في الحاجة إلى محمد مندور نحو وضع اعتباري للأدب

في الحاجة إلى محمد مندور نحو وضع اعتباري للأدب

قدر‭ ‬الناقد‭ ‬الأدبي‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مرمقاً،‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يمتلك‭ ‬منهجاً‭ ‬ومفاهيم‭ ‬وأدوات‭ ‬خاصة‭ ‬به،‭ ‬بل‭ ‬يستعيرها‭ ‬من‭ ‬حقول‭ ‬معرفية‭ ‬مختلفة‭. ‬ومنذ‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬حين‭ ‬استقل‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬عن‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬وبنت‭ ‬بدأب‭ ‬موضوعها‭ ‬الخاص‭ ‬وجهازها‭ ‬المفاهيمي،‭ ‬لم‭ ‬يتمكن‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬من‭ ‬مسايرة‭ ‬موجة‭ ‬التخصص‭ ‬هذه،‭ ‬وبقي‭ ‬ضائعا‭ ‬بين‭ ‬المناهج‭ ‬والمفاهيم‭ ‬والتصورات‭ ‬المختلفة‭ ‬للنصوص‭. ‬إنه‭ ‬الموطن‭ ‬الذي‭ ‬تهاجر‭  ‬إليه‭ ‬المفاهيم‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬بلورتها‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬إنسانية‭ ‬أخرى،‭ ‬كاللسانيات‭ ‬وعلم‭ ‬الاجتماع‭ ‬وعلم‭ ‬النفس،‭ ‬وحتى‭ ‬العلوم‭ ‬الدقيقة‭ ‬مثل‭ ‬الفيزياء‭ (‬مفهوما‭ ‬الفضاء‭ ‬والزمان‭).. ‬إلخ،‭ ‬وكذا‭ ‬النسيج‭ ‬الذي‭ ‬تتلاقح‭ ‬فيه‭ ‬وتتخاصب‭ ‬معارف‭ ‬ومفاهيم‭ ‬متباينة‭ ‬ومتباعدة‭ ‬لتنبني‭ ‬في‭ ‬منهج‭ ‬أو‭ ‬مقاربة‭ ‬لمواجهة‭ ‬نص‭ ‬أدبي‭ ‬ينتصب‭ ‬باعتباره‭ ‬سؤالاً‭.‬

قدر الناقد الأدبي هو أن يكون مثقفاً شاملاً، له القدرة على النهل من المعارف المختلفة، وبقدر عمق ثقافة الناقد بقدر قدرته على استنطاق النصوص الأدبية واستخراج مكنوناتها. فالنص، وبحكم نسيجه، متعدد، تتراكب بداخله مستويات مختلفة، نحوية وإيقاعية وتخييلية وتقنية، وعلى الناقد أن يتسلح في فحصه لهذه المكونات بمعرفة وافية بقواعدها ووظائفها وطرق تشكلها في النصوص.

 

ترويض‭ ‬المتوحش

النص الأدبي في حد ذاته انحراف عن اللغة العادية، وداخل كل نص هناك أثر تخريبي لما هو مألوف واعتيادي، فتحت ضغط الصنعات الأدبية، تتشدد اللغة الاعتيادية وتتكثف، وتتلوى، وتتداخل وتتطاول، وتنقلب وتقف على رأسها. إنها لغة «جعلت غريبة» على حد تعبير تيري إنغلتون. يعمل النقد الأدبي في العمق على ترويض المتوحش في النص ورده إلى المجتمع الذي شرد عنه. النقد الأدبي هو عمل المؤسسة ضد الغريب والمنفلت والمقوض، ومن هنا تأتي أهمية النقد الأدبي كوسيط في التاريخ الثقافي للشعوب، بين مخيلتها وشطحاتها الفنية وإدراكها الاعتيادي للأشياء.

 نروم من هذا المدخل الموجز، التنصيص على أن النقد الأدبي ذو أهمية بالغة في حقل الممارسة الثقافية، وأن له بكل تأكيد آثاراً أيديولوجية، وهو دوماً مشحون بدلالات تتجاوزه في ذاته. إن دور المرمق أخطر مما يمكن أن نتصور، فهو يد ثقافة تعمل على أن تختار وتبعد وتفرز وترتب وتسيطر على كل أشكال الخطاب وتقلل من فداحة آثارها. لذا، فحين نتناول اليوم ناقداً أدبياً كبيراً هو محمد مندور، فإننا وبالضرورة نتناول مرحلة مهمة من مراحل تكوين الثقافة العربية الحديثة، إثر انفتاحها على الآداب والمعارف والعلوم الغربية (الأوربية تحديداً) وتطلعها إلى أن تكون في مستوى العصر الذي تنتمي إليه.

 مثَّل محمد مندور، وبشكل جيد، الجيل الثاني الذي أتى بعد جيل الرواد الذين احتكوا مع الثقافة الغربية في منابعها، حين سافروا في بعثات طلابية (لعل أبرزهم في هذا المجال الذي يخصنا هو طه حسين). هذا الجيل الذي لم يعش صدمة اكتشاف التفوق المذهل للحضارة الغربية ولا عاش التمزقات الفكرية والعاطفية التي استتبعت اكتشاف عالم غريب، كل شيء فيه مرتب ومضبوط، عالم يحكمه العقل والمادة، وعلى كل ما يتحرك فيه أن يثبت نفسه في محكمة الجدوى والمنفعة، جيل لم يكن عليه أن ينبهر ويجتر ويقلد، بل كان يجب عليه أن يستوعب ويفحص وينخّل ويفهم عمق الأشياء وليس ظاهرها، والأسس التي تقوم عليها. لم يكن من المقبول أن يدعو أحد من هذا الجيل الثاني، المصري، كما فعل طه حسين  «ليشعر كما يشعر الأوربي وليحكم كما يحكم الأوربي، ثم ليعمل كما يعمل الأوربي ويصرّف الحياة كما يصرّفها..» (مستقبل الثقافة في مصر)، لأنه تسلح برؤية نقدية للحضارة الغربية، صارت قادرة على استنطاقها وتبيّن مناطق قوتها وهشاشتها، وأيضاً قادرة على مجابهتها بخصوصية ثرية وقادرة على أن تتفاعل معها من دون إحساس بعقدة النقص.

 

ثقافة‭ ‬متنوعة

فهم محمد مندور، ومنذ بداية مساره الجامعي، أن عليه أن ينوّع ثقافته وأن ينهل من كل الفروع المعرفية المتاحة أمامه. ومن النادر، حقيقة، أن نجد ناقداً أدبياً امتلك سعة ثقافة مندور وتنوعها، والتي امتدت من الأدب إلى القانون والاقتصاد السياسي والتشريع المالي والفلسفة والتاريخ، وصولاً إلى علم الاجتماع وعلم النفس،  بل إن مندور درس حتى علم الأصوات لينجز بحثاً رائداً في موسيقى الشعر العربي وأوزانه ومقاماته. وكان مندور وهو في باريس يحضر كل الدروس التي يمكنه وقته من حضورها. هذه الثقافة الرصينة والواسعة التي بناها مندور لبنة لبنة، هي التي أهَّلته أكثر من غيره ليكون عراب المذاهب والفنون الأدبية في الثقافة العربية، وأستاذ الدرس الأدبي العربي بامتياز كبير، فقد فهم بشكل مبكر، كما يثبت العديد من مقالاته السجالية، أن الثقافة العربية تبني مواقف كثيرة من قضايا تجهلها جهلاً قاتلاً، وأنها تعنى بالقشور، ومن آفاتها الكبيرة ولعها بالملخصات والاكتفاء البئيس بالأفكار العامة والخطاطات الجاهزة. لذا، كان مندور يوجه الشباب دوماً إلى الاستيعاب المعمّق والرصين للمذاهب وللتيارات الأدبية، فلا يمكن أن يكون عندنا أدب عظيم إلّا إذا كان منفتحاً على الإنسان أينما كان، هو الذي كان يمتلك عمقاً في الأفكار التي يعبّر عنها وعمقاً في الأحاسيس التي تنضح منه. ولا سبيل إلى ذلك، إلّا باستيعاب الآداب العظيمة للشعوب الأخرى، مثل التراجيديات اليونانية.

آمن محمد مندور، وكان رائد عصره في هذا، بأن لا إصلاح إلا في المنهج وبالمنهج. لذا اهتم باستعراض بواكير النقد المنهجي عند العرب، وتلمّس أسسه، وسعى دوماً إلى بلورة مقاربة منهجية للنص، تحيط بكل مستوياته اللغوية والجمالية والأيديولوجية، بما أن النص لا ينفصل عن المجتمع الذي يولد فيه.

كما آمن مندور بأن المسؤولية التنويرية للمثقف تدعوه إلى أن ينخرط في الصراع الشرس من أجل الحرية والديمقراطية والاشتراكية. لذا، كتب وهاجم وساجل وانتقد في الصحف التي أدارها أو كتب فيها، وانخرط سياسياً في الجناح اليساري للوفد، وآمن بدور العمال والفلاحين في صناعة مستقبل أفضل للبلد، وكان مستعداً لأداء ضريبة مواقفه بكل شجاعة، فاستقال من الجامعة ومن بعض الجرائد، حين أحس بأن كرامته مسّت، أو أنه مُنع من التعبير بكل حرية عن رأيه، رغم أنّه كان يعرف أن استقالته تلك تحرمه من مورد عيشه وتعرّضه لبؤس شديد. كما أنه وبسبب مواقفه الشجاعة تعرّض للحبس الاحتياطي أكثر من عشرين مرة بين 1945 و1946 فقط.

 

الشعر‭ ‬المهموس

هذه الخصال والملكات هي التي أهَّلت محمد مندور، وفي وقت مبكر، لإطلاق عملية تفكير عميق في الوضع الاعتباري للأدب، وتناول بعض الأسئلة التي لم يعتد النقد الأدبي طرحها، من قبيل ماهية الشعر وطبيعة الأدب واللغة الأدبية تحديداً وعلائق الأدب بالنفس والحياة. وفي الوقت الذي كان فيه النقد أسير ثنائيات سجالية مستهلكة: القدماء والمحدثون، الشكل والمضمون، المحلي والكوني... كان مندور يصرّ، وفي الوقت نفسه تقريباً الذي بدأ فيه جان بول سارتر في طرح أسئلته الوجودية عن الكتابة الأدبية، على طرح أسئلة ومقاربات جديدة لوضعية الأدب العربي. وهكذا، وبتاريخ 11 أغسطس 1942 وفي مجلة «الثقافة»، كتب أول مقال من سلسلة مقالات حول الشعر المهموس، معلناً «نريد أدباً مهموساً أليفاً إنسانياً»، معرفاً الهمس في الشعر بأنه «ليس الضعف وليس الارتجال وليس قصر الشعر على المشاعر والعواطف فقط،  بل هو تلك اللحظة التي تقرأ فيها الجملة فتحس أن خلفها ثروة في الفكر والإحساس». المهموس من الشعر هو الذي يخلو من الخطابة والمزايدات اللفظية التي تزرع رياحاً وأعاصير في اللغة، غير أنها غير قادرة على توليد قطرة ماء رقيقة واحدة. وقد رأى مندور أن شعر المهجر يجسّد روح هذا الشعر المهموس الصادق الجميل الذي يؤثّر في الوجدان بعيداً عما سمّاه «الطرطشة» الخطابية. وقدّم على ذلك مثلاً من قصيدة «أخي» لميخائيل نعيمة، وقصيدة «يا نفس» لنسيب عريضة.

لا شك في أن مندور بدعوته إلى الشعر المهموس، قد ألقى حجراً كبيراً في بركة نقد عربي، كان حتى ذلك الوقت ضائعاً في إشكالات تاريخية ومقاربات جامدة للنصوص، مازالت تجتر مبادئ عمود الشعر كما حدده أبو علي المرزوقي (421 هـ) في المقدمة التي استهل بها شرحه لحماسة أبي تمام. ويمكن اعتبار دعوته تلك أول محاولة شجاعة للتفكير في الوضع الاعتباري للأدب، ماهية ووظيفة، وسط حشد من أشكال الخطاب التي يحفل بها المجتمع، ولاحظ، عن حق، أن الشعر والأدب عموما محكومان بخصوصية «إشباع دلالي» تجعله لا ينقل رسائل ومعلومات، كالخطابة، بل يكثف وينقل إحساساً بالأساس، بتوتراته وتوازياته وتقابلاته. الأدب قطعة لا تحاكي الحياة فقط، بل هي الحياة نفسها، ومن يقولون «إن الصدق في الأدب هو مقياسه الوحيد فهذا قول بدائي، الأدب أعمق من الصدق»، يؤكد مندور، لأنه يخلق حياة مكتفية بذاتها وقادرة على إقناعنا بأنها مكتملة وعلى التأثير فينا.

 

الأدب‭ ‬مفارقات

الأدب  في نظر مندور مفارقات، هذا ما خلص إليه في تأمله لماهية الأدب، في الأربعينيات، وغطت عليه دعوته إلى الشعر المهموس، وما تبعها من جدال قوي مع نقاد آخرين رأوا فيها تهافتاً واضحاً مثل سيد قطب وغيره، ولم ينتبهوا وسط هذا السجّال المحموم عن أحقية شعر المهجر في أن يكون نموذجاً يحتذى، إلى أصالة تفكير جديد في طبيعة الأدب وخصوصيته، كاشتغال على اللغة بوصفها المجال الحقيقي الذي تتحرك فيه الحياة الإنسانية. نقرأ في كتابه «الميزان الجديد»: «من حسن حظ الأدب الذي هو أدق وأرهف وأعمق وأغنى من أن نخطط له طرقه. الأدب شيء غير دقيق بطبيعته ومحاولات أخذه بالمعادلات جناية عليه، الأدب مفارقات» 
(ص 177 ـ 178). وسيعود للفكرة نفسها، في كتابه «في الأدب والنقد»  سنة 1949: «إن الأدب بطبعه مفارقات، وهو فن جميل، والمفارقات ليست لها معادلات جبرية والجمال بطبعه لا يقنّن، ثم إن التفكير القاعدي في الأدب خليق بأن يقود إلى التحكم». 

ظاهرياً يدعونا هذان النصّان إلى الابتعاد عن المقاربة العلموية Scientiste للنصوص، ويقولان لنا إن أدبية الأدب مفارقة ومنفلتة، ولا يمكن ابتكار معادلات علمية قادرة على الإمساك بها. ولا يمكن أن يكون للإحساس شكل أو قالب، إنه تفاعل وكيمياء غامضة بين النص ومتلقيه. لذا، انتقد مندور  مسرحية بيجماليون لتوفيق الحكيم، مثلاً، لأنها مغرقة في التجريد العقلي، لكن في القول بأن  «الأدب في طبعه مفارق» محاولة تنظيرية أصيلة ورائدة لبناء استقلالية الشيء الأدبي.

فالأدب ليس وثيقة تاريخية ولا اجتماعية ولا نفسية، الأدب مفارق لكل شيء. الأدب أدب، وهو ممارسة جمالية خاصة، لا تتكلم مثلما تتكلم المعارف والعلوم وأشكال الخطاب الأخرى. للأدب قوانين موضوعية خاصة به، وهو انعكاس للأعماق الخفية للنفس البشرية، وقوة إيحاء تؤثر فينا مثلما تؤثر صروف الحياة. كان مندور في الأربعينيات وبحدس نقدي خلاق أقرب ناقد أدبي في العالم العربي آنذاك لما كان يجري في النقد الأدبي العالمي، من ثورة بدأها الشكلانيون الروس، منذ مقالة فيكتور شكلوفسكي سنة 1917 الرائدة «الفن بوصفه تكنيكاً»، حيث نظر لفكرة أن ما يتغير في تاريخ الأدب هو صنعة الصورة فقط. والإسهام الكبير لرومان جاكبسون الذي اعتبر أن أدبية الأدب حقل من الألسنية، ونظر للوظيفة الشعرية التي تعي فيها اللغة ذاتها وتنصرف إلى الافتتان بقدراتها، إلى الإسهامات البنيوية والظاهراتية والهرمنوطيقية (هوسرل، هايدغر، بول ريكور، يوري لوتمان...)، التي آمنت بإمكان بناء «علم» للأدب، ولو أنه علم «للأشكال» وليس «للمضامين»، كما نص على ذلك رولان بارت.

 

‭ ‬تفاعل‭ ‬المشارب‭ ‬والاهتمامات

كم نأسف، إذن، لانصراف مندور بعد الأربعينيات للعناية بالوظيفة الأيديولوجية والاجتماعية للأدب، بتأثير من مواقفه السياسية ومن ثورة 1952 ومن زيارته للاتحاد السوفييتي (السابق)  على حساب الوظيفة اللغوية والجمالية. وضاعت أصالة وفرادة وريادة ما حدسه في الأربعينيات، وحاول أن يلهج به دون أن يمتلك المفاهيم اللازمة والوضوح المنهجي الضروري اللازمين لذلك. وكلها أمور لا يخلقها الأفراد مهما كانت عبقريتهم، بل توفرها مؤسسات بحث ومجهود جماعي تفاعلي. فلا ننسى أن الشكلانيين الروس عملوا في حلقة موسكو، وأن جاكبسون التحق بعد ذلك بحلقة براغ، وبعدها اشتغل في الولايات المتحدة الأمريكية رفقة كلود ليفي ستراوس، وأن الكثير من الأفكار العميقة عن الأدب وخصوصاً في جانبه الأليغوري بلورت في مدرسة فرانكفوت، بما يفيد أن التصدي لإشكال الوضع الاعتباري للأدب يتطلب جهداً جماعياً، تتفاعل فيه مشارب واهتمامات وقدرات مختلفة، وهو الأمر الذي افتقده العالم العربي ومازال - مع الأسف - يفتقده بشكل محزن.

الأدب همس وكلام خافت mi voix وهش، وليست له حجج وعضلات الأشكال الأخرى للخطاب، وليست له قدرة على إثارة الحماس وإلهاب النفس، مثلما تفعل الخطابة وسط الجموع. يولد الأدب دوماً في العزلة والإحساس بعدم كفاية الواقع، وتؤججه دوماً مخيلة تقاوم الواقع بإعادة صياغته من جديد لحسابها الخاص. غير أن الأدب وفي همسه وهشاشته قوي وجبار، فرغم كونه «تمثيلاً مخادعاً للحياة»، كما قال ماريو فارغاس يوسا، فإنه يساعدنا بشكل أفضل على فهمها، وعلى قيادتنا في المتاهة التي ولدنا فيها، والتي نجتازها، والتي نموت فيها. إنه يعوضنا عن الخيبات والكبت اللذين تصفعنا بهما الحياة الحقيقية. أحس مندور بهذا ودافع عنه وساجل الآخرين من أجل المنافحة عن هذا الهمس القوي الذي يجعل من الأدب شيئاً جارفاً، مثل سيل عتي يتجمع في شكل قطرات مهيضة تنقلها جداول هادئة نحو المجرى الهادر... قد نتحمل عالماً من دون أشياء كثيرة لكننا لن نتحمل، حتما، عالما من دون أدب يهمس فيه القلب للقلب، وتداعب فيه المخيلة المخيلة، وتتحرر فيه الأشياء من جبرية الواقع وبلادته لتصبح حرة كلما ولدها الخيال .