خصوصية السرد النسوي

خصوصية السرد النسوي

هل‭ ‬توجد‭ ‬خصوصية‭ ‬للكتابة‭ ‬النسوية؟‭ ‬وهل‭ ‬هناك‭ ‬وعي‭ ‬لدى‭ ‬الكاتبات‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬السرد‭ ‬الروائي‭ ‬بطبيعة‭ ‬الاختلاف‭ ‬بين‭ ‬الكتابة‭ ‬النسوية‭ ‬والكتابة‭ ‬الذكورية؟‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬قد‭ ‬شغل‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬والأدباء،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬نحاول‭ ‬الإجابة‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭.‬

على الرغم من صعوبة التمييز بين الأدب الذكوري والأدب النسوي، لأن الأدب في جوهره يستعلي على هذه الثنائية، كما أن هناك عديداً من الكتاب الذكور الذين عبَّروا عن قضايا المرأة بشكل عميق وانحازوا لها بشكل واضح، فإن طموح المرأة لم يقف عند تناول الكتَّاب لقضاياها على طريقتهم ومن وجهة نظرهم هم، بل خاضت المرأة أو الكاتبة معركتها بنفسها، فمنحت السرد وجودا أنثوياً وبصمة نسوية خالصة، وعبرت عن رؤيتها الشخصية ووعيها بمشكلاتها المتجذرة في بنية المجتمعات الإنسانية عبر الزمن، ولا شك في أن للمرأة دراية خاصة ومعرفة أعمق بقضايا بنات جنسها من الرجل، فالكتابات النسوية تمتاز بأنها تتمحور حول الذات والتعبير عن هموم المرأة من خلال رفض السلطة الذكورية.

ولا شك في أن هذا الشعور بالخصوصية لدى الكاتبات، بالإضافة إلى شعورهن بالاضطهاد والتمييز كان له أثره الواضح على طريقة معالجة الكاتبة الأنثى لقضاياها والتعبير عما تعانيه من تمييز واضطهاد، بسبب ما تعتبره هيمنة للسلطة الأبوية والنزعة الذكورية في المجتمع، وقد ترتب على ذلك انحياز واضح للنموذج الأنثوي الفاعل، من أجل محو الصورة السلبية التي علقت بالأذهان بسبب وضع الكتَّاب الذكور للمرأة في قوالب معينة لم تنفك عنها، فوجدنا كثيراً من الكتابات النسوية تؤكد «إبراز دور المرأة في الحضارة والتأكيد على أنها ليست أقل من الرجل في القدرات الطبيعية، وأن ما يمكن أن تتسم به المرأة من ضعف وقلة خبرة هو ناتج مباشر للتفرقة الاجتماعية والثقافية طويلة الأمد بين المرأة والرجل منذ نعومة أظفار كل منهما، وليس جزءاً معرفاً لماهية المرأة».

 

الالتجاء‭ ‬إلى‭ ‬الشعر

وليس هذا هو الجانب الوحيد الذي تمحورت حوله كتابات المرأة وحرصت على إظهاره والوقوف أمامه طويلاً، فقد تنوعت الكتابة النسوية وعالجت القضايا الاجتماعية والإنسانية كافة كما يعالجها الرجل، وإن كان من المتوقع والمقبول في بعض المراحل أن تمنح الكاتبة مساحة أكبر لبنات جنسها للتعبير عن قضايا الأنوثة، خاصة بعد ازدياد الوعي بها بسبب الحركات النسوية، ولذلك انتقدت بعض الكاتبات أفكار واحدة من أبرز النسوة، وهي سيكسو، ووصفت تلك الأفكار بالطوباوية، وبخاصة عندما تشدد على أن تكتب المرأة نفسها فحسب، فهي تضعها في مزلق التقوقع داخل شكل من أشكال الأيديولوجية البيولوجية.

وإذا كان انحياز الكاتبة الأنثى إلى بنات جنسها وقضاياهن يشغل حيزاً كبيراً من الكتابات النسوية المعاصرة ويعتبر من خصائص السرد النسوي، حيث تحرص الكاتبة على تقديم المرأة بصورة فاعلة وإيجابية ومتحررة من القيود التي فرضها المجتمع الذكوري، فإن هناك بعض الكتابات النسوية الأقل قدرة وتحرراً أحياناً في التعبير عن قضايا الأنثى وخصوصيتها من الرجل، وذلك بسبب الحساسية من تناول المرأة موضوعاً أدبياً في المجتمع العربي، نظراً إلى التقاليد الاجتماعية الذكورية التي وضعت على المرأة كثيراً من القيود.

ومن الخصائص الملازمة عادة للسرد النسوي، حرص الكاتبات والاهتمام المبالغ به باللغة الأدبية الجميلة التي تقترب من لغة الشعر في كثير من الأحيان، فنجدها حريصة على تضمين السرد الأشعار والأحلام، وتهتم بالتصوير والرمز، وغير ذلك من التقنيات التي هي بطبيعتها أقرب إلى روح الشعر. وعلى الرغم من بروز هذه التقنية بشكل لافت في الرواية الحديثة بشكل عام، فإن استخدامها في الرواية النسوية الحديثة يعد إحدى خصائصها ووسائلها التعبيرية المطردة.

وربما يعكس هذا التوجه والاختيار رغبة الكاتبات في الهروب من الواقع المحبط والتقاليد الجائرة على حقوق الأنثى، وسعيهن إلى بناء عالم أسطوري حالم تجد المرأة فيه حريتها ونفسها ويعوضها عن معاناتها ولو في هذا العالم الخيالي، فالالتجاء إلى الشعر يعد وسيلة مهمة من أجل إشباع الجانب الوجداني والعاطفي لدى الكاتبة، لأنه قريب من شخصية المرأة، أو كما يرى البعض: بأن طبيعة الأنثى تشبه طبيعة الشعرية.

ويظهر الجانب الشعري في السرد النسوي من خلال الطريقة التي يقدم بها السارد شخوصه، ومن خلال طريقة بناء الزمن والوصف، حيث تتحول الشخصيات الروائية من أشكال نمطية لها وجودها الواقعي والمادي الملموس لتصبح في كثير من الأحيان رموزاً وإشارات تعبر عن مكنون النفس، كما ينشأ عن عدم التقيد بالترتيب الزمني والطبيعي أن يكون الأسلوب أكثر ميلاً للغنائية، لأن هذا الأسلوب يضمن عدم تكرار المشاهد المتجانسة التي تضعف الحبكة، ومن ثم لا يكون هناك إهدار لمبدأ الاقتصاد الجمالي.

 

التعبير‭ ‬بالجسد

ومن أجل تحقيق هذا القدر من الأدبية والكتابة الشعرية في الرواية، جعل كثير من الكاتبات أبطال رواياتهن «يلجأون إلى الفن كأحد الخيارات الإنسانية لترميم عالمهم الذي لا يكف عن التصدع والانهدام والتشقق».

ولا شك في أن اختيار هذا النمط من الكتابة الشعرية والأدبية، يساعد في نقل مشاعر الشخصية الروائية ويفسر كثيراً من الأحداث التي قد تغيب عن وعي القارئ وإدراكه، من دون أن يتوقف دور الوصف على الإيهام بالواقع، كما هي الحال في كثير من الروايات التقليدية، وهو ما يضر بالحبكة وبالجانب الفني والجمالي في الرواية، وقد يوقع في سلسلة من الاستطرادات المعلوماتية التي لا تخدم صلابة الهيكل الدرامي للسرد.

ومن خصائص السرد النسوي التعبير بالجسد وإعادة الاعتبار له، فقد ظل جسد الأنثى رمزاً للغواية والإغراء، كما وظفه الإعلام والأدب عبر العصور، وترسخت هذه الصورة من خلال الوجدان الجمعي، فاعتبر الجسد الأنثوي رمزاً للمدنس والدوني ولكل نقيصة. وقد انصب اهتمام السرد النسوي على هذا الجانب من أجل تصحيح هذه الصورة السلبية التي ارتبطت بالجسد الأنثوي وتغييرها في الأذهان، فحين يركز السرد النسوي على وصف الجسد وتسليط الضوء عليه، فإنه لا يفعل ذلك بغرض إثارة الغرائز ولكنه يتخذ منه وسيلة تعبيرية تقاوم هذا الواقع وتدينه، فهو يدين الانفصام وعدم الاتساق أو الانسجام في الرؤية لدى شرائح كثيرة في المجتمع، إذ نراها تثور وتتظاهر احتجاجاً على رواية تكشف جسد امرأة بمبضع جراح خبير وروائي موهوب وشجاع، لكنها في الوقت ذاته لا تحرك ساكناً عندما تسمع عن اغتصاب خادمة.

إن التعبير بالجسد ووصفه وإعادة الاعتبار له في النص هو إحدى الوسائل المهمة للإدراك، كما ظهر ذلك من خلال «شهرزاد» في «ألف ليلة وليلة»، التي حولت شهريار من مجرد فحل وسفاك دماء إلى إنسان يستقي معرفته من العوالم التخييلية، وبذلك فإن الجنس يقابله الفهم والفطنة والتحضر.

 

التمرد‭ ‬والمقاومة

يتسم السرد النسوي بالثورة والتمرد على التقاليد التي اعتبرتها المرأة مجحفة بحقوقها، وقد يبلغ التطرف لدى بعض الكاتبات مداه كما هي الحال لدى نوال السعداوي مثلاً وغيرها من الكاتبات المتأثرات بالتيارات النسوية المتطرفة، وقد يتم التعبير عن ذلك بصورة موضوعية ترفض هذا الواقع الجائر وتسعى إلى رفع الظلم عن الأنثى وتصحيح الصورة المغلوطة عن النساء، ومن ثم تحرص الكاتبة على عرض النماذج الأنثوية الإيجابية التي لا تكون فيها مصدرا للغواية وإثارة الغرائز، كما ترفض الظلم أو الاستسلام للرجل أو للقوانين التي وضعها وفرضها عليها، فهي تكشف صور التفوق والتميز لدى المرأة كما تراها في الواقع ومن خلال تجاربها هي لا كما جسدها الرجل، أو كما هو سائد ومشهور عنها. وقد نشأ نتيجة لذلك أحياناً قيام بعض الكاتبات بتشويه صورة الرجل واعتباره عائقاً أمام تحقيق المرأة لأهدافها وطموحاتها، وكأن الكاتبة بذلك تنتقم لنفسها من ميراث طويل من الاستبداد الذي تعرضت له على يد الرجل، أو كما أسماه جون ستيوارت ميل «استعباد النساء».

تقول رشيدة بنمسعود: «من خلال مقاربتنا لبعض الإصدارات، نلاحظ أن السمات العامة التي تتميز بها الكتابة النسائية تتحدد أساساً في الحضور المرتفع للمرأة (البطلة)، امرأة ترفض الموروث، تثور على البيئة التقليدية وتتوق إلى الانعتاق».

فليس بغريب إذن أن حفلت الروايات النسوية في بداياتها على وجه خاص بقدر كبير من التمرد على القيود الموروثة والقوالب الجاهزة، التي تحصر دور المرأة في مجالات بعينها، فحرصت الكاتبة على إسناد دور البطولة للنساء بصورة مطلقة، وجاءت معظم شخوص رواياتهن من النساء المتميزات المقاومات لهذه الصورة النمطية التي تحصر دورها في إطار الزواج والبيت وتربية الأبناء، ويمكن أن نجد ذلك بوضوح في أغلب روايات إملي نصرالله، حيث جاء الرجل في كثير من تلك الروايات بصورة هامشية، وصورته بصورة المتسلط على المرأة جسدياً ونفسياً وممتلئاً بالشهوة.

لقد أفرد السرد النسوي مساحة كبيرة لهموم المرأة الخاصة التي فرضتها عليها الظروف الاجتماعية، وسلط الضوء على معاناة المرأة والقضايا الخاصة بها. وعلى الرغم من أن كثيراً من الأدباء والمفكرين قد عبَّروا عن قضايا المرأة، فإن النموذج الأنثوي لديهم أو صورة الأنثى في كتابات الرجل وردا في كثير من الأحيان بصورة سطحية وسلبية للغاية، حيث تدور في هذين النمـطين المتعارضين: «الملاك الطاهر أو الشيطانة الدنسة، وقد حصرت العديد من النماذج المرأة في هذا الإطار». ولذلك فقد سعت الكاتبة بتقديمها لهذه النماذج أن تخرج من هذه الدائرة الضيقة التي رسمها الرجل لها، لتبرز خصوصيتها وتميزها من خلال وعيها بذاتها وبطبيعة قضاياها الحقيقية، فقدمت نماذج نسوية مميزة وفاعلة وقادرة على المقاومة، على العكس تماماً من هذه الصورة النمطية التي علقت بالأذهان عبر عقود، ويلاحظ استخدام ضمير المتكلم بكثرة في تلك الروايات النسوية، لدرجة قد يصعب أحياناً معها التمييز بين صوت المؤلفة وصوت الساردة، ويدل استخدام ضمير المتكلم «على التمحور على الذات، حيث تعبر المرأة عن حضورها ووجودها من خلال الأنا».