السيطرة الصامتة للإعلام

السيطرة الصامتة للإعلام

إذا‭ ‬كانت‭ ‬الأصوات‭ ‬قد‭ ‬بدأت‭ ‬تتعالى‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬المتقدمة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬محاصرة‭ ‬أو‭ ‬مواجهة‭ ‬السيطرة‭ ‬الصامتة‭ ‬وآلياتها،‭ ‬نقصد‭ ‬بها‭ ‬سيطرة‭ ‬الإعلام،‭ ‬فإن‭ ‬الأمر‭ ‬يبدو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ضرورة‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬النامية‭ ‬التي‭ ‬مازال‭ ‬التحديث‭ ‬فيها‭ ‬يمر‭ ‬عبر‭ ‬المحاكاة‭ ‬والتقليد‭ ‬للنماذج‭ ‬الغربية‭ ‬ومنها‭ ‬النماذج‭ ‬الإعلامية‭.‬

وها نحن اليوم أمام طغيان نموذجين عالميين مزيفين من الصورة الإعلامية: نموذجين متضادين بامتياز، رسمتهما يد واحدة، يد داهية في تخطيطها وتنفيذها، يواجهها في المقابل تخاذل اليد الثانية عن الرد، فكنا أمام تدهور وتألق: تدهور الصورة الإعلامية للعرب وتألق الصورة الإعلامية لليهود.

 

تدهور‭ ‬الصورة‭ ‬الإعلامية‭ ‬للعرب

يذكر مساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق جوزيف ناي في كتابه «القوة الناعمة» أنّ الإغراء أولى من الإرغام في التعامل مع الشعوب، هي القوة الناعمة التي ترتكز على منطلقات عدّة أولها: أفلام هوليوود.

يظل العرب أكثر الناس تعرضاً للتشويه في تاريخ هوليوود. ومع حلول سبعينيات القرن العشرين، أي بعد عقدين من قيام دولة إسرائيل، كان تصوير «هوليوود» للشخصية العربية، يقوم على إظهار العرب أقل كفاءة، غالباً في هيئة شيوخ ميّالين للنساء، أثرياء، توّاقين للانتقام، فاسدين، جبناء وبدناء بشكل ثابت جزئياً، مع تجاهل الوضع الراقي للمرأة العربية، ففي الأمس كانت راقصة، واليوم إرهابية مغطاة بالأسود. 

يحطّ  ثلاثمائة فيلم بنسبة 25 في المائة من أفلام هوليوود، من قدر العرب ويتم تصويرهم على نحو فكاهي رخيص جداً(شاهين،2015).  

أدخلت «هوليوود» موضوع الحرب ضد العراقيين لأول مرة عام 1943 في فيلم «مغامرة في العراق» Adventure in Iraq. وفيلم الإثارة هذا الذي أنتج في الحرب العالمية الثانية، يصوّر أثرياء النفط العراقيين كمناصرين للنازية و«عبدة للشيطان». وفي النهاية على أي حال، يُهزم العرب في الفيلم بواسطة قصف سلاح الجو الأمريكي. 

إن أحد تأثيرات هذا الفيلم وغيره من أفلام «نحن» في مواجهة «هم» يتمثل في المساعدة على تهيئة الجمهور لتصور العرب وكل المسلمين بالتبعية، كأعداء صارمين للقيم الغربية. وتواصل «هوليوود»، عبر التصوير العنصري والديني، الإساءة إلى العرب ونقل رسالة سلبية مفادها «نحن الأمريكيون نحتقركم ونحتقر دينكم» (مركز الإمارات للدراسات والبحوث، 348،2006). 

وفي عام 1948 بدأت الأفلام التي تُظهِر الفلسطينيين في صورة أشرار، مثل فيلم «الخروج»، فهم إما مرتبطون بالنازيين وإما بالإرهابيين.

في عام 1966 يظهر فيلم «cast a giant shadow» اليهود بأنهم ضحايا للفلسطينيين، هم أدنى من جميع المخلوقات، أشرار مستعدون لقتل أي فرد في أي مكان. ويُظهِر فيلم الموت قبل العار  «Death before dishonor» عام 1970 الفلسطينيين بأنهم متوحشون.

ثلاثون فيلماً تُظهِر الفلسطينيين شعباً يهدف إلى إلحاق الأذى بالأمريكيين، مثل فيلم Death before dishonor.

ولعل أقوى الأسباب التي تمنع العالم من التعاطف مع أي فلسطيني على الشاشة يعود إلى منتجين إسرائيليين اسمهما منيحين كولان ويورام كلوبوس، أسسا شركة Canon pictures، خلال عشرين عاماً، أنتجا ثلاثين فيلماً على الأقل بقصد الإساءة إلى العرب ولاسيّما الفلسطينيين. 

والفيلم الأكثر إثارة وتأثيراً وشعبية وعنصرية فيلم «القوة دلتا» The delta force، حيث يخطف الفلسطينيون طائرة ويروّعون المسافرين وخاصة اليهود منهم.

لا يوجد أي نوع من التخاطب أقوى من الفيلم في خلق الدعاية. لعب المنتجون في هوليوود لعباً مهماً في الحط من الفلسطينيين.

والفيلم الأكثر معاداة هو «أكاذيب حقيقية» True lies. كل أسبوع يعرض على التلفاز مرة تلو الأخرى حتى بات جزءاً من إرث الغرب الحضاري.

هم لا يرون الفلسطينيين الضحايا الأبرياء الذين يعانون الاحتلال بشكل إنساني... لماذا؟ ألا تساوي حياة فلسطيني من وجهة نظر «هوليوود» حياة طفل يهودي؟

وربما كُثّفت الصور القبيحة هذه نتيجة الحرب العربية الإسرائيلية في عامي 1967 و1973. واعتباراً من ثمانينيات القرن العشرين وما بعدها سيطر النزاع العربي الإسرائيلي على العناوين الرئيسة، وعززت «هوليوود» ببساطة تصوير العرب على أساس أنهم «أصوليون» إسلاميون يائسون. 

قدّمت «هوليوود» مدينة السينما الأمريكية، منذ حرب الخليج الثانية 1991، ما يزيد على 40 فيلماً، غالى معظم هذه الأفلام في تشويه سمعة العرب كمسلمين، إذ «عرضت شريطاً لا ينتهي من الصور التي يبدو فيها العرب أشبه بشعوب منقرضة لشدة تخلفهم، يمثلون في الوقت ذاته خطراً رهيباً يهدد الآخرين بوصفهم إرهابيين». (ظاهرة الإسلاموفوبيا، 2006).

وفي ضوء حقيقة أن «الأنذال» العرب يظهرون في نحو ألف فيلم، فليس من المدهش أنهم يظهرون في أي نوع من الأفلام يمكن تخيّله، كالأفلام الكوميدية مثل «إرنست في الجيش» (1997) والأفلام الدرامية التاريخية مثل «الملك ريتشارد والصليبيون» (1954). 

ويمثّل 43 فيلماً روائياً دعاية كراهية خطيرة حول الفلسطينيين، حتى تغفل أفلام هوليوود في أكثر الأحيان إنسانية الفلسطيني. من هذه الأفلام هناك سيناريوهان فقط يظهران فلسطينيين لهم أسر. وكأن الفلسطينيين قد جرّدوا تماماً من إنسانيتهم، فلا يظهرهم فيلم واحد على أنهم ضحايا. 

وقد صوّر أكثر من 50 في المائة من الأفلام التي تتعرض للفلسطينيين في إسرائيل بالتعاون مع الحكومة الإسرائيلية، فإذا بنا أمام أفلام تصور الفلسطينيين كمتطرفين يتسمون بالعنف يقاتلون الغربيين والإسرائيليين وإخوانهم العرب (مركز الإمارات للدراسات والبحوث، 357،2006). 

لتعزيز صلة واشنطن بهوليوود تكفي مشاهدة الأفلام التي تنتج بالتعاون مع وزارة الدفاع الأمريكية التي تظهر الرجال والنساء في القوات المسلحة يقتلون العرب عشوائياً، مثل فيلم النسر الحديدي Iron eagle وفيلم رجال البحرية Navy seals. ولعلّ الفيلم الأكثر عنصرية هو قواعد الاشتباك Rules of engagement، كتبه وزير البحرية السابق جيمس ويب. وتدور أحداث الفيلم في اليمن، حيث يصوّر اليمنيين قتلة، من مبادئهم الأساسية قتل الأمريكيين مدنيين وعسكريين، فهم إذن مجرمون يستحقون الموت.

وعندما تنتج الأفلام التي تهين العرب وتعرض في دور السينما فإنها لا تتلاشى في النسيان. بل إن الفيلم، عوضاً عن ذلك، يبقى إلى الأبد، ويعرض في أكثر من 150 دولة (مركز الإمارات للدراسات والبحوث، 373،2006)، فأنّى نسيانه وهو مستمر في العرض لسنين متتالية وفي بلدان متفرقة؟! 

أوضحت إحدى دراسات علماء الاجتماع العرب صورة العرب في الكتب المدرسية الأمريكية للعلوم الاجتماعية في كاليفورنيا 1974 - 1975، وذلك في الصفوف من رياض الأطفال إلى الصف التاسع، وتوصلت الدراسة إلى نتائج مهمة عدة:

1 - وجود مغالاة في التأكيد على البداوة أكثر من أي موضوع آخر يتعلق بالوطن العربي، وتأكيد الخصائص السلبية للبدو مع إغفال صفات الإيجابية.

2 - جاءت معالجة الإسهامات الإسلامية مختصرة للغاية بحيث بدت غير ذات أهمية. وتمّ إغفال تسامح المسلمين تجاه أصحاب الديانات الأخرى، وتصوير المركز المتدني للمرأة، مع التأكيد على الأمية وتعدد الزوجات، وما إلى هنالك من حقائق مزوّرة تشوّه صورة الإسلام.

3 - جاء تصوير الصراع العربي الإسرائيلي غير متوازن بل كان متحيزاً للرؤية الإسرائيلية. وصور إسرائيل على أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة بين مجموعة من الجيران العرب الحاقدين.

وتكرّس الوسائل الإعلامية الأمريكية هذه الصورة السيئة عبر برامجها المختلفة. وتمتد النظرة الدونية للعرب إلى الأغاني الشعبية الأمريكية وإلى النكات الفكاهية والكاريكاتورات الصحفية، وتنتقل منها إلى الإذاعة والتلفزيون.

وتكاد الشركات الأمريكية الكبرى تحتكر صناعة السينما في العالم وتشرف على هذا الاحتكار جمعية السينما الأمريكية التي لها مئات المكاتب في مختلف أنحاء العالم. فالإعلام اليوم صناعة معقدة متشابكة ومكلفة تسيطر عليها شركات كبرى متعددة الجنسيات، ويتحكم فيها القرار الأمريكي بنسبة كبيرة.  وهي تقدم التسهيلات العسكرية لمنتجي الأفلام التي تصوّر القوات المسلحة في مظهر لائق بعيد عن النقد.

أصبح الخوف من الإسلام اليوم جزءاً من عقل الأمريكيين، كلمات مثل «عرب», «مسلم», خطيرة، مرعبة، باتوا يحتقرون كل ما هو متعلق بالعرب.

لمدة قرن كامل قبل مأساة 11 سبتمبر كان العرب يصوّرون على أساس أنهم بعبع للولايات المتحدة الأمريكية، وكأن هذه الحادثة كانت مستنداً مهماً لتأكيد اتهامهم بالبعبع ووصمهم بالإرهاب. وقد صدقت هنا مقولة «الصيت لهم والفعل لغيرهم».

ففي سبتمبر 2001 وعندما نفّذ تسعة عشر «إرهابياً»، تمت نسبتهم للمسلمين، هجماتهم في أمريكا وأدّت إلى مقتل 2000 شخص، كانت هناك تقارير عن أعداد كبيرة من الناس شاهدوا نشرات الأخبار في عرض أحداث 11/9 فعانوا في وقت لاحق ازدياد القلق وصدمة ما بعد الصدمة.  حتى أن بعض الأطباء النفسيين اقترحوا في ذلك الوقت عدم مشاهدة الناس التلفزيون في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

 ترجمت هذه الأحداث الأليمة أفلام «هوليوود» المزيّفة ليشاع ويسهل تصديق أنها أعمال إرهابية يوافق عليها مليار و300 مليون عربي.

تمّ إعداد الأمريكيين ليعتقدوا أن هؤلاء العرب المدنيين الأبرياء مستنسخون عن القاعدة، متشابهون وهم لا يستحقون تعاطفهم وتفهمهم، وهذا خطير جداً.

ارتفعت الجرائم في أمريكا التي تستهدف المسلمين أو ذوي الملامح الشرق أوسطية. رغم الحقائق الجليّة، ورغم تعايش أكثر من عشرين مليون مسيحي جنباً إلى جنب مع المسلمين العرب، فإنهم مازالوا يؤمنون بزيف الأقاويل والخدع، فمن الصعب محو صورة نمطية رسمت للعرب عبر قرن من الزمن، سيّما أنه لا يوجد من يعمل على محو هذه الصورة.

 

تألق‭ ‬الصورة‭ ‬الإعلامية‭ ‬لليهود

وعلى الطرف الآخر من هذه الصورة نجد تألق صورة اليهود، ولم يأت هذا التألق عبثاً أو كيفما اتفق، فقد كان ولايزال هدف اليهود منذ القدم التحكم في الإعلام، لأنه الوسيلة الجماهيرية التي تؤثر في الناس مهما كانت لغاتهم أو جنسياتهم ليوجهوهم نحو ما يريدون. فلم يكن جزافاً إذن أن تكون جميع شركات إنتاج الأفلام الأجنبية شركات يهودية ومعظم وكالات الأنباء العالمية يهودية. ولعل هذا سر نجاحهم، بعد تشويه صورة العرب والمسلمين، في تألق صورتهم إعلامياً.

ولكن هل القنوات الأجنبية فقط هي التي تحت سيطرة اليهود؟ اليهود هم أصحاب أكبر وأشهر الفضائيات العربية، لكن مجلس إدارتها عرب. والدليل أن روبرت ميردوخ  Rupert Murdotch، إمبراطور الإعلام اليهودي والقيادي الأول في النخبة السرية العالمية التي تدير العالم، يذهب كل سنة إلى مؤتمر الإعلام العربي ليحضر الاجتماعات الضخمة للفضائيات العربية.  

إذن فالإعلام، كيفما اتجهنا وأينما كنا، تظلّله القوى اليهودية في العالم:

قامت قيامة الإعلام للتنديد بما أصاب اليهود وكأنهم الشعب الوحيد الذي أصابته نار النازية، وكأنهم الشعب الوحيد الذي اكتوى بنار الحروب... والويل لمن يشكك بما قالوا! 

لكن لماذا كان اليهود موضع اتهام واضطهاد على مرّ الزمن؟ هل الاعوجاج في تربية اليهودي وظنه أنه شعب مميّز ومختار؟ أم الاعوجاج في ضعف الفلاسفة والمفكرين وأهل الرأي أمام مصارحة اليهودي بما فعل ولايزال يفعل؟ لم نجد جواباً على ما نرى من ظلم وخلل في المعايير الإنسانية والدولية إلا بما نرى من سيطرة لليهود على الإعلام العالمي وخاصة في البلاد الصناعية والمتطورة.