ذكريات مع راهب العلم إحسان عبّـاس

 ذكريات مع راهب العلم إحسان عبّـاس

بلى،‭ ‬طوى‭ ‬الساحل‭ ‬وتسلّق‭ ‬الجبل،‭ ‬حيث‭ ‬أنا‭ ‬حالٌّ‭ ‬عهدذاك،‭ ‬خبرُكَ‭ ‬الحزين،‭ ‬يا‭ ‬إحسان‭ ‬عبّاس‭. ‬قالوا‭ ‬إنّك‭ ‬ارتحلتَ،‭ ‬يا‭ ‬صديقي‭ ‬الأَعزّ،‭ ‬يوم‭ ‬الثلاثاء‭ ‬29‭ (‬يوليو‭) ‬2003‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الخبر‭ ‬صاعقاً،‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليّ،‭ ‬فلقد‭ ‬هيّأتُ‭ ‬نفسي،‭ ‬منذ‭ ‬بعض‭ ‬الوقت،‭ ‬لصدمةٍ‭ ‬عاطفيّة‭ ‬كهذه،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬أنّ‭ ‬الأَوجاع‭ ‬كانت‭ ‬تنوشك،‭ ‬ووقف‭ ‬الطبّ‭ ‬عاجزاً‭ ‬عن‭ ‬مدّ‭ ‬يد‭ ‬العون‭ ‬إليك،‭ ‬لأنّك‭ ‬جاوزت‭ ‬الثمانين‭. ‬

كنتُ أَستعذب دماثتك وحديثك الودود؛ أَفِدُ عليك وتسأَلني: كيف أنت؟ فأُجيبك: مشتاق.فتردّ عليّ: هذا بعض ما عندي. ولكنّ الأَوصاب احتشدت عليك ككرة الثلج، تتخلّص من وجع وعضوٍ مُضَام لتُصاب بثانٍ وبموقع مختلِف؛ وآخِر الرزايا التهاب صدريّ فقدتَ على أَثره الصوت! لا أَدري ماذا أَقول؟ كنت أَفتقدك على مدار السنوات التي حللت فيها عمّان، التي ارتحلتَ إليها عام 1986؛ ولم تزر بيروت بعد ذلك سوى مرّتين أو ثلاث، على ما أَذكر، آخِرها عام 1999، عندما كرّمك النادي الثقافيّ العربيّ، إبّان معرضه السنويّ للكتاب، الثالث والأربعين، وكانت أُمسية لا تُنسى، راشحة بالعلم، فوّاحة بالوفاء والعواطف الزاخرة. وفي ذلك التاريخ، نهاية عام 1999، كرّمتك الدولة اللبنانيّة، عهد وزارة صديقك الدكتور سليم الحص، بمنحك وسام الأَرز من رتبة فارس. وكان للمناسبة عشاء حميم في فندق البريستول، حضره الدكتور الحص، ثم انسحب من الأُمسية لأنّه ينام باكراً. وعندما جاء ذكره، إثر مغادرته، قال أحدهم ضاحكاً: لقد نام! وكيف لي أن أَنسى وجهك الجميل، ومعطفك الأنيق، وجسدك الذي بدأ يدهمه النحول؛ وقد قلت لي ليلة وصولك إلى قاعة المعرض: إنّ الكِبَرَ أَسرع إليّ، يا أَحمد. وإنّ الحياة لا تكتسب معناها وجدواها إلّا مع شخصٍ فذٍّ، نظير ما كنت عليه؛ وُهِبَتْ له الحياة فبادلها عطاء بعطاء.

 

قبران‭ ‬يتناجيان

وحُمَّ القَدَرُ الغَشُوم، ففارقنا الجسد الربعة، العريض المنكبين، المتهلّل الوجه، العالي الجبهة، الفاتن الابتسامة، ليلتمس قبراً يقيم طيّه في أَرض عمّان. ولكنّ الحياة الروحيّة للإرث الأدبيّ التاريخيّ التراثيّ لإحسان عبّاس، هذه الحياة باقية، راسخة، مستمرّة؛ ما دام هناك أَجيال عربيّة ستَرِدُ على الدوام إلى منهله الصافي. ما تركته كبير، متنوّع، غزير، وشائق. وإذا قِسنا وقارنّا السنوات التي أَمضيتَها، كاتباً ناقداً باحثاً منقّباً محقّقاً مترجماً، بالأَعمال التي أَنجزتها، لأَدركنا عظمة ما تركتَ لنا. لقد أَورثتنا مكتبة غالية هي من نتاج عبقريّتك المتفرّدة.

نزلتَ قبراً في أَرض عمّان، وكان الحريّ بك أن تنزل في عين غزال، القرية التي تفتّحتْ عيناك على عين غزالها، حيث البساتين الخُضْر والقناديل البرتقاليّة، وذلك في ليلة، ربّما كانت غاضبة، والواقعة في الثاني من شهر ديسمبر 1920؛ وفيها ولجتَ المدرسة الابتدائية. ولكن أين هي عين غزال على الخريطة؟ لقد محاها الإسرائيليّون القَتَلَة من الوجود، كما فعلوا بمئات القرى الفلسطينيّة الأُخرى. وأَخلى الجيش العراقيّ، الذي كانت حشوده نازلة في المكان، أَهلها إلى بلاد الرافدين، على أمل أنّهم عائدون قريباً جدّاً إلى معاهدهم. وكان في الطابور المرتحِل: والد إحسان، رشيد، ووالدته، فاطمة، وأخوه من أُمّه محمود، وهو أَكبرهم سنّاً، والشقيقة نجمة، وشقيقاه: توفيق وبكر. أيّ أُمّة ذليلة نحن؟! فمن جملة أَحداث العراق الراهنة أنّ بعض الفلسطينيّين هناك طردهم الناس من بيوتهم في غمرة الفوضى والانتقام، فنصب الفلسطينيّون الخيم ليعيشوا تحتها! بل أين حيفا وعكّا، يا أبا إياس، حيث حصّلتَ الدراسة المتوسّطة والثانويّة؟ أين القدس التي تلفّها الآن أَربطة المستوطنات الصهيونيّة؟ وكنتَ قد ولجتَ فيها الكلّيّة العربيّة وتخرّجتَ فيها عام 1941، وهي المعهد الحكوميّ الباذخ، الذي له أَيادٍ بيضاء ناصعة على رتلٍ كبير من مثقّفي فلَسْطين اللامعين؟ وصَفَد وثانويّتها التي علّمتَ فيها طَوَال خمس سنوات، تُراها تذكر هذا الشابّ الطموح الذي يحمل في إهابه الصغير طاقة متفجِّرة؟

وأنت مضطجع في قبرك ربّما راودتك فكرة رفاقك القدامى الذين سبقوك إلى باطن الأرض. بلى، هناك قبر رفيقك إميل حبيبي، وهو قد تشبّث بالبقاء ونقش على قبره أنّه باقٍ في حيفا. إميل هو الذي سعى ليتأبّط ذراعك إلى صفوف الحزب الشيوعيّ الفَلَسْطينيّ، الذي كان يُدعى عهدذاك: عصبة التحرّر الوطنيّ. ولئن ابتعدتَ في حياتك عهدذاك واللاحقة منها، وقد تقاذفتك المنافي، عن التنظيم الحزبيّ، لقد ظللتَ بالماركسيّة على وِصالٍ ومنهج. وذلك كما تُصرّح بذلك، من خلال حوارٍ ممتع صريح ثريّ جريء، عقده معك رشاد أبو شاور، وذلك في المجلّة التي تُصدرها الأمانة العامّة لجامعة الدول العربيّة، وهي «شؤون عربيّة» 19/20 سبتمبر - 1982، (ص326 - 334). ومن عَجَبٍ أنّ هذا الحوار، على أهميّته وخطورته، يخلو منه كتاب «حوارات إحسان عبّاس» الذي أَعدّه يوسف بكّار، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت 2004. من حظّ إميل حبيبي أنّه رقد في تراب الوطن الدافئ، ولكنّك أنت بقيتَ في غربة، ألم تسمِّ سيرتك الذاتيّة: غُرْبة الراعي؟ هي غربة إنسانٍ نشأ في وَسَطٍ فلّاحيّ يعتزّ بالانتساب إليه، لذا كان يمسّ خاطره أن يستخفّ أحدهم بهذا الوسط في مجرى الكلام، وإن عن غير قصد الأذيّة. ولقد لفتت نظري زوجته أمّ إياس إلى هذه الناحية، ذات مرّة، فكنت لها ممتنّاً.

إنّ الخطابة لا تُجدي، كأن نقول: إنّ الوطن العربيّ قاطبةً يحضن بحنانٍ أحد أَبنائه النابهين. هو قول، من الوجهة النظريّة، صادق، ولكنّ مأساة فَلَسْطين، وكلّ مأساة عربيّة طارئة بعدها، أَعطت البرهان الساطع على أنّ العروبة طبل أَجوف! تُرى، هل «عين غزال» وحدها مُحيت؟ فَلَسْطين تكاد تُمحى، والعرب يتفرّجون! وبالعرب أَقصد: الأَنظمة والشعوب. كم أنت حزين في أَعماق الثرى، يا إحسان عبّاس.

... وإحسان عبّاس

كِدْتُ أَقول: إحسان عبّاس، أين أنت؟

إنّها العدوى، بلا ريب، فلقد قرأتُ، البارحة، «قصيدة إلى ماياكوفسكي» التي كتبتها بالإنجليزيّة إيتل عدنان، ونقلها إلى «العربيّة» مثقّف لبنانيّ، ذو نسيج متميّز، هو فوّاز طرابلسي. هي قصيدة مفعمة بالرهافة، والحسّ الجارح، وبالوعي الأخّاذ. ومطلعها: ماياكوفسكي، أين أنت؟ ليتك كنتَ من قرّائها، يا أبا إياس، إذن لاستمتعتَ بها، كما أُخمّن، استمتاعاً فائقاً. كيف لا، وأنت، المخمَّر بالتراث وبالقصائد العصماء تتخلّل تاريخاً عجيباً لأدبٍ عربيّ حافل بأَسرار لغةٍ تسحرك أَفانين القول فيها ومنعرجاته؟ أنت المحتَقِب هذا كلّه، كنتَ، ربّما، أَوّل ناقد عربيّ التفتَ، على نحوٍ جِدّيّ معمَّق، إلى شعر الحداثة الثوريّ، عَبْرَ كتابك الصادر عام 1955: عبدالوهاب البيّاتي والشعر العراقيّ الحديث.

وأنت في هذا رجل فريد، ذلك أنّ الناظر في المخطوطات التي أَكببتَ عليها محقّقاً دارساً، تتخلّل عيناك آلافَ الصَّفَحات في الفلسفة والنقد والشعر والتاريخ والجغرافيا والأَندلسيّات والأَمثال والرسائل، يَعْجَب أيّما عَجَبٍ كيف ضممتَ هذه المروحة الواسعة من الاهتمامات التراثيّة، فضلاً عن احتفالك الجميل بالأدب الحديث، عربيّه وأجنبيّه، وبمباحثه النقديّة المعاصرة, من ابن حزم وابن حمديس وابن الخطيب وابن خَلِّكان وسائر الأَبناء المعتَّقين البررة، إلى ڤون چرونباوم وهاملتون جِبْ وهرمان مِلْڤل صاحب «موبي ديك»، ملحمة البحر الشهيرة. هي نُقْلة بين العصور لا يجرؤ عليها إلّا مثقّف شموليّ، نادر التكرار.

تقول إيتل عدنان في قصيدتها:

ماياكوفسكي،‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬آتي‭ ‬بالريح

التي‭ ‬ستحمل‭ ‬أَفكاري‭ ‬إليك؟

كلّهم‭ ‬رحلوا‭: ‬الإمام‭ ‬عليّ‭ ‬وتشي‭ ‬غيڤارا

وغسّان‭ ‬كنفاني‭ ‬وأنتَ‭...‬

لم‭ ‬يبقَ‭ ‬إلّا‭ ‬القُساة‭.‬

هل تأذنَ لي، مبدعتي الشاعرة، بأن أُضيف إلى قائمة الأَسماء: ... وإحسان عبّاس؟

 

القميصــــان

نشأتَ صوتاً كئيباً، وجاءت نكبة هي الهول والعلقم، تنعقد معها القلوب قبل الأَلسن، فجرّعتك الغُصَص وزرعتْ في أَعماقك حزناً لا ينقضي! مَنْ كان يشاهد ثغرك البسّام دائماً ووجهك المتهلّل أَبداً يخال أنّك في فرحٍ وموسم أَعراس. هو طبعك الجميل، ولكنّك كنت أَدرى بالأَحوال الحقيقيّة وبالنَّكَسات القوميّة تتوالى، فتشلّك عن العمل والكتابة إلى حين؛ ثم تعود إلى الغرق، طاوياً كَشْحاً عن السياسة العربيّة وشجونها، إذْ هي فالج ما تعالج، والأَوْلى لك أن تتناساها وتنصرف إلى ما ينفعك وينفع الأَجيال المتعطّشة إلى الزاد المعرفيّ الأصيل. ولقد التقيتك بعد نكسة 1967 وإبّان مراحل الحرب الأهليّة اللبنانيّة، وطالعتُ الوجع الذي كان يحزّ، كالمنشار، صدرك وآمالك. صرنا نخشى على أَحبابنا الكبار من النَّكَسات العظمى، ولكنّك أنت أَدركتَ ما حلّ بالعراق من تحريق ونهب وتدمير، فكأنّ المآسي أَبت عليك الرحيل قبل أن تفجعك بما هو غالٍ وعزيز. فإذا أنت بين قميصين لا سبيل إلى نزعهما: وَهَن الجسد ووَنَى الروح.

وكم وَنَى الروح صعب وشاقّ على مَنْ يحرص أن يكون دائماً موفور الكرامة عاليها. ولقد بارح إحسان عبّاس لبنان، الذي مكث فيه طَوَال ربع قرن، ابتداءً من عام 1961، وذلك إلى الأردن حيث استقرّ - وهل من استقرار حقيقيّ لمَنْ ضيّع وطنه وتناوشته الهواجس والهموم الثقافيّة؟ - صار وضعه في لبنان الخراب والقذائف قلقاً منهكاً. وأَمضى مرحلة، بعيداً عن بيته في الصنايع، نزيلاً في الجامعة الأمريكيّة حيث درّس واحتلّ أَعلى المناصب، وذلك ليتمكّن من أن يعمل. ولقد حكى لي، ذات مرّة، قبل مبارحته لبنان، أنّه شاهد حول الجامعة الأمريكيّة رجلاً طاعناً يتعرّض للإهانة، وذلك لأنّه من الذين يلفظون كلمة «البندوره» بنونٍ ساكنة، أي إنّه من أَبناء الكرمل وبحر غزّة! ثم عقّب على الحكاية قائلاً لي: أَخشى أن أَجد نفسي في موقفٍ مُهين كهذا. وعندما غادر لبنان سألني: ما رأيك يا أَحمد، في ما اخترت وانتويت؟ فأَجبته: في الظروف التي نحياها خِيارك هو عين الحكمة والصواب، ولا لوم عليك البتّة ولا تثريب. ولكنّ الأَيّام خيّبته وخيّبت موافقتي على ما انتواه. فبيروت جنّة المثقّفين العرب وكعبتهم، وما من أديبٍ عربيّ عرفها وعاش أَجواءها وخَالَط كتّابها وتنفّس أَنسامها إلّا وتركت في خاطره شوقاً لاغباً بالعودة إليها! هي لا نظير لها بين العواصم العربيّة، لأنّ أُوكسجين الحرّيّة يملأ مسامّها. وإحسان عبّاس بعد أن حلّ فيها آتياً إليها من السودان، حيث عاش رَدَحاً من الزمن وكاد «يتسودن»، لأنّ الجنسيّة عُرضَتْ عليه هناك. إحسان عبّاس عرف متعة العيش في لبنان إبّان ربع قرن من حياته، ثم مضى إلى الأردن، فوقع على جوٍّ ثقافيّ وحياتيّ يخالف ما عهده في بيروت الممتلئة بالفنّ والأدب والمسرح والمحافل الاجتماعيّة الزاهية؛ زِدْ أنّه تعاطى التعليم في أَرقى جامعة. لقد أَبلغني أَحد النقّاد المرموقين أنّ إحسان عبّاس توفّاه الله روحيّاً هناك، قبل زمنٍ طويل من دنوّ أَجله في عام 2003!

 

حبيس‭ ‬الأَوراق‭ ‬والأَقلام

متعة العلم لا توازيها متعة من نوعها، والغوّاص على لآلئها ومَرْجانها لا يبرح يتقلّب بين طعومها ولذائذها. وإحسان عبّاس عرف هذه المتعة أيّما معرفة، ونتاجه الدافق، والتراثيّ منه بخاصّة، ينبئ بإنسانٍ شدّه العلم إلى أَحضانه، فأَمضى سحابة عمره وهو عاكف على الكتب والمخطوطات، يعيش في عالمٍ من ورقٍ وأَقلام، لا من شواطئ وشُرُفات ومتنزّهات. حتّى عندما امتلك، لمرحلةٍ من الزمن، بيتاً في لندن، فقد كان يعرّج خلال الصيف على المكتبات هناك، ويقتني آخِر الإصدارات الإنجليزيّة الراقية في النقد، ثم ينصرف إلى قراءتها خلال إقامته. ولقد ظلّ في لبنان رَدَحاً مديداً من السنين، ولكنّي لا أخاله طاف في مغاني هذا البلد وذاق جمالاته الطبيعيّة. وقصد إحسان عبّاس، ذات مرّة، بمفرده، قبل الحرب الأهليّة، مَصِيْف بحمدون (وليس سوق الغرب، كما كتب أَحد الأَصدقاء) ونزل هناك فندقاً يملكه آل أبي رجَيْلي، ولم يُشاهد إلّا نادراً في رَدَهات الفندق، لأنّه أَمضى معظم وقته حبيس غرفته، يعمل في تحقيق كتاب «الذخيرة في محاسن أَهل الجزيرة» (أي الأَندلس)، وهو لأبي الحسن عليّ بن بسّام الشنتريني، وقد صدر عام 1979 في ثمانية أَجزاء.

وكان أبو إياس يُزار من الأَصدقاء وطلّاب العلم، ولكنّه كان قلّما يزور، لا تكبّراً وتشاوفاً، فحاشا أن يُلمّ به شعور كهذا، وهو الطيّب المتواضع، وإنّما لأنّ العلم استغرقه تماماً؛ ومَنْ كان هذا دأبه فالعمر نفسه، مهما طال، يبدو له سحابة عابرة. وقد توفّيتْ والدتي في فبراير 1983، ولم أَجد إحسان عبّاس بين المعزّين، فشقّ عليّ ذلك، لأنّ رابطة المودّة العميقة التي كانت تجمعنا لا تأتلف مع تقصيرٍ كهذا. وانقضت الأَشهر وأنا منقطع عن زيارته، مع أنّ بيتينا قريبان، فأنا قاطن في الظريف، وهو قاطن في الصنايع، والمسافة بيننا مسيرة دقائق. ثم التقيته في المعهد الألمانيّ للأَبحاث الشرقيّة بزقاق البلاط، خلال مناسبة ثقافيّة اجتماعيّة، وكان في حَلْقة صَخْبٍ، فتركها وأَقبل عليّ معانقاً، معاتباً، قائلاً لي ووجهه تضيئه ابتسامة عريضة: ماذا فعلتُ لك، ماذا جنيت، لماذا لا أَراك؟ ويبدو أنّ جُرْحي لم يندمل، وجراحي عادةً من النوع الذي يطول اندماله لحساسيّتي. وكرّتْ أَشهر جديدة، وعاودت رؤيته في المكان نفسه، وعاود إكرامي بالموقف البارّ الحدوب. فخجلت بعد ذلك من موقفي المقاطع، وعاودت التردّد عليه، وكانت نعمت، أُمّ إياس، هي التي فاتحتني بالأمر عند أَوّل إطلالة، واعتذرت بإلحاحٍ عن التقصير.

وكانت جَلَساتنا المسائيّة في منزل إحسان عبّاس حافلة بالأُنْس، عابقة بالسرور؛ وكان الحديث يجري في كلّ اتجاه وينساب في كلّ مجال. وكنتُ أَلتقي هناك نخبة من رجال الفكر والفنّ: مؤرّخنا الكبير العزيز نقولا زيادة؛ الإخوة سحّاب، قبل أن يبارح المايسترو سليم إلى القاهرة، وكانوا يأتون في هَرْجٍ ومَرْج، وكانت أُمّ إياس تُعلن قدومهم بالقول: «إجو ولاد سحّاب». وكان هناك على الدوام: رِضوان السيّد بذكائه اللمّاح؛ وبعض المستشرقين الألمان من نُزلاء المعهد الألمانيّ للأَبحاث الشرقيّة أو الزائرين للبنان؛ وداد القاضي، وهي، كما اسمها الأَوّل، مودّة دافقة؛ ماهر جرّار، وكان عهدذاك، تلميذاً لمضيفنا، وغدا اليوم باحثاً رصيناً؛ المرحوم محيي الدين صبحي بلهجته الدمشقيّة وطيبته، واسمه الشائع هو المختصر، فهو من عائلة عجّان؛ وغيرهم.

 

‮«‬إنّي‭ ‬أَكتب‭ ‬لنفسي‮»‬‭!‬

وإحسان عبّاس، على غزارة علمه ونفاسة ما خطّ من كُتُب، تقارب المائة جُزْءٍ، بين موضوع ومترجَم ومحقَّق؛ لم يكن أبداً موضوع احتفاء الدارسين والناقدين. أَهو الإهمال؟ وليس عندنا مجلّات تُعنى بما يجدّ من نتاجٍ أَهلٍ للعرض والأخذ والردّ، كما هي الحال في الغرب. والمنابر الثقافيّة، من جرائد ومجلّات ووسائل إعلام مرئيّ، تحتفل بالقليل النادر من الكتب الصادرة، من غير خطّةٍ موضوعة أو منهجٍ متّبع؛ وهذا القليل تدخل غالباً فيه اعتبارات شخصيّة وعَلاقات وصداقات. ثم إنّ النقد في أَزمة جليّة عندنا، ويكاد يغيب عن حياتنا الثقافيّة. أَهو التهيّب؟ وما كتبه إحسان عبّاس ليس من اليسير تناوله كيفما اتفق، إنّه يحتاج، عند عقد الجدال العلميّ مع هذا النتاج الثمين، إلى أُناس ضليعين، يتحلَّوْن بالثقافة التراثيّة والمنهجيّة المحدثة والرحابة الفكريّة، بحيث تكون كتاباتهم النقديّة تثميناً لهذا الجهد الذي بذله إحسان عبّاس عَبْرَ مسيرته الدراسيّة المتّصلة الحَلَقات، ومحاولةً راقية للمخالفة في الرأي بغية الإضافة والإغناء. ولم يحدث هذا في الواقع إلّا في ما ندر، ممّا يدعو إلى العَجَب والتَّسْآل والغرابة. وأَذكر في المناسبة دراسة مطوّلة، في ثلاث حَلَقات، نشرها رِضْوان السيّد: الكاتب والسلطان، نظرة في نشوء النثر الفنّيّ العربيّ («السفير» 6 و10و11/5/1988)، وكان لها وقع علميّ طيّب في نفس إحسان عبّاس، وهي تنعقد حول كتابه القيّم «عبدالحميد بن يحيى الكاتب، وما تبقّى من رسائله ورسائل سالم أبي العلاء» (دار الشروق، عمّان 1988).

ثم أين هي أُطروحات الدكتوراه تنعقد حول سيرة إحسان عبّاس وأَعماله، ويسعى إليه كاتبوها يستنطقونه إبّان حياته عن مفاصل سيرته وإشكالات أَعماله النقديّة والتراثيّة؟ لهذا كلّه أُدرك العبارة التي قالها لي إحسان، ذات مرّة، والتي لا ريب أنّها صادرة عن مرارةٍ متفاقمة وكبرياءٍ جريحة، وإن كان الدكتور إحسان يحرص على الإدلاء بها في لامبالاةٍ، كانت من سمات طبعه: «إنّي أَكتب لنفسي، يا أَحمد»! أيّ منا يكتب لنفسه؟ بلى، كلّ منا فاعل هذا، على أساس أنّ الكتابة أيضاً متعة وعمل ذاتيّ. ولكنّ الكتابة التزام، سواء أَدرك الكاتب الأمر أم كان به غير واعٍ؛ والكتابة رسالة موجَّهة إلى القرّاء، إلى الآخرين، إلى العقول المشاركة، إلى الأَرواح المنفعلة. صحيح أنّ إحسان كان عضواً مشاركاً في المؤسّسات الثقافيّة العربيّة الكبرى التي تعطي الجوائز؛ وهو، كما أَخبرني، كان العنصر الفعّال وراء إعطاء حسين مروّه «جائزة بيروت» في عام 1985. وكانت هذه المؤسّسات الكبرى تزيحه أَحياناً عن عضويّتها، ليتاح لها أن تمنحه جوائزها. وهكذا نال إحسان في عام 1981 جائزة الملك فيصل العالميّة للأدب العربيّ. ولكنّ الصحيح أنّ الكاتب بحاجة أيضاً وخصوصاً إلى الجائزة المعنويّة. وعندما يعرف أنّ الناس يقرأونه حقّاً ويتلقَّوْن نتاجه بمودَّة وشَغَف؛ وعندما يجد أنّ الدارسين يمطرونه بالآراء، المؤيّدة منها والمخالفة؛ عندئذٍ يتاح له أن يستشعر أنّه يكتب لنفسه وللآخرين معاً.

 

العلّامة‭ ‬المتواضع‭ ‬الحيي

وكان إحسان عبّاس، إلى رقّته وعذوبته، على شيء من الخَفَر والحياء. لم يكن شخصاً متشاوفاً البتّةَ، برغم علوّ كعبه والمكانة العلميّة السامية التي ارتقاها وتحلّى بها. كان التواضع سِمَة بارزة في كيانه، وهو تواضع العلماء الحقيقيّين الذين يدركون برهافة أنّ العلم بحر، ونحن نقف عند شطآنه ليس إلّا. ولقد ذكر دائماً، في مقدَّمات كُتُبه أو خواتمها، زملاءه وأصدقاءه وتلامذته الذين كانت لهم بعض الأَيادي البيضاء على إنجاز أَعماله الكثيرة. وهو شأن لا يصدر إلّا عن إنسانٍ وفيّ صادق، يعرف أنّ الآخرين لهم قُدُراتهم ومواهبهم، ويمكن أن يُفيد منهم ويتفاعل مع ما يكنزون. هذا صدق رائع ليس شكليّاً بأيّ حال. ولو كان الأَمر يتعلّق بباحثٍ آخَر له ما لإحسان عبّاس من علمٍ ودراية، ولكنْ ليس له ما لإحسان عبّاس من تواضعٍ وخفضِ جَنَاح، لكان تجاهل فضل الآخرين عليه أو ربّما أَنكره. وهي حال رائجة في عالم الفنّ والأدب والعلوم. ومازال في البال، خلال الأُمسية التكريميّة التي أَقامها النادي الثقافيّ العربيّ في إكسبو بيروت على شرف إحسان عبّاس، وقد أَتيتُ عليها في مطلع هذه الذكريات، كيف تقدّم إحسان عبّاس من المنصّة لشكر المحتفين به؟ انسحب الخطباء الواحد تلو الآخَر، وكانوا أربعة، ولكنّ إحسان أَمسك بيد رِضْوان السيّد وأَجلسه قربه، وقال في كلمات الشكر إنّه بدوره أَفاد من الآخرين، وتوجّه بالكلام إلى رِضوان، قائلاً له: ولقد أَفدتُ منك أيضاً. يحتاج المرء إلى أن يكون عالِماً، كبيراً في علمه وخُلُقه، ليُقْدِم على موقفٍ جميل أخّاذ كهذا! كم أَصاب الأديب المبدع، إبراهيم نصرالله، عندما قال فيه خلال قصيدةٍ رثائيّة:

من‭ ‬أين‭ ‬لك‭ ‬كلُّ‭ ‬هذا‭ ‬الظِّل

أيّها‭ ‬الشفّاف؛

من‭ ‬أين‭ ‬لك‭ ‬كلُّ‭ ‬هذا‭ ‬الضوء

أيّها‭ ‬العابر‭ ‬العَتَمَةَ‭ ‬كمطرٍ‭ ‬أو‭ ‬قِدِّيس؟

كان منطبعاً في ذهني أنّ الثاني من كانون الأَوّل (يناير) هو عيد ميلاد إحسان عبّاس. وجئته، ذات عام، حاملاً باقةَ وردٍ، زهريّ اللون، وهو اللون المحبَّب عندي. ويبدو أنّ الأَمر كان مفاجأة لإحسان، وهو عادةً لا يحتفل بهذه المناسبة ولا يحسُب لها حساباً؛ فعندما غادرت ليلاً ودّعته عند باب منزله وانصرفت، ولكنّه لحق بي حتّى باب المصعد، فودّعته مجدّداً وشددت على يده، غير أنّه رافقني في المصعد ونزل معي من الطابق الرابع حتّى الأَرضي. فترك هذا التكريم أَثراً بالغاً في نفسي، ودهمني خجل طارئ. وعندما توقّف المصعد القديم، وكان يصِرّ ويئِنّ، فتحت بابه وحيّيت إحسان مودّعاً شاكراً لطفه، وقد علاني خجل عميق، زاد منه أنّ إحسان، وهو الخجول الحيي أَصلاً، أَصرّ على مرافقتي حتّى الباب الحديديّ الخارجيّ للبناية التي يقطنها. وفي المسافة القصيرة الفاصلة بين باب المصعد وباب البناية الخارجيّ لك، قارئي، أن تتصوّر إنساناً دهمه الخجل الطارئ، وهو أنا، وإنساناً كبيراً عراه الخجل الوطيد؛ وكلّ منّا يجامل الآخَر ويداريه ويلاطفه. كيف السبيل إلى نسيانك، يا إحسان عبّاس؟ وكأنّ هذا المعلّم الوقور، الهادئ، الحيي، العلّامة، المتواضع، يستعيد في ممشاه ما كان يقوله الإمام مالك بن أَنَس لطلّابه: من آداب العالِم ألّا يضحك إلّا مبتسماً! وكم كانت ابتسامة إحسان فتّانة، وعلامة فارقة دائمة الحضور في محيّاه البشوش.

ولعلّي مُصيب في أن أَقف عند رسالة شخصيّة خطّها إحسان عبّاس إلى ابنته الغالية عنده، نرمين، وهي وحيدة كابنةٍ وكبرى أَولاده، ويتلوها إياس وأُسامة. وقد زوّدتني بهذه الرسالة الخاصّة، العزيزة نرمين، بناءً على طلبي، وأَذِنت لي باستعمالها. وقد أَرسلها الدكتور إحسان بتاريخ أَوّل فبراير 1977، عندما كان نزيل جامعة برنسْتون بولاية نيو جرسي، حيث أَمضى في البحث والتدريس ثلاث سنوات؛ وكان يقول أمامي إنّه ذهب إلى الولايات المتّحدة في وقتٍ متأخّر من حياته. المهمّ أنّه يعرض، في الرسالة إلى ابنته، أَحوال ابنه أُسامة التعليميّة ومطالبه كشابّ يدرس في أَمريكا وعدم التفاته إلى أنّ الحياة هناك هي غير ما كانت عليه الحال في بيروت. ويذكر الدكتور إحسان لابنته أنّه خلال أَيّام سيسافر إلى الجزائر لحضور مؤتمر، وهو يغتنم هذه الفرصة للخلاص من البرد القارس والثلج المتراكم والزمهرير العاصف، ممّا «لم يشهد الناس له مثيلاً منذ عشرات السنين». وبخطّه المنمنم الجميل يأتي إحسان عبّاس، في أَواخِر رسالته؛ بهذا المقطع الرائع، حيث يُدلي باعترافات شفّافة هي نتاج خبرته بأُمور الحياة والناس ومجابهتها بالسماحة والترفّع: «في رسالتكِ حديث طويل عن خيبة أملك في فلان وفلان من أَصدقائنا، لا تبتئسي يا بُنيّة؛ الناس هم الناس لم يتغيّروا، والذين تذكرينهم إنّما يُقْبَلون من الزوايا الإيجابيّة فيهم، لا من النواحي السلبيّة، وأيّ الرجال المهذَب؟! (الذي اكتمل خُلُقاً)؛ لقد عرفتُ كثيرين، وأَخلصتُ لهم جهدي، ثم اضطررتُ في النهاية أن أَقبل منهم حتّى «تنكّرهم» لي. لا بأس أنا غير عاتب على أَحد؛ أمّا «الحقد» فإنّه لا يدخل في دائرة حديثي، لأنّني عاجز عنه».

 

بين‭ ‬طـه‭ ‬وإحسان

وأَذكر أنّي، وقد أَنجزت عملاً دراسيّاً متبحّراً عن عميد الأدب العربيّ، خرجت به إلى الناس حاملاً عنوان «طه حسين، رجل وفكر وعصر» (دار الآداب، بيروت 1985)، وهو يقع في 592 صفحة من القطع الكبير. وقد أَهديته بالطبع إلى إحسان عبّاس، فأَثنى عليه وكان مرحّباً بعملٍ كهذا مقدّراً. ثم أَخبرته، بعد زمنٍ، أنّي أَرغب في الجلوس إليه مطوّلاً، شأن ما فعلت مع حسين مروّه الذي التقيت به مرّات، بلغت ما يزيد على العشر ساعات، وسجّلت خلالها، في عام 1980، حواراً مستفيضاً، أنا الآن، بعد انقضاء هذه المدّة الطويلة، في سبيل تحريره وتحقيقه وتقويمه وتزويده بالحواشي الوافرة للأَعلام الواردة فيه. وقلت لإحسان عبّاس إنّي سأَضع مؤلَّفاً عنه، مستفيداً فيه من الحوار الذي أَعتزم إجراءه معه، وسيكون كتاباً أَسعى فيه للإحاطة، شأن ما سعيت مع طه حُسَين؛ ثم أَردفت، وليتي لم أَقل ولم أَبُحْ، أنّه لن يكون بالطبع في حجم كتاب العميد! ولعن الله هذه العبارة الأخيرة التي صدرت عنّي، لأنّها غير لائقة بعلّامة ترك لنا تراثاً حافلاً هو بحر عُباب من الكتب المؤلَّفة والمحقَّقة والمترجَمَة والمحرَّرة. وقد قابل إحسان عبّاس هفوتي هذه بابتسامته المعهودة، وكأنّه يقول لي من غير أن يقول: أما تراني مستحقّاً لتكريمٍ يماثل تكريم طه؟ فلئن كان طه حُسَين ذا صيت طنّان ووُضعت عنه كُتُب ودراسات وأَطاريح بالعشرات، ففي ميزان القيمة والديمومة والتقييم فإنّ إحسان عبّاس سيستمرّ طويلاً في تاريخ الثقافة والأدب عندنا. والفارق بينهما أنّ طه كان نموذجاً للمثقّف العربيّ العصريّ الذي يحمل هموم شعبه وجراح أُمّته، فيتّخذ مواقف سياسيّة واجتماعيّة ويخوض غمار المعارك الأدبيّة، وكان يجاهر بموقفه على نحوٍ جريء ومجلجل. أمّا إحسان فوضعه مختلف، وهو انطوائيّ حيي ويؤثر حياة الظِلّ وهو إلى راهب العلم أَقرب، وقد أَورثنا مكتبة دراسيّة ونقديّة وتراثيّة شائقة، فهو رجل علم وعلّامة في ميدانه. ولم تأته الشهرة التي يستحقّها بأيّ حال؛ كما أنّ الوفاء لشخصه المتفرّد ولعلمه الجمّ مازال غائباً. ونخال أنّ أَخلد ما سيبقى من طه حُسَين هو أُسلوبه الذي بات محطّة فارقة في تاريخ النثر العربيّ. فهو في صميمه أديب، حتّى في أَبحاثه، وعندما أُطالع كتابه «الشيخان»، وهما أبوبكر وعمر (رضي الله عنهما)، أَحسَبُ أنّي أَقرأ مطوَّلة شعريّة! ولكن لماذا لا نُقِرُّ بأنّ الشهرة لدى الكتّاب فيها أَحياناً طرف من الحظّ، كما هو شأن الحياة مع البشر. فلئن عُرف طه بأُسلوبه، ممّا أَهّله للتميّز بين أَبناء جيله من الأُدباء وأَكسبه فرادة، فلقد كان مجايله إبراهيم عبدالقادر المازني صاحب أسلوب رائع لا يقلّ جاذبيّة عن أسلوب طه؛ زِدْ أنّه بمنزلة الطليعة في كتابة الرواية العربيّة على نمطٍ أوربيّ عصريّ؛ في حين أنّ أُسلوب طه البلاغيّ في تعاطيها حائل بينه وبين الإجادة. ثم هل قرأتم «إبراهيم الثاني» للمازني؟ افعلوا تجدوا مصداق ما أنا زاعم. ثم أين شهرة المازني من شهرة طه؟ فما كُتب عن المازني يكاد يكون نَزْراً رقراقاً لا يُعتدّ به بتاتاً! والحياة تدعونا إلى عدم إضاعة الفرص السانحة، فما انتويتُ تسجيله وعزمت عليه مع أُستاذنا الكبير وشيخنا الجليل إحسان عبّاس حال بيني وبينه مغادرته لبنان عام 1986، من غير تمهيدٍ وكان على عجلٍ من أمره.

 

أُسلوب‭ ‬كلاسيكيّ‭ ‬رصين

كتب إحسان عبّاس أَعماله المتباينة، من نقدٍ ودرس وتحقيق وترجمة، بلغة بليغة، هي اللغة الكلاسيكيّة الرصينة. وهو قلّما تعاطى الأدب الإبداعيّ، باستثناء سيرته الذاتيّة «غربة الراعي» (1996)، حيث نقع على لغة سرديّة مبسَّطَة، شاءها لنفسه، كما ذكر في مقدَّمة كتابه، «رغبة في أن تصل هذه السيرة إلى جمهور كبير متنوّع» (ص7)؛ وباستثناء أَشعاره التي نظمها في مطالعه، ممّا أَفاضت عليه القريحة في الشباب الباكر، ولم يبالِ سوى بمجموعة «أَزهار برّيّة». على العموم، يحتفل إحسان عبّاس بالصياغة التي تعبّر عن آرائه وأَفكاره، ولا يسعى إلى الأَلَق الأدبيّ، وإنّما إلى الوضوح والإحكام والنسيج المتماسك. إنّها صياغة راقية، ولا عجب, فإحسان عبّاس ابن التراث، ودرايته العميقة بهذا التراث، وتمرّسه الطويل بلغة عربيّة هي بحر زاخر لا ساحل له، وخوضه التجرِبة الشعريّة ولو على نحوٍ عابر، واطّلاعه على مدارس النقد الأجنبيّ، وثقافته الحافلة بالغنى والتنوّع؛ كلّها عوامل تضافرت لتجعل منه هذا الناقد الباحث الدارس المتميّز. فلكم عرفنا نقّاداً يتدارسون الشعر وهم يجهلون تماماً بحور الشعر العربيّ وتفاعيله وجوازاته؛ كما أنّ زادهم من الإرث الشعريّ، قديمه وجديده، ضَحْل. ولكم عرفنا نقّاداً يكتبون بلغةٍ عربيّة هي أَقرب إلى الضَّعْف والركاكة؛ فكيف يقيّمون النصوص ويكشفون عن جمالاتها، وهم لا حول لهم ولا قوّة في التعبير عن ذواتهم؟ أَطال الله في عمر شوقي أبي شقرا، فقد أَشرف لسنواتٍ طويلة على الصَّفَحات الثقافيّة في جريدة «النهار» اللبنانية، وكان يشكو إليّ أَحياناً أنّ بعض النقّاد تنشر لهم دراسات، بعد أن يكون قد أَعاد صياغتها تقريباً، لفرط تهافتها، وهم في ذلك لا يحتجّون ولا يتململون!

إنّ الرصانة والأناة اللتين تغلبان على أُسلوب إحسان عبّاس مستمدّتان من هدوء صاحبها ورصانته. ليس في كتابة الدكتور إحسان تفجّر للعبارات وجموح، فهذا، كما سنأتي عليه، صنيع لبنانيّ. يذكر صديقنا ميشال جحا («النهار» 3/8/2003، ص10) أنّه زار إحسان عبّاس في أَواسط الثمانينيّات، حاملاً إليه هديّة من توفيق يوسف عوّاد هي كتابه «حصاد العمر»، ولقد قال له إحسان: «أنتم اللبنانيّون تكتبون في أُسلوب أَدبيّ جميل، لا نملك نحن أن نكتب مثله. أُسلوب منمَّق موشَّى، ناجم عن طبيعة لبنان، وعن ثقافة تغرفون منها لا نعرفها نحن - يقصد الثقافة الفرنسيّة - أَدبكم يصدر عن مُناخٍ نادر المثال». وهو تفسير جميل مستلطَف، يصدر عن ناقد كبير مرموق، ولا أَظنّه قاله على نحوٍ عابر أو عن مجاملة. فربط أسلوب اللبنانيّين في الكتابة بطبيعة بلدهم البديعة وبمُناخهم المميَّز، وبأَناقة الثقافة الفرنسيّة الفاشية بينهــم، هــو تعليـــل وجيــه ونيّـــر على المسـتوى السـوسـيولوجــيّ وكذلــك الأدبــيّ.

ونخـــال أنّ المنحــى «البرناسيّ» في الأدب العربيّ الحديث هو لبنانيّ بامتياز. فالاحتفال بالصياغة، على نحو ما كان يفعل أَتباع المدرسة البرناسيّة الفرنسيّة، والحفر في اللغة والافتتان بتراكيبها ومطارح الوحي في منعرجاتها، هذه يُسأل عنها مثلاً صائغ نظير أمين نخلة في «المفكّرة الريفيّة»، أو حتّى رفيق المعلوف في الميدان الصَّحَفيّ. إنّها اللغة المنمَّقة، المشغولة، البِلّوريّة؛ وهي غير اللغة الملتبسة المُلغِزة التي يحلو لبعض الكتّاب اللبنانيّين الحاليّين التمرّس بها!