التعددية الثقافية والمسألة اللغوية في الجزائر

التعددية الثقافية والمسألة اللغوية في الجزائر

كل‭ ‬حديث‭ ‬عن‭ ‬العربية‭ ‬والتعريب‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬يستلزم‭ ‬بالضرورة‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الفرنسية،‭ ‬سواء‭ ‬بوصفها‭ ‬لغة‭ ‬للعلم‭ ‬والمعرفة‭ ‬والثقافة‭ ‬الحديثة،‭ ‬أو‭ ‬بوصفها‭ ‬أيديولوجية‭ ‬ناقدة‭ ‬ومعارضة‭ ‬للعربية‭ ‬وسياسة‭ ‬التعريب‭. ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬النخبة‭ ‬الجزائرية‭ ‬في‭ ‬عمومها‭ ‬تقر‭ ‬بالتوجه‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬الفرنسية‭ ‬رافداً‭ ‬من‭ ‬روافد‭ ‬المعرفة‭ ‬الحديثة،‭ ‬فإن‭ ‬ثمة‭ ‬من‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬هوية‭ ‬وأيديولوجية‭ ‬وأداة‭ ‬لنقد‭ ‬ومعارضة‭ ‬سياسة‭ ‬التعريب،‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬إفشالها،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬بطرق‭ ‬مباشرة‭ ‬وصريحة‭ ‬أو‭ ‬بطرق‭ ‬غير‭ ‬مباشرة‭ ‬وخفية‭. ‬ولعل‭ ‬المثال‭ ‬الأبرز‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬تعكسه‭ ‬دراسات‭ ‬الكاتب‭ ‬محمد‭ ‬بنرباح،‭ ‬وبخاصة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬االلغة‭ ‬والسلطة‭ ‬في‭ ‬الجزائر

إذا كان المجال لا يسمح بمناقشة مختلف القضايا التي يطرحها هذا الكاتب، فإن ما يجب التركيز عليه هو ما يمكن وصفه بـ «الفكرة الجديدة» التي طرحها مقارنة بغيره من المناهضين للعربية وسياسة التعريب في الجزائر. وتتمثل هذه الفكرة في دعوته إلى إقامة «فدرالية سياسية في الجزائر» كبديل للسياسة اللغوية المعتمدة من السلطة الجزائرية. 

تقوم هذه الفكرة على جملة من الحجج، أهمها الإقرار بالانفصال الكامل بين اللهجات العربية المستعملة في الجزائر وبين «العربية الكلاسيكية» (ص149)، والتأكيد على التعارض التام بين (اللغة الأم) ولغة التعليم، وبخاصة في المناطق الناطقة بالأمازيغية. وأن السلطة الجزائرية قد قامت في نظره، بمصادرة الحق في تعليم لغتين هما الفرنسية والأمازيغية، بدلاً من استعمال ثلاث لغات هي: الأمازيغية، والفرنسية، والعامية الجزائرية. 

والواقع أنه إذا كان صحيحاً أن السلطة الجزائرية قد رفضت الاعتراف باللغة الأمازيغية في وقت من الأوقات، فإن الجميع يعلم اليوم أنها أصبحت لغة رسمية ووطنية معترفاً بها. كما يعلم الجميع أن هذه السلطة لم ترفض في يوم من الأيام اللغات العامية، ولم تخض حرباً ضد اللغات العامية كما فعلت فرنسا عندما فرضت العامية الباريسية على المجتمع الفرنسي. 

 وأما من جهة استعمالها أو عدم استعمالها في التعليم، فإن هذا الموضوع يجب أن يخضع أولاً للنقاش العلمي قبل الاستغلال الأيديولوجي والسياسي. ولقد عرفت الجزائر في السنتين الأخيرتين، نقاشاً حول هذا الاستعمال، أثبتت عديد الآراء التي تنتصر للعربية والفرنسية على حد سواء، عدم جدارة وجدوى هذا المسعى الذي يدفع به عصبة من الفرانكفونيين الجزائريين إلى تطبيقه في التعليم.

 

مكانة‭ ‬اللغة‭ ‬الأم

ويكفي في هذا السياق الإشارة إلى ندوة «إصلاح التعليم» التي نظمتها وزارة التربية والتعليم، حيث انتهت بعض توصياتها إلى ضرورة اعتماد اللغة الدارجة في السنتين الأولى والثانية من التعليم الابتدائي، وذلك كحلٍّ لمشكلة لغة الأم مقارنة بلغة التعليم. وقد أدت هذه التوصية إلى ردود فعل ونقاش حول علاقة اللغة العربية الفصحى بالعامية، ومكانة اللغة (الأم) في التعليم، لم تعرفه الجزائر منذ سبعينيات القرن المنصرم. 

وليس غرضنا أن نقدم من جديد الحجج المؤيدة أو المناهضة لمكانة اللغة الأم في التعليم، وإثبات أو نفي العلاقة بين العامية والفصحى مادمنا نملك تاريخاً من هذه الحجج الذي بدأ مع الدعوة الاستشراقية في القرن التاسع عشر، وإنما الذي يعنينا بالدرجة الأولى هو الإشارة إلى أن هذه العودة إلى موضوع العامية واللغة الأم في مقابل الفصحى ولغة التعليم، تحمل أكثر من مؤشر ليس آخره التراجع الذي أصاب سياسة التعريب في الجزائر. وفي تقديري، فإن المتابع للنقاش الذي صاحب هذه الندوة يدرك التغير الذي عرفته العربية وسياسة التعريب، وبخاصة من جهة العلاقة مع السلطة، وكذلك من جهة القدرة على الطرح العلمي. 

وأما من جهة السلطة، فإن ثمة تغيراً واضحاً بين سياسة التعريب في السبعينيات التي كان يشرف عليها الحزب الواحد، ويخضعها لسياسته وحساباته، وما نشهده اليوم من انتصار المجتمع المدني، بمختلف تياراته ومكوناته وأطيافه، لمسألة التعريب، باستثناء، طبعاً، الاتجاه الفرانكفوني وبعض أنصار النزعة البربرية. 

وقد سمح هامش الديمقراطية الذي يعرفه المجتمع الجزائري، بالاطلاع على آراء مهمة، واكتشاف أقلام متميزة. وهذا وجه جديد على كل أنصار العربية أن يشددوا عليه؛ لأنه وجه يؤكد أن العربية والتعريب تتقويان وتغتنيان وتتطوران في الأجواء الديمقراطية، وأنه من مصلحة العربية والتعريب الانتصار إلى الفكرة القائلة إن الديمقراطية تقتضي التعريب والتعريب يقتضي الديمقراطية، مع ما يفرضه ذلك من ضرورة تقديم منظور جديد للغة والهوية والتعليم والتواصل مع العالم.

أما من جهة الطرح العلمي؛ فإنه وفي سياق عملية الرد على القائلين بالشرخ والقطيعة بين الدارجة والفصحى، وبين اللغة الأم ولغة المدرسة؛ فإننا قرأنا مجموعة من المقالات التي أكدت أهمية الطرائق التربوية الحديثة، وعلى دور المعلم في إيجاد الجسور المناسبة للتغلب على هذا الشرخ، والانفتاح أمام نقد واقع اللغة العربية كما هو قائم في مؤسساتنا التربوية، والدعوة إلى الإصلاح والتجديد.

ولقد قدمت إسهامات علمية عدة، أكدت في مجملها ضرورة التمييز بين مرحلتين في التعليم، مرحلة الاكتساب أو مرحلة اللغة الشفوية، وهي عبارة عن مرحلة عملية تسمح للطفل بتنظيم فضائه اليومي. ومرحلة التعليم التي تبدأ بتعلم اللغة المكتوبة. وهذا يعني أن الطفل لا يحتاج إلى أن نقدم له لغة شفوية عندما يبلغ السادسة من عمره، وإنما علينا أن نقدم له لغة مكتوبة ومتقنة أو مقننة. 

وفي هذا السياق الذي يعيد طرح القضايا التي فصل فيها البحث العلمي، تأتي محاولة بنرباح في مقابلة اللغة العربية التي يسميها «كلاسيكية» و«قرآنية» و«طقوسية» و«ميتة»، بما يسميه اللغات الحية في الجزائر، أي «العامية الجزائرية» والأمازيغية، مؤكداً أن: «العربية الكلاسيكية ليست لغة طبيعية لأي جزائري، واللغة الحية ليست شيئاً آخر غير العربية الجزائرية أو البربرية» (ص 287). 

 

الفصحى‭ ‬والعامية

وتعزيزاً لتوجهه الرافض للعربية الفصحى، ينتصر بنرباح إلى الرأي القائل بالقطيعة بين الفصحى والعامية، مع أن ثمة رأياً لا يقل أهمية وجدارة وعلمية في علم اللغة يقول بالاتصال بين العامية والفصحى. وبناء على انحيازه لمبدأ القطيعة بين العامية والفصحى، دعا إلى ضرورة اعتماد «العربية الجزائرية» بما أنها تركيبة من مختلف اللهجات الجزائرية بحسب الجهات المختلفة للجزائر (ص 328)، وذلك سيراً على نهج بلدان مثل الفلبين ومدغشقر. وفي تقديره، فإن هذه العملية طبيعية وتاريخية ولا تقبل إلا تدخلاً بسيطاً. وأن هذا الحل لا يأتي من فوق، أي من النخب الحاكمة، وإنما يأتي من تحت، أي من الشعب. ولكن كيف يحدث ذلك، ونحن نعلم أن التخطيط اللغوي يقوم به خبراء في السياسات اللغوية، سواء كانت لغات فصيحة أو عامية؟ 

ومع أنه يرى أن التعليم باللهجات لا يحتاج سوى إلى تدخل بسيط، إلا أنه مع ذلك لم يقدم لنا هذا الحل الذي يجمع بين لهجات المناطق الكبرى في الجزائر، وليس المدن الكبرى فيها، لأننا نعلم أن لهجاتنا تختلف في الواقع من مدينة إلى أخرى على الأقل في طريقة النطق. فما هذه العامية الجزائرية؟ وما هذا الحل البسيط؟ لم نعثر على جواب في ما قدمه هذا الكاتب. ولكن علينا ألا ننخدع بهذا الطرح الذي يتوسل العاميات في الجزائر، إذا علمنا أن قائلها أستاذ في اللسانيات، ويدرس اللغة الإنجليزية، ويعلم سلفاً الصعوبات العديدة وراء هذا المسعى. فإذا كانت العربية الفصحى بميراثها وإسهام علمائها تواجه مشكلات التعليم المعاصر، وبخاصة في جانبه العلمي، فكيف تكون حال اللهجات المحكية والعامية؟ إن بنرباح يعلم ذلك، ويعلم أن البديل المتاح في مثل هذه الحالة هو اللغة الفرنسية التي ستفرض نفسها تلقائياً على التعليم، وعندها سترتفع عنده كل الأسئلة الخاصة بعلاقة اللغة الأم بلغة التعليم، وعلاقة اللغات العامية باللغة الفصحى. 

والغريب أنه على الرغم من أن بنرباح أستاذ مختص في اللغة الإنجليزية، ويدرسها في الجامعة، إلا أنه يرفض تعليم الإنجليزية بوصفها لغة ثانية، وذلك بدعوى أن ما اختارته وزارة التربية من مناهج في تدريس هذه اللغة موجه للعمال البسطاء لا للتلاميذ والطلاب، ولأنها مناهج تقدم اللغة وليس الثقافة، في حين أن المطلوب هو تقديم اللغة والثقافة كما هي الحال في الفرنسية، هذا أولاً. 

وثانياً لأن الإنجليزية تكون بذلك منافسة للفرنسية، وهو ما يعني أن السيد بنرباح أكثر فرنسية من الفرنسيين أنفسهم. يقول «بتبنينا للإنجليزية سنقوم بمسح الطاولة لكل هذه المعرفة ونخاطر بتعميق حالة النخبة. وإن القليل الذي نملكه عن لغة شكسبير لا يسمح لنا بالذهاب إلى أعمق الأشياء» (ص293). وبالطبع، لا نحتاج أن نذكر بنرباح بأن الإنجليزية هي اللغة العالمية الأولى، وأن الحداثة والعلم والتقنية تستحوذ عليها هذه اللغة بنسبة شبه كاملة، وأن من مصلحة التعليم والبحث العلمي في الجزائر أن يمتلك هذه اللغة قبل غيرها من اللغات الأجنبية.

وثالثاً، لأن ما يجب تعليمه في نظره، ليس اللغة بوصفها أداة للعلوم والمعارف والفنون، ولكن اللغة بوصفها هوية، أو كما قال محاكياً عبارة الروائي الجزائري كاتب يسين: «إن الفرنسية بالنسبة للجزائريين هي غنيمة حرب حقيقية: إنها لغة وثقافة تم استيعابها خلال مسار تاريخي طويل، ويتحكم الجزائريون فيها إلى درجة التعبير عن عبقريتهم بها». (ص 293). 

 

الفرنسية‭ ‬بين‭ ‬اللعنة‭ ‬والنقمة

والحق، فإن بيت القصيد في كل حجج السيد بنرباح هو الإقرار بأن «اللغة الفرنسية التي فرضها التاريخ، أصبحت جزءاً من التراث الوطني. إذن، يجب أن نتوقف عن معايشتها على أنها لعنة» (ص 345). نعم، لقد كان من الممكن أن تكون الفرنسية في الجزائر نعمة، وليست لعنة لو لم تتحول إلى هوية قائمة بذاتها ومستبعدة وطاردة لبقية عناصر الهوية الجزائرية، وبخاصة العربية والإسلام. فلا أحد يمكنه أن ينكر إسهام الفرنسية في تشكُّل الهوية الوطنية في صيغة جدل السلب والنفي. ولكن في الوقت الذي يرافع فيه بنرباح من أجل حق الفرنسية التي فرضت في الجزائر بقوة الحديد والنار خلال قرن ونصف القرن من الاستعمار في أن تكون جزءاً من التراث الوطني، فإنه ينكر حق العربية التي ارتبط بها الجزائريون منذ القرن السابع الميلادي، في أن تكون جزءاً من هويتهم، مصرَّاً على القطيعة بين العاميات الجزائرية والعربية، وحاشداً كل المغالطات من أجل استبعادها ورفضها بوصفها جزءاً أساسياً في هويته!

من هنا، يخلص بنرباح إلى نتيجة معلومة سلفاً، وهي أن التعريب في الجزائر قد أفلس، وأن جذور الإفلاس تكمن في إرادة المسؤولين استئصال ما يشكل جوهر الثقافة الجزائرية (ص 271). وما هو هذا الجوهر؟ إنها الثقافة الفرنسية الحداثية التي قدم حولها إحصاءات تؤكد غلبتها وتفوقها على العربية في الجزائر. وتتجلى هذه الغلبة في إقبال الناس على تعلُّم الفرنسية، وفي القنوات الفضائية، وفي أثر المهاجرين في المجتمع، وفي الصحافة المكتوبة بالفرنسية. ومع أنه من الممكن جداً الرد على هذه المؤشرات، إلا أن الذي يعنينا في هذا السياق، هو النظر في الحل الذي اقترحه للمسألة اللغوية، والمتمثل في اعتماد: «نموذج واحد للاندماج الوطني يبدو في نظرنا، يفرض نفسه، (...) نموذج فدرالي يأخذ بعين الاعتبار الجزائر في كليتها» (ص 271). وفي تقديره، فإن الفدرالية ستضمن المساواة بين جهات الوطن المختلفة، أو كما قال: «المساواة بين المناطق الموحدة في نموذج فدرالي يسمح بحل المسائل اللغوية والثقافية من قبل الجزائريين أنفسهم» (ص347). 

إن هذا الطرح الذي جاء في صورة بديل لغوي وسياسي، يحتاج إلى التحليل والنقد، وبخاصة من جهة التعددية اللغوية والثقافية ولزوم الفدرالية. فما المقصود بالتعددية الثقافية؟ وما معنى الأقليات؟ وهل كل تعدد ثقافي يستلزم بالضرورة الفدرالية؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تسمح لنا بمناقشة آراء بنرباح، وبيان حدودها، وبخاصة من جهة ملاءمتها للمجتمع الجزائري من عدمه. 

 

التعدد‭ ‬الثقافي

يعد التعدد الثقافي شكلاً من أشكال التعبير النقدي عن واقع الأقليات في المجتمعات المعاصرة، وإعلان عن عدم كفاية الأنموذج السياسي للدولة القومية الحديثة أو الدولة - الأمة Etat-Nation، ويقترح في الوقت نفسه تصوراً جديداً للاندماج أساسه الاعتراف بتعدد الجماعات الإثنية والعرقية والثقافية، والعمل على تقنين الأسس والقواعد المنظمة للتنوع الثقافي، مع الإقرار بحق كل جماعة ثقافية في الوجود والتعبير الحر، بل أكثر من هذا، بما أنه لا يكتفي بالحق في التعدد، وإنما يطالب بواجب حماية هذا التعدد والتنوع وتنميته. 

ويتفق أنصار التعددية الثقافية إجمالاً على أن الأقليات تشير إلى مجموعات بعينها هي السكان الأصليون، كحالة الهنود في أمريكا وكندا، والجماعات الوطنية داخل الدولة، ولكنها تقطن في إقليم أو مقاطعة محددة مثل كيبك في كندا، والباسك في إسبانيا، ويخص الشكل الثالث الجماعات الناتجة عن الهجرة، كما هو جلي في أمريكا وكندا وأستراليا، وإلى حد كبير في أوربا الغربية، لكن مع ضرورة الإشارة إلى أن مطالب المهاجرين في أوربا، وبخاصة في فرنسا، تلقى مقاومة شديدة بفعل النظام الجمهوري المتصلب. وأخيراً هنالك شكل رابع وجديد وهو ما يعرف بالمهاجرين المؤقتين، الذين يعرفون باسم الدخلاء météque، بحكم إقصائهم من مختلف الحقوق، وبخاصة الحقوق السياسية، ولكونهم يعيشون على هامش المجتمع.

والحق، فإننا مهما حاولنا تدقيق مفهومي التعددية الثقافية والأقليات، فإن المؤكد هو غياب وصفة جاهزة وتعريف واحد لهما، لماذا؟ لأن التعدد الثقافي مفهوم سياسي وأخلاقي، وموضوع لصراع قوى اجتماعية عدة تختلف من مجتمع إلى آخر، ولأن الأقليات تحقق مطالبها وحقوقها ضمن سياق ثقافي تاريخي، سواء في شكل استقلال ذاتي معين، أو في نوع من الاتفاق على تقاسم السلطة، مع الاعتراف بجملة من الحقوق والواجبات.

وبناء على هذا التحديد الأولي، فإن السؤال الذي يتعين علينا الآن الإجابة عنه هو: هل يتكون المجتمع الجزائري من أقليات؟ وهل تعد اللغات العامية أساساً لهذه الأقليات؟ وهل ثمة صياغة لهذه المطالب باسم الأقليات؟ وبما أن بنرباح يعتبر اللغات العامية الجزائرية أساس التعدد الثقافي الذي يسمح بقيام الفدرالية في الجزائر، فهل يعتبر المنطقة الغربية عموماً، ومدينة وهران - على سبيل المثال - من الأقليات؟ وهل تقدمت هذه المنطقة، أو غيرها من المناطق في الجنوب والشرق بمطالب تخص اللغة العامية (الوهرانية) على سبيل المثال وليس الحصر، لأنه، كما يعلم الجميع، فإن اللهجات في الجزائر تكاد تتعدد بتعدد الجهات والمدن، إن لم نقل الأرياف والبوادي؟

إننا لا نعرف أحداً من هذه المناطق، قد تقدم بمطالب سياسية أو ثقافية باعتباره يمثل أقلية، ويطالب بالاعتراف بالعامية (الوهرانية) على سبيل المثال؟ فما عدا بعض كتاب الرواية باللغة الفرنسية، ومنهم على سبيل المثال آسيا جبار، لم نقرأ لأحد، اللهم إلا الأستاذ بنرباح الذي ربما يعتبر نفسه من أقليات الجزائر، ولكن بنرباح نفسه لم ينشر ما يفيد بأنه يطالب بهذه «الوهرانية»، وإنما يطالب بالفرنسية!

وفي المقابل، نستطيع القول إن ثمة من يعتبر نفسه في الجزائر من الأقليات. ويتعلق الأمر، كما هو معلوم، بنخبة بربرية ترفع مطلب الأمازيغية، وتعتبر نفسها أقلية، وتطالب بالفدرالية وبالاستقلال الذاتي. ومن هؤلاء سالم شاكر منظر اللغة الأمازيغية. (الأمازيغ وقضيتهم... ص 199).

والحق، فإننا لا نعلم كيف سيكون موقف هذه النخبة بعد ترسيم اللغة الأمازيغية، ولكن أيا كان هذا الموقف، فإن دعاة الاستقلال الذاتي يمثلون اتجاهاً داخل الحركة الأمازيغية المتعددة، بعضه، وربما معظمه ينتصر للدولة الوطنية القومية، ولإجراءاتها القانونية في ترسيم اللغة الأمازيغية بما أنها لغة وطنية ورسمية، مع تمكينها من الوسائل الكافية لترقيتها في التعليم والثقافة، وتحقيق المكانة المناسبة لها في المجتمع. 

وعليه، فإنه يجب علينا أن نميز المطلب الثقافي المتمثل في اللغة العامية عن مطلب اللغة الأمازيغية، ما دمنا نعلم أنه ليس ثمة إلا قلة قليلة من الكتَّاب الفرانكفونيين الذين تسكنهم فكرة اللغة العامية، وأن النخب الجزائرية المفرنسة والمعربة لا تطالب بهذا المطلب، وتعمل على تطوير هذين الشكلين من التعبير بوسائل مختلفة. ومن ثمة، فإننا، لا نرى أي تلازم منطقي بين العامية والأمازيغية والفدرالية، ما دام بإمكان الدولة الوطنية أن تستجيب لمطالب مجتمعها، وأن تحقق مبدأ المساواة والإنصاف تجاه مكوناته الثقافية، وعلى رأسها رأسمال الرمزي اللغوي.

‭. ‬