دور اللغة العربية في النهوض باللغات الإفريقية

دور اللغة العربية  في النهوض باللغات الإفريقية

من‭ ‬أهم‭ ‬القضايا‭ ‬المطروحة‭ ‬لدى‭ ‬المجتمعات‭ ‬الإفريقية‭ ‬السودانية‭ (‬négro-africaines‭) ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬الاستعمار‭  ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬أنّها‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬ما‭ ‬حاولت‭ ‬تطويع‭ ‬لغاتها‭ ‬لنظام‭ ‬الكتابة،‭ ‬ظلتّ‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬النهوض‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬مصاف‭ ‬الصيغ‭ ‬الحداثية‭ ‬في‭ ‬استعمال‭ ‬الألسنة،‭ ‬غير‭  ‬أنّ‭ ‬بعض‭ ‬تلك‭ ‬اللغات‭ ‬عرفت‭ ‬في‭ ‬تاريخها‭ ‬محاولات‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬الانقياد‭ ‬لنظام‭ ‬الكتابة،‭ ‬لعلّ‭ ‬أبرزها‭ ‬توظيف‭ ‬الأبجدية‭ ‬العربية‭.‬

 لتفصيل القول في هذه المسألة التاريخية يتوخّى هذا العمل عرض أهمّ الألسنة التي استفادت من نظام الكتابة العربية ومناقشة التّعلات التي وراء الدّعوة إلى التفريط في هذا المكسب الحضاري. 

إنّ نظام الكتابة العربية من أقدم الأبجديات التي اعتمدت في كتابة عدد من اللغات الإفريقية السودانية. ويمكن بيان دوره في النهوض بتلك اللغات استناداً إلى المعلومات الواردة عن إفريقيا الشرقية من ناحية، وإفريقيا الغربية من ناحية أخرى.

 

‭ ‬1‭ - ‬تأثير‭ ‬العربيّة‭ ‬في‭ ‬السّواحلية

ومن أبرز اللغات الإفريقية السودانية المتأثرة بالعربية في إفريقيا الشرقية اللغة السواحلية. وهي على حدّ عبارة «موريس هوي ‭*‬» إحدى اللّغات البانتو Bantou. وقد تردّد العرب وعدد من أجناس أوربا في فضائها الأصلي منذ قرون عدة. وأسهم كلّ فريق منهم في عمليات تبادل تجاري كانت اتجاهاتها مناطق تأثير العربيّة في السّواحليّة، فلئن كانت خاصيتها اللغوية الأصلية هي «البانتوية»، فقد أثرى معجمها آلافاً من الدواخل، وخاصة منها الدّواخل العربية. لكن لا يترتب على ذلك، كما حرص عليه بعضهم، كون السواحلية مزيجاً من العربية والبانتو.

ويتضمّن هذا الرأي أنّ الدارس لا يعترض فقط على تصنيف «السواحلية» ضمن الفصيلة الإفريقية - الآسيوية، بل ينكر أيضاً مفهوم الفصيلة الإفريقية - الآسيوية ذاته؛ فليس الاعتبار عنده بمصادر العناصر المعجمية المقترضَة، وإنما هو بموردها؛ فكما أن «السواحلية» لم تغد لغة إفريقية - أوربية بموجب اقتراضها من مختلف اللغات الأوربية قدراً يسيراً، فإنها لا تصير لغة إفريقية عربية لثراء ما ورد إليها من العناصر العربية.

وإنّا نرى أن الاختلاف بين موقف هوي وما يعترض عليه ليس سوى صيغة واحدة لفرضية بحث لغوي أساسية هي: إلى أيّ حدّ تأثّر نظام اللغة السواحلية الأصلية باللغة العربية؟ إذا كانت العناصر المعجمية العربية المقترضة مُخضَعة لمقاييس «السواحلية» فهذه اللّغة تلزم «بانتويتها»؛ وإذا أفضى الاقتراض إلى تغيير أساسي في نظام اللّغة المورد، فمن الجائز اعتبار «السواحلية» من العائلة المزدوجة المذكورة.

ومن نتائج العلاقة التاريخية بين المجتمع السواحلي والمجتمع العربي والتفاعل بين لغتيهما أنه من أقدم الوثائق في تاريخ اللغات الإفريقية - السودانية قصيدة سواحلية تقع في ألف مقطع وردت مكتوبة بالأبجدية العربية. ويعود نظمها إلى الربع الأوّل من القرن الثامن عشر الميلادي (انظر المرجع نفسه، ص 18). ويضيف هوي أن الشعراء السواحليين القدماء قد عاشوا وطرا من الزمان بالسواحل الكينية، وأنهم نظموا بها، اعتماداً على الأبجدية العربية، قصائد دينية وتعليمية، وأن الثقافة السائدة في مجتمعهم آنذاك هي الثقافة الشرقية الإسلامية.

هكذا نرى أنّ العلاقة بين «السواحلية» و«العربية» قد تطورت من صيغة التعامل والتبادل بين أهلهما إلى مستوى التداخل اللغوي المتّجه أساساً نحو «السواحلية»، ثمّ إلى مستوى استغلال الكتابة العربية لأشكال من الإبداع لا نعلم منها سوى الإبداع الشعري. وقد مهّدت كلّ هذه المظاهر لمثاقفة وتفاعل حضاري بين الجانبين ضاربي الجذور والأطناب.

 

2‭- ‬تأثير‭  ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬في‭ ‬لغات‭ ‬إفريقيا‭ ‬الغربيّة‭ ‬

على غرار ما حدث في شرق إفريقيا مع «السواحلية» كان للأبجدية العربية في تاريخ اللغات الإفريقية - السودانية بجنوب الصّحراء دور فعّال في كتابة عدد منها؛ فقد كان لدخول «العربية» ونظام كتابتها في المغرب العربي تأثير عميق في حياة تلك اللغات. ولم تكتف لغات الشريط الصحراوي باقتراض كثير من المفردات العربية المنتمية إلى السجل الديني، وخاصة منها الكنوري (Kanuri) والهوسا (Haousa) والسونغاي (Songhaï) والبمبارا (Bambara) والولوف (Wolof) والفولفولدى (Fulfulde)، بل تبنت أيضاً الأبجدية العربية مع اختلاف بينها في التوظيف من حيث المدة والمدى؛ ذلك أن انتشار الإسلام في هذه الربوع قد اقترن بنمو مبادلات تجارية وتعاون ثقافي بين العرب والأفارقة السودان. وقد نشأت في هذا الإطار مراكز دينية إسلامية في تمبوكتو وجنّي وغاو وولاتة كانت تتعامل مع مؤسسات تعليمية في المغرب والمشرق العربيين.

 وفي ملتقى جمع بين نخبة من الدول العربية ومن بعض الدول الإفريقية - السودانية عام 1967م، أنشئ مشروع يقضي بإنجاز بحوث تاريخية في تقويم ذلك التعاون الذي كان بين المجتمعين.

وكان من مظاهر تأثر المجتمع الهوسوي بالثقافة العربية الإسلامية أنّه إلى جانب توظيف الأبجدية العربية عند المتعلّمين من أبنائه في كتابة أعمالهم الفكرية، كانت المرجعية الإسلامية خاصية أساسية من خصائصه المميزة.

وقد ذهب بعضهم في تقويم هذه الحصيلة التاريخية في توظيف نظام الكتابة العربية في حياة اللغات الإفريقية السودانية مذهباً نقدياً جاء فيه أن هذا التوظيف لم يخل من صعوبات وعثرات، منها أنّ الفلانيين (peuls) المسلمين قد اضطروا أمام غياب ما يقابل الصّوتم «p» في الأبجدية العربية إلى التمثيل له برمز الباء أيضا، وأن جل الكتابات أو النصوص المكتوبة بها كانت محصورة في مجال الدين. وهذا مما جعل دور هذه الأبجدية في النهوض بالتقاليد الشفوية والفنون الشعبية الإفريقية ضيّق النّطاق. وكذا نقل الدارس سكيليباً عن دي لافرين دي تريسان (De Lavergne de Tressan) أنّ المتعلمين بواسطة الأبجدية العربية لا يكونون إلا ذوي عقيدة إسلامية، وأن المواضيع المتناولة بها لا تكون في الغالب إلا مواضيع دينية إسلامية.

 وهكذا كانت نتائج العمل بهذه الأبجدية موسومة بالنّقص والتقصير: سوء ترجمة الأبجدية لصواتم اللغات المورد وتناولها في حقل دلالي موغل في التجريد؛ ومبالغة مستعمليها في الاقتراض من المعجم العربي مبالغة أدت إلى إفساد نظام اللغات المقترِضة، وهذه ظواهر غير معتادة في لغة حية.

 

‭ ‬3‭ - ‬نقد‭ ‬وترجيح

إنّ غاية دي لافيرن في استدلاله ليست سوى الإقناع بكون الأبجدية اللاتينية الأقدر على ترجمة الصواتم المتنوعة الغزيرة في اللغات الإفريقية. ولهذا مهّد بالإشارة إلى نقائص توظيف الأبجدية العربية. وقد تفطن سكيليبا إلى تحامله وانحيازه للأبجدية اللاتينية، فشكّ في وجود عامل منطقي وراء اختيار هذه الأبجدية دون غيرها قبل أن يردّ الاختيار إلى حكم الواقع.

ومن المفيد أن نضيف أنّ كلّ أبجدية لا تكون في ذاتها عاجزة ولا متهيئة لترجمة لغة ما من اللغات الطبيعية؛ إذ لا وجود لعلاقة مبرّرة بين العلامة الأبجدية والصوتم الذي تمثّله؛ فلولا معرفة العرب المسبقة للغتهم وخصائص صواتمها والعلاقة الوضعية التي بينها وبين كتابتها، لما أمكنهم الاستناد إلى أبجديتها لقراءة كلامهم، كذلك إذا وظّفت هذه الأبجدية لكتابة لغة إفريقية تتضمن كلاً من الصوتمين «b» و«p»، فمن الخطأ أن نقول إن الأبجدية عاجزة عن الوفاء بأحد الصّوتمين لغياب علامة «p» من قائمتها، وذلك ما دمنا نتحدث عن التوظيف؛ إذ ليس التوظيف نقلاً حرفياً ولا محاكاة ببغائية للموجود، وإنّما هو ضرب من الأخذ والإضافة. ثمّ إنّ الأبجدية اللاتينية بدورها لا تناسب خصائص الصّواتم في جميع اللغات الإفريقية السودانية مناسبة تامة. ولذلك يتحدّث الدارس «هوي» عن حلول خاصّة ردّاً على اعتراضات الفرانكفونيين في مشروع كتابة اللغات الإفريقية.

ويترتّب على ما تقدم أنه لا شيء يمنع الفلانيين من إضافة نقطتين إلى العلامة «ب» لتوليد علامة خاصة بالصوتم «p»، كما هي الحال في اللغة الفارسية، وكما يتطلّبه توظيف الأبجدية اللاتينية؛ إذ لابد من إضافة علامات لتخصيص الرّمز المقترض لحقيقة الصّوتم المقترض له، وهذا ما يمثّل جانب الاجتهاد في عملية التوظيف.

في تقديرنا أنّ المرجعية الحقيقية في تقدم الأبجدية اللاتينية على الأبجدية العربية هي أنّ تأثير العربية في المجتمعات الإفريقية السودانية كان مقتصراً على المستوى الثقافي، ذلك أنّ أساس التّعامل بين الطّرفين كان تجارياً، وأنّ التّفاعل الثّقافي لم يتجاوز نطاق الدين وحدود طبقة أو فئة اجتماعية معينة. لكنّا نفترض أنّه، لولا الاستعمار الغربي لتطورت العلاقة واتّسع نطاقها لتشمل أبعاداً أخرى. 

إنّ استدلال دي لافرين ليس إلا مبالغة في التحامل. لكنه تحامل لا يحجب عنا أهمّية توظيف الأبجدية العربية في كتابة لغات إفريقيا السّوداء. وفي تقديرنا أنّ مردّ الحدود التي توقّف عندها التوظيف شدّة تمسّك المسلمين في المنطقة بدينهم. وهو التزام كان يحملهم على تقديم العربية في عنايتهم على حياة لغاتهم الأمهات؛ فقد كان من الدواعي الضّمنية لاعتناق الإسلام الانضمام إلى الأمة العربية الإسلامية، وكثيراً ما ينجرّ عنه اضمحلال الخصوصيات القومية المنضمّة أو زوالها.

وعلى العموم، فإن ما قام بين العرب والأفارقة السودان من علاقات ثقافيّة قد أسهم إسهاماً كبيراً في النّهوض باللّغات الإفريقيّة واستئناسها بنظام الكتابة. والدّليل على ذلك وجود مخطوطات شعريّة في السّنغال وتمبكوتو وسكوتو وغيرها، تشهد بتقدّم المثقّفين المسلمين في هذه الرّبوع نحو الجمع والمزج بين العربية ولغاتهم في الإبداع الأدبي بعدما مزجوا بينهما في الدّعوة والإرشاد, ولا شكّ في أنّ هذه النّزعة كانت ماضية في إفريقيا الغربية إلى قيام لغات شبيهة بحال السّواحلية في إفريقيا الشّرقية، ولعلّ أقربها إلى تلك الحال الهوسا. وما حدّ من نسق هذه السّيرورة وما أبدل معطياتها غير الاستعمار الغربي وما خلّفه من إمبريالية، تمعن في تجريد تاريخ إفريقيا ممّا سوى التأثير الغربي مثلما بالغت في بسط نفوذها وسلطانها على الحياة الثّقافيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة في مستعمراتها «القديمة»؛ فما «العربيّة» وألسنة إفريقيا في ظلّ موازين القّوى الطّارئة إلا في مقام المغلوب .