ابن جيل «كراك» خورخي فولبي مستشرفاً أفول المثقّف الكامل

ابن جيل «كراك» خورخي فولبي مستشرفاً أفول المثقّف الكامل

في‭ ‬أيامنا‭ ‬الحاضرة‭ ‬التي‭ ‬يلفّها‭ ‬السواد‭ ‬والتململ‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬حدب‭ ‬وصوب،‭ ‬وفي‭ ‬زمننا‭ ‬المتردّد‭ ‬الذي‭ ‬يضبط‭ ‬إيقاعه‭ ‬التطرّف‭ ‬ويستهويه‭ ‬الانغلاق‭ ‬على‭ ‬الآخر،‭ ‬كان‭ ‬لابدّ‭ ‬من‭ ‬استراق‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تحويه‭ ‬جعبة‭ ‬الكاتب‭ ‬المكسيكي‭ ‬وابن‭ ‬جيل‭ ‬اكراكب‭ ‬خورخي‭ ‬فولبي‭. ‬يجري‭ ‬استدعاء‭ ‬هذا‭ ‬الصوت‭ ‬الكتابي‭ ‬مراراً‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الغربيّة‭ ‬للوقوف‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬عنده،‭ ‬وها‭ ‬هي‭ ‬صحيفة‭ ‬اإيل‭ ‬موندوب‭ ‬الإسبانية‭ ‬تشرع‭ ‬له‭ ‬صفحتها‭ ‬الأدبيّة‭ ‬أخيراً،‭ ‬مجرية‭ ‬معه‭ ‬حواراً‭ ‬مواتياً‭ ‬في‭ ‬الفحوى‭ ‬والتوقيت‭. ‬أظهرت‭ ‬اليومية‭ ‬الواسعة‭ ‬الانتشار‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تصغي‭ ‬إلى‭ ‬مقاربة‭ ‬فولبي‭ ‬المنوطة‭ ‬بقدرة‭ ‬بعض‭ ‬صنوف‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬جعل‭ ‬الإنسانيّة،‭ ‬في‭ ‬معناها‭ ‬الأسمى،‭ ‬تندثر‭.‬

ردّ فولبي على جميع الاستفهامات المرتابة من واقعنا الراهن وبدا وفياً لنفسه ولاقتناعاته التي دأب يعبّر عنها من دون تلكؤ أو تردد، كما حين التقيته في العاصمة اللبنانية، في عام 2009. سبعة أعوام مرّت على حواري البيروتي مع الكاتب، غير أنه في 2016، يتراءى على حاله ميالاً إلى الإصغاء إلى أسقام الدنيا. 

وإذ تُعرّف «إيل موندو» عن فولبي كأحد أكثر المثقّفين تأثيراً في القارة الأمريكية، لا يخفي المؤلّف ارتيابه من طبيعة المثقفين أنفسهم في القرن الحادي والعشرين. يجزم بأننا وصلنا إلى عصر أفول المثقّف الكامل بعدما ارتقى في حقبة تفشي الأنظمة الدكتاتورية في أمريكا اللاتينية ليصير المتحدّث المناهض للسلطة. أما اليوم، ومع انتشار الديمقراطية وفي عصر سيادة وسائل التواصل الاجتماعي، فلا مفرّ من الإقرار بأن تأثير المُثقّف في الناس من حوله إلى تراجع ملحوظ. في عرف فولبي، في وسع أي شخص اليوم أن يُبدي رأيه وبالسرعة عينها التي تميّز بها المثقّف وأن يحظى بالشرعيّة نفسها أيضاً. ربما يمكن للفنّانين ورجال العلم، كما يزيد فولبي، أن يأتوا بعناصر تفيد النقاش العام غير أنهم سيقصّرون حتماً في لعب دور البطولة الذي اضطلعوا به في الحقبات الغابرة. 

في لقائها معه تدفع صحيفة «إيل موندو» بفولبي إلى تأمّل موقف المُرشّح الجمهوري للرئاسة الأمريكية دونالد ترامب (الرئيس الحالي) وتحيله إلى تعمّد السياسي المحافظ إهانة المهاجرين المكسيكيين. يحاول فولبي من موقعه كمثقف أن يحلّل هذا النسق من ترّهات السياسيين حين تجتذبهم الأفكار المتطرفة، فيقول في هذا الشأن «إنها لمفارقة فعلاً أن يَسع ترامب إطلاق هذا الخطاب المعادي للمكسيكيين في بلاد تسود فيها التربية السياسية. لكن في حال نطق بأمر مماثل في خصوص الأمريكيين المتحدّرين من أصول إفريقية لكان ذلك زعزع موقعه كسياسي، ولكانت مسيرته انتهت عند هذا الحدّ. بيد أنه يجري النظر إلى الوافدين من أمريكا اللاتينيّة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويا للأسف، وفق منطق أن مكانهم في أسفل السلّم الاجتماعي».

يقول فولبي هذا النسق من الكلام لصحيفة «إيل موندو» في حين لم يخفِ يوما تحفّظه عن فكرة عدّ المكسيك جزءاً من أمريكا اللاتينية. والحال أنه كتب في هذا الصدد: «نقول كمكسيكيين وعلى نحو عفوي إننا أمريكيون لاتينيون. غير أنه تعبير لا يمتّ إلى الواقع العملي بصلة، إنه أشبه بالأمنية». يبدي فولبي تعلقا شديداً بالطابع العابر للهوية المشتركة المفترضة، ويصرّ على التمسك بواقع أن الهويات كانت دوماً تخييليّة ومخترعة. يمرّ في حال المكسيك بتلك الدينامية الخاصة على الصعد السياسية والاجتماعية والديموغرافية والثقافية والتي تتكون شيئاً فشيئاً، ذلك أن بلاده - وفق ما يعاينها - موجهة في هذا المضمار صوب الشمال أكثر منها صوب الجنوب، وهي تدير وجهها إلى الولايات المتحدة أكثر منه إلى البلدان الجنوبية الأخرى. 

يتشبّث فولبي بهذه الفكرة في حين نتذكّره للمفارقة, حاصداً جائزة «ديباتي كازا دي أمريكا» بفضل بحثه الجدالي والمحفّز للمناقشة «أرق بوليفار. أربع حجج غير مناسبة في شأن أمريكا اللاتينية في القرن التاسع عشر»، حيث راقه المرور بأحلام الحرية والازدهار في أمريكا الإسبانوية التي تحوّلت كوابيس، وحيث استعاد تطبيقات فكرة التحرّر في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية. من خلال بحثه توصّل فولبي إلى استنتاجات ذات قيمة في شأن وضع أمريكا اللاتينية راهنا بعد انقضاء أكثر من قرنين على نيلها الاستقلال. 

 

الخروج‭ ‬على‭ ‬المجموعة

لم يكن فولبي اسماً عابراً في سياق آداب أمريكا اللاتينية، ولن يكون كذلك مُستقبلاً، ذلك أنه أراد مبكراً أن يشدّد على خروجه على المجموعة. انتسب إلى ثلة من الكُتّاب المكسيكيين أنشأوا ما سيعرف لاحقاً بجيل «كراك» في منتصف تسعينيات القرن العشرين. هؤلاء نشروا بياناً أو «مانيفستو» تلقّفه الوسط الأدبي في الجزء الجنوبي من القارة الأمريكية، كأنه انتفاضة، وإن محدودة البعد، على ما سبقه. والحال أن فحواه جاء، في أقلّ تقدير، بمنزلة التعبير الجليّ الذي لا لبس فيه عن مآل حلقة أدبيّة ناشئة أرادت أن تستقدم مقاربة مُختلفة للتمرين التأليفي الدارج. 

يومذاك بزغت تلك الأصوات المُتمثّلة بفولبي إلى جانب ريكاردو تشافيز كاستانييدا، وإيناثيو بادييا، وميغال أنخيل بالو، وألوي أوروز لتُجهر «أنا موجودة»، وذلك خارج عمارة الواقعيّة السحرية التي كانت سطت، خلال أعوام مديدة، على الجزء الأكبر من إصدارات أمريكا اللاتينية الأدبية. فعل جيل «كراك» ذلك في موازاة إصراره - وبرغم عمق انقلابه المفهومي العلني - على أن يحتوي التنوّع في رزمة من اقتراحاته المجدّدة التي اتسمت في المقام الأول، بالفوضويّة والتباين في آن، وعكفت في المقام الثاني، على تصحيح الخلل الذي أصاب جيلاً كاملاً، جيلاً وقع ضحية التصنيفات الجاهزة.

حين التقيتُ الكاتب المكسيكي فولبي في بيروت، تحدّثت إلى صوت رُكنت إليه امتيازات عدة، من بينها جائزة «إيبيرو أمريكانو بلانيتا - كازا دي أمريكا للسرد» 2012، وكان ضرورياً سؤاله من موقعه كأحد أعمدة جيل «كراك»، عن هذه الحركة الأدبية ذات النفس التمرّدي. استفهمته تالياً عن «المانيفستو» أو البيان المشترك الذي صدر في 1996 بدفع من خمسة كتّاب، كان هو أحدهم، طافوا على سطح المشهد الأدبي من طريق إصدارهم روايات استوقفت النقد والقرّاء على السواء. بدا ملحاً جداً وأنا أحاور فولبي أن أقف على محصلة التأمّل الذي انبثق من روايته «الطباع الكئيبة» التي أدرجت ضمن هذه العناوين الروائية الدافعة لولادة جيل «كراك». منّ عليه هذا النصّ الروائي بالانضمام إلى المجموعة الأدبية المـــستحدثــــة، حــيث تظهر التجديد الأدبي سمةً أساسيّة، وجعل منه المدخل الضروري إلى بلورة تفكّر عميق في شأن مصير الأعمال الفنية ومبدأ نهائية أفعالنا جميعاً. 

 

الطباع‭ ‬الكئيبة

يومذاك، خلال لقائنا، لم يتحفظ الكاتب المكسيكي فولبي عن تشكيكه الواضح في إمكان أن يصل إلى الخلاصات الناجعة أو الممكنة. بيّن وفي يسر لافت عن «اللا يقين» الذي رفعه كراية، قبل أن يضيف رداً على سؤالي الاستفهامي حول «الطباع الكئيبة»: «في هذه الرواية  تشكّلت الثيمة حول السؤال الآتي: كيف يسعُ الفن أن يؤدي إلى تدمير شخص معيّن؟ طَرحتُ السؤال عن طريق استعارة الشريط السينمائي والممثلين. لاحقاً، لم يعد السؤال نفسه يقتصر في رواياتي الأخرى على الفن فحسب، وإنما بات يشمل أيضاً العلوم القادرة على الخراب. أتيتُ بتأمّل في القدرة التدميريّة التي تنطوي عليها أفضل الأمور التي ابتكرت في المبدأ من أجل خير الإنسان».  

ضمّ «مانيفستو» جيل «كراك» نصّاً لفولبي حلّ عنوانه في منطق الاستفهام، وجاء فيه «أين تكمن نهاية العالم؟» أعاد في كنفه استدعاء كتاب «ذاكرة الأيام» لمواطنه الكاتب بيدرو بالو الصادر في عام 1995، وهو كناية عن رواية تستلهم من حيث البنية، روايات الأسلوب القروسطي (نسبة إلى القرون الوسطى)، وحيث يتوجّه أعضاء غريبون في مجموعة دينية في رحلة حجّ خلال عام 1999 المتخيّل صوب لوس أنجلس بحثاً عن أتباع، في حين يجهلون أنهم يتوجهون صوب دمار عالم المدينة أيضاً. يجوب شخوص الرواية المختلفون العالم محاولين أن يفسروا للمشككين أن العالم على وشك الاختفاء، تماماً مثلما يفعل المخرج السينمائي كارل غوستاف غروبير المحتفى به في رواية فولبي «الطباع الكئيبة». في حين يستمع إليه البعض وتتبعه حفنة منهم، تهزأ به الغالبية أو تدينه. في المحصلة ينزلق صوب فقد صوابه، ولا يلبث أن يتسبّب في مجزرة ضمن أفراد البدعة. والحال أن فولبي يكتب في نص «مانيفستو» جيل «كراك» كمحصلة: «يظنّ العلماء كما النقّاد أنهم يمتلكون الكلمة الفصل، يقولون إن الدينونة ها هنا تَبدّت في النهاية مجرد خديعة وإن شيئاً لم يتبدّل. غير أن ما يجهلونه ويعجزون عن إدراكه هو أن تضحية لوس أنجلس ليست في الواقع سوى مأساة تم الإعلان عنها، مرات عدة. ذلك أنهم لا يملكون البُعد الأخلاقي أو القيمة الضروريين بغية إدراك أن نهاية العالم لا تحدُث خارج العالم، إنما في قلبه، في حال أعدنا صوغ أحد أقوال نيتشه». يزيد فولبي: «ليست نهاية العالم أكثر من نوع من الخرافة أو ضرورة تسويقية، تفترض حالاً روحيّة معينة. أن التدمير الخارجي هو الأقلّ أهمية في حال جرت مقارنته بالاندثار الداخلي». 

لا نشكّ في أن جيل «كراك» صمّم على إنجاح الانتفاضة على الموروث، غير أنه أتمّ ذلك من دون الرغبة في قتل الأب. 

الثورة جوانية إذاً، غير أن ذلك لا يثنيها عن أن تكون، وفي الوقت نفسه، تخريبية تماماً .