الفرد ثم الأسرة والمجتمع والدولة. ومع عدم الاستقرار السياسي وتفشي الفوضى، انحدر عطاء الشعوب، وتخلخلت المعايير، وما تبقى لنا في العالم العربي من علماء أو أطباء أو معلمين أكفاء، صار ما بين محبط ومهاجر، هجروا ميدان أعمالهم، كما فعل المزارع والحرفي وعامل المصنع، وأصبحوا جميعاً موظفين في وظائف لا تمت لتخصصاتهم أو حرفهم بأي صلة. ومع طغيان التطرف باتباع النظام الرأسمالي، الذي أظلّ العالم العربي وأضله، انحسرت الطبقة الوسطي شيئاً فشيئاً، وأصبح الناس بين غنى فاحش وفقر مدقع. الكلّ يريد أن يصبح غنياً، ولا ضير في ذلك، ولكن في حدود الأخلاق أولاً ثم القانون، وكان الفساد أقصر الطرق لجمع الثروة، ونخرت الرشوة والمحسوبية جسد الدولة، كما تلفت روح العدالة والقانون عندما حلّت الأعراف القبلية والعشائرية محل القوانين في الفصل بين المتنازعين، فأوقفت الحقوق المدنية وضاعت هيبة الدولة نتيجة لانتشار الفوضى بالرشوة والواسطة والمحسوبية، واستفحل الأمر لتخرج الفوضى ضد القوانين من رداء الانتفاع الشخصي إلى مصالح ذوي القربي، لتنتشر فتصبح إطاراً للفساد العام والتعدي على حقوق الآخرين. 

لم يبق لنا إلا الدين، دين الإسلام، والإسلام هو دين سيدنا إبراهيم عليه السلام، الذي وصفه الله عزّ وجلّ بأنه «مسلم حنيف»، وهو مَن استدل على وجود الله بالعقل. ذلك الدين الذي يتحدر منه دين موسى وعيسى ومحمد عليهم أفضل الصلاة والسلام، دين التوحيد النابذ للشرك والوثنية والإلحاد. كل أديان العالم نادت بوجوب إعمال العقل، النعمة الكبرى التي ميّز الله بها الإنسان عن بقية الخلق. وعلى الرغم من تأكيد الدين على العلم والعمل لعبادة الله وطاعته في إعمار الأرض وإصلاحها، يلاحظ المتتبع للأطروحات الدينية أنها تضع قيوداً تخلق حدوداً للعقل تضيق دوائرها كلما ألحت الحاجة الإنسانية على مواكبة التقدم العلمي والمعرفي والفكري في مجالات الحياة.

 

آثرنا‭ ‬الكسل‭ ‬على‭ ‬العمل

ومن ابن رشد إلى محمد عبده، كانت مناداة العلماء العرب بأنّه لابدّ من إعمال العقل بالمعنى البرهاني في كل مجالات العلوم، وليس للعلوم الدينية فقط. وبكل أسف، نستطيع القول إنّ الدول العربية الحديثة، التي تحررت من الاستعمار وثارت عليه، لا تجد حين تبحث بمنظوماتها الفكرية أي جديد يعاصر مسيرة الحاضر، فحين تبحث في ثورة لا ترى إلا رجعية! لقد تمسكت دولنا بإرث الماضي، وتمسكت بالتقليد في مؤسساتها بدلاً من المواكبة والتجديد، مما أدى بالضرورة إلى تحصين التخلف ومحاربة كل جديد في كل مجالات العلوم، واعتبار الإبداع بدعة، حسب معايير الفكر الديني. وأصبحت الدول العربية مستوردة لمخرجات العلوم والتكنولوجيا، من دون معرفة أصول تصنيعها وصيانتها، ومن دون اعتبار لفلسفة الصناعة والمستقبل. 

وفي المقابل، تبيع دولنا، تحت ضغط من الدول الصناعية، المواد الأولية بأقل الأسعار، ومن دون حتى معالجة تلك المواد أولياً. بمعنى أننا نستطيع أن نبيع للآخرين المواد البترولية المصنعة، ولكننا آثرنا الكسل على العمل لنبيع النفط خاماً، ثم نستورد كل صناعات العالم في المقابل. لقد أهملنا الصناعة فأهملنا أساساً من أسس بناء الدولة .