عبدالمنعم تليمة.. البحث في «علمية الأدب»

عبدالمنعم تليمة.. البحث في «علمية الأدب»

  قد لا نضيف جديداً للقارئ إذا قلنا إنّ حظّ الدكتور عبدالمنعم تليمة (1937 - 2017م) من التأليف المرجعيّ لا يتناسب مع حضوره الثقافيّ المميز لأكثر من نصف قرن عبر المنصات المختلفة؛ فتراث تليمة محدود مقارنة بهذا الحضور العلمي والتربوي، وقد
نشبهه – في هذه الزاوية - بالمجدد أمين الخوليّ
(1895 - 1966م)؛ فقد كان الخوليّ أيضاً قليل التأليف مقارنة بما كان يمكن له أن ينجزه لو تفرغ لهذا الأمر.

   قدم تليمة أهم إنجاز له في كتابيه «مقدمة في نظرية الأدب (1973م)، و«مداخل إلى علم الجمال الأدبي» (1978م)، بالإضافة إلى كتابين آخرين ومقالات عدة، وسنحاول في هذه المقالة تقديم قراءة لهذا المنجز، بما يمكننا من تفهّم السياق الثقافي الذي انبثقت فيه هذه الكتابات على مستويي الإنتاج والتلقي أولاً، وتفهُّم هذا المنجز في ذاته ثانياً، وبما يفتح أسئلتنا المعاصرة على إرث قريب، يعد محاولة شديدة الجدية استهدفت وضع البحث في موضوع «الأدب» - إبداعاً ونقداً - على قاعدة العلمية، وظلت وفية حتى النهاية لفكرة الجدل الخلاق بين التشكيل الفني والمجتمع. ولعلنا - ونحن ننطلق من هذه المنهجية - أن نصيب جوهر الفكرة «الديالكتيكية» المنهجية التي يؤسِّس لها مشروع تليمة ويؤسَّس عليها في الوقت نفسه.

   تبدو الغاية المرجوة هي الانتقال من الحالة الفلسفية للفن إلى الوضعية العلمية، من فلسفة الفن إلى علمية الفن، ومن الانطباعات حول الأدب إلى علمية الأدب، أو «علم الجمال الأدبي» وفق قوانين عامة مضطردة، يمكن وصفها بالقوانين العلمية الشاملة، وهذا ما يقوله تليمة بشكل قاطع في صدر تقديمه لكتابه: «تطمح هذه الدراسة المنهجية الحديثة للأدب إلى إقامة علم الجمال الأدبي».

كما يجب ألا نعزل هذه المحاولة عن غيرها من المحاولات السابقة عليها والمزامنة لها، ولعلنا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا إن القرن العشرين في مصر كان قرن القلق المنهجي، والتساؤل حول الفن عامة والأدب خاصة: ماهيته، وظيفته، علاقته بسياقه الاجتماعي والتاريخي، وعلاقته بالمبدع والمتلقي، والجدل الذي لا يتوقف بين فرادة التجربة الإبداعية والتقاليد الفنية والأدبية.. لقد شهد هذا القرن كثيراً من النقاش والتحولات المنهجية التي اتسعت دائرتها حيناً لتشمل الدرس الأدبي والاجتماعي عامة، وضاقت أحياناً فلم تبرح الدرس الأدبي إلى سواه. ويبدو هذا القلق واضحاً لا يحتاج إلى تأكيد، ومصدره إيمان قوي بأن هذه المعارف لا يمكن لها أن تثمر ما لم تستقم على منهجية علمية، باعتبارها الاشتراط الأوَّلي لتقدم العلوم والمعارف.    

 الطرح‭ ‬البنيوي‭ ‬اللساني

  تمتاز محاولة تليمة، ليس في طرحها المُؤسَّس على الجدل الهيجلي والتعديلات الماركسية فحسب، وإنما في مناوأتها للطرح البنيوي اللساني المنغلق الذي شكَّل الخريطة المنهجية للعلوم الاجتماعية والأدبية عالمياً، وبدأت بشائره تهيمن رويداً رويداً على هذه الحقول في العالم العربي، وتحديداً في نهايات سبعينيات القرن الماضي، وظل مهيمناً على مناهج النقد منذ ذلك الزمن وحتى الآن.  

  ينطلق د. تليمة من منظار «ديالكتيكي»، يرجع في جذوره المعرفية إلى انتقادات الفيلسوف كَانْط لميتافيزيقا نيوتن حول انتظام النظام الشمسي، وتأكيده أن هذا النظام حركة تطورية نشأت عن دوران كتلة سديمية، أو هو نتيجة هذه الحركة، ومنذ ذلك الحين بدا النظر الديالكتيكي يشكِّل تياراً أساسيّاً في الفلسفة، وسيجد براحه المعرفي في مستخلصات الألماني هيجل حول القوانين التطورية للعلوم والفكر؛ فقد اعتبر «الكون بأسره، أي الطبيعة والتاريخ والفكر، هو نتاج تطور لا ينتهي، وأنه في حركة دائمة، وفي تغير وتحوّل أبديين».

  بالتأكيد سوف يوجِّه الدارسون – فيما بعد - انتقادات موسعة للمذهب المثالي، خصوصاً من قبل الماركسيين، ولكنهم سوف يحتفون بقوانينه الجدلية باعتبارها أداة للبحث العلمي، وسوف تقلب الماركسية هرم فلسفته بشكل ما؛ فهي تعتبر أنّ الفكر انعكاس لحركة الإنسان في المجتمع، وليس كما يقرر هيجل الذي افترض أن العالم انعكاس للفكر الإنساني وعلى صورته.

 

الثقافة‭ ‬انعكاس‭ ‬للوجود‭ ‬الاجتماعي

وسوف ينطلق مشروع تليمة من قاعدة أنَّ الواقع الاجتماعي والاقتصادي والطبقي أصل، وأن الثقافة بكافة أشكالها انعكاس لهذا الوجود الاجتماعي، تتبدى صورتها في الفن والأدب والفكر والعادات والـمُثل العليا، وهذا الانعكاس ليس آلياً؛ فالعلاقة بين الثقافة والاجتماع تنطوي على جدل موسّع، يجعل العلاقة بين الاثنين علاقة تأثير وتأثر لا تتوقف، ولكنها محكومة طوال الوقت بأسبقية الوجود الاجتماعي. وهذا هو الفرض أو القانون الشامل، الذي يُفسّر الثقافة والفنون، ولا يمنع هذا – بطبيعة الحال- من أن يكون لكل فنّ أو شكل تعبيري قانونه الخاص الذي لا يتناقض مع القانون العام. 

 لقد سعى تليمة إذن في وقت التجزؤ والتشتت وسيادة مفهوم البنية المغلقة إلى تقديم رؤية كلية شاملة، تضع الظاهرة الثقافية والأدبية عامة ضمن سياق أوسع، يلتقي فيه المادي بالإنساني، والطبيعي بالثقافي، فلا ينفصل فيه الإنسان عن واقعه أو منجزه، ولا ينفصل فيه هذا المنجز عن تصورات الإنسان الوجودية ورؤيته للحياة. ومن هنا بدت الرؤية مركَّبة من أكثر من زاوية؛ فالفن كله – تطوره (أي تغيره) وتقدمه (أي تغيره إلى الأفضل) - مرتبط أوثق ارتباط بالبنية التحتية، بما يجعل خوالد الفنون نتيجة طبيعية لهذه العلاقة الجدلية بين الفن والمجتمع.

  كان بدهياً إذن والحال كذلك، أن يختلف تليمة مع النقاد اللسانيين، ليس لأنهم يعزلون الظاهرة الأدبية عن غيرها من الظواهر الأخرى الحافة بها والمتداخلة معها فحسب، وإنما لأنهم في الأساس يرون الأدب ماهية لسانية مسيَّرة ذاتياً، أو محكومة بقانونها الخاص الذي يمكن استخلاصه وفهمه بعيداً عن غيره من ظواهر الاجتماع،  أي إنهم لا يرون العلاقة الوطيدة بين اللساني والاجتماعي، وبالتالي فهم غير معنيين بدراستها. وطبقاً لما ذكرناه أعلاه، وما سوف نذكره في الفقرات اللاحقة، يرى تليمة أن عزل الظاهرة الأدبية لن يصل بنا إلى شيء ذي قيمة، ولن نصل من خلاله إلى فهم ماهية الأدب، فضلاً عن مهمته، وإذا كان من المسلَّم به أن اللغة أداة الأدب، فإن الدارس عليه أن يدرك أن هذه الأداة لا يمكن عزلها اجتماعياً، بل إنها تتضمن بذاتها سياقاً تاريخيّاً اجتماعياً، وأي منهج يستبعد هذا البعد أو ينظر إليها بمعزل عنه، فإنه يعزل اللغة عن سياقها الثقافي الذي لا تنفك عنه، وعليه فهو درس عقيم، عاجز عن إدراك شمول الظاهرة وتركيبها وربطها بغيرها، أو ربطها بقوانين التطور الاجتماعي الشاملة.

  لا يمكننا فهم المؤسسات التي انطلق منها مشروع تليمة بعيداً عن اصطلاحي: المادية التاريخية، والمادية الجدلية، وما يدور في فلكهما من مفاهيم مثل: الحتمية والتطور والتقدم والبنية الاجتماعية أو الوجود الاجتماعي، والتعالق الحتمي بين الظاهرة الاجتماعية وغيرها من الظواهر. والمرجع الأساسي فيما يقدمه تليمة هو الانطلاق من أسبقية الوجود على الوعي، وذلك بخلاف الطرح المثالي الذي جعل الوعي سابقاً على الوجود، ويعتبر تليمة أن الفكرة المثالية تناقض العلمية؛ لأنها تعزل الظاهرة الواحدة عن غيرها من الظواهر، بالإضافة إلى أنها تطبق على الظاهرة قوانين ظاهرة أخرى، وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى سوء فهم، والنظر العلمي يقتضي رؤية الظاهرة في ذاتها وفي علاقتها، وبذلك يمكن استخلاص قانون الظاهرة الواحدة في علاقته بالقانون العام الذي يحكم مختلف الظواهر. 

ويرتكز هذا الأساس النظري كله على مركزية العمل في حياة الإنسان؛ فبه ومن خلاله تمكَّن الإنسان من تحقيق الضرورة وانتقل منها إلى تحقيق إنسانيته، وهذا الانتقال ليس مرحلة منفصلة عما سبقها؛ فطبقاً لهذا النظر يرتبط الجمالي بالنفعي في أصل العمل، أي إن إنجاز الضروري في أكثر العصور الأولى تقدماً هو في أصله إنجاز إبداعيّ في الوقت نفسه. لقد أهّل العمل - فيما يقول تليمة – «الإنسان لأن يكون مبدعاً للفن ومتلقيّاً له».

 

اللغة‭ ‬أداة‭ ‬الأدب

  وعليه، فلا يوجد ثمة تعارض بين نفعية العمل وجماليته، فالجميل مطويٌّ في النافع، ولا يمكننا أن نتجاهل هذه العلاقة الوطيدة بين التشكيل ذي الصبغة الجمالية وأدوات العمل التي تطورت وارتقت بتطور قدرة الإنسان على التعامل مع الطبيعة والسيطرة عليها، ولذلك «كان الرمز بالنَّقْش والرَّسم والنحت ارتقاءً لأدوات العمل وتطوراً لصلة الإنسان بعالمه الطبيعي وخاماته».

  وإذا كان هذا ما يميز أدوات العمل الصلبة، فكيف يمكننا النظر إلى اللغة في هذا الضوء الذي جعل الوجود أسبق من الوعي به، وردّ كل العلاقات القائمة بين الإنسان والوجود من حوله إلى العمل؟ 

  لا جدال في أن اللغة أداة الأدب، بها يتشكل وبها ينجز، ولكن اللغة أيضاً أداة إنسانية يتمكَّن بها الإنسان من اكتشاف عالمه والتعرف إليه، بل هي أعظم أدواته على الإطلاق، قد لا تكون أداة عمل مباشرة، ولكنها أعمّ من أدوات العمل نفسها؛ فاللغة «تقف وراء العمل الاجتماعي كلّه، ووجودها شرط قيام المجتمع، وهي ليست نتاجاً طبيعيّاً، بل هي نتاج اجتماعي يمثل تطور صلة الإنسان بعالمه الاجتماعي وعلاقاته».

  بالتأكيد هذا الكلام يحتاج إلى مزيد من التدليل عليه، وهنا نجد تليمة يتوقف ملياً ليقدم بحثاً دقيقاً في تاريخية الدلالة، من خلال الجدل المستمر بين اللغة باعتبارها أداة اجتماعية وتطورها من مجرد الإشارة في مراحلها الأولى إلى كونها أداة كلام طبيعي، ويدلل على كلامه بمنجزات أنثروبولوجية، تربط بين التطور اللغوي والنشاط العملي للإنسان، وتؤكد أن تطور هذا النشاط لم يكن سبباً مباشراً في نضج المادة اللغوية وغزارتها وتنوع هيئاتها وتراكيبها فحسب، وإنما كان سبباً في تطور جهاز الإنسان العصبي وأعضاء الكلام والسمع وإرهافهما في الوقت نفسه.  

  لقد تطورت اللغة تبعاً لتطور العمل وتطور المجتمع ونمو حاجته وانتقاله من مجرد التسمية إلى تكوين المفاهيم المجردة والرموز، ومعنى هذا أن اللغة تطورت من «الوفاء فحسب بوظيفتي الإعلام والإخبار، إلى الوفاء بوظيفتي التصوير والصياغة».

  يبدو هذا الكلام منطقياً إلى حد بعيد، خاصة إذا توقفنا عند حدود التطور، ولكن اللغة كما يعرفها الإنسان لم تقتصر على حدود التطور، وإنما حدث بعد النشأة أن غدت اللغة اكتساباً اجتماعياً، وقد نقر بمركزية العمل في تطور اللغة، ولكن لا يمكن للعمل وحده أن يفسر قيام اللغة وتطور أنظمتها بشكل كامل، حتى الإنسان الأول كان محتاجاً إلى أن يعبر عن عواطفه وحاجاته، وكان مضطرّاً إلى أن يبتكر دلالات تعبر عن هذه الاحتياجات بعيداً عن العمل ربما وإن كانت في صلب الاجتماع وتوافقه حول الدلالات.

لا يختلف الدرس النقدي المعاصر – في عموم مناهجه وتياراته- حول أهمية اللغة ومركزيتها بالنسبة إلى العمل الأدبي، ويفرق بين وظيفتها الجمالية ووظيفتها في الاستخدام النثري النفعي التداولي، ويقر تليمة هذا الفرق بين الاستخدامين؛ فالفنان أو الشاعر معنيٌّ بالتشكيل وإثارة نشاط اللغة الخلاق، ولكن هذا يجب ألا يعزل – يرى تليمة - عن السياق الاجتماعي والتاريخي؛ فالشاعر لا يعيش في فراغ، ولا يشكل نصه بمعزل عن هذا الاشتراط؛ ولذا فالشعر تشكيل لغوي خاص في بنية موقفية محددة. 

   يبدو هذا الفهم جامعاً لمطالب الأخلاقيين الذين يبحثون عن الرسالة والدور الاجتماعي للنص الشعري، ومطالب الجماليين الذين يعتبرونه تشكيلاً لغويّاً لا يستهدف إنجاز رسالة محددة، بل قد يخلو منها، كما أن هذا الفهم وفيٌّ لأقصى درجة لمنطق النظر الذي ينطلق من أسبقية الوجود على الوعي؛ فهو يعي النص في ذاته أولاً، ويعي دوره الجدل النشط في الوجود الاجتماعي ثانياً.

   من الواضح أن السياق هنا سيكون له دور أساسيّ في فهم القصيدة أو تلقيها، حيث يغدو السياق مركزاً يلتقي فيه الجدل بين «التشكيل» اللغوي و«الموقف» بكل ملابساته النفسية الفردية والاجتماعية، وأن هذا الجدل يعد مدخلاً رئيسياً لفهم النص، بل إنّه – يقرر تليمة - المدخل الوحيد للنص.

 

الفعل‭ ‬المستمر‭ ‬للتراث

   من البدهي إذن أن يؤول البحث في خصوصية اللغة الأدبية إلى البحث في مكونات الوحدات اللغوية الجزئية المكونة لهذا الاختصاص المميز في الاستخدام، وهو ما يجعله متقاطعاً بشكل مباشر مع منجز الدرس الأسلوبي المعاصر؛ فيقدم تليمة خطوات إجرائية صاعدة، تبدأ من درس الصوت المفرد العاري عن الدلالة  Phoneme، ثم درس البنية الصرفية الدالة، ثم البناء النحوي الخاص، أي إنه ينتقل إلى درس الوحدات اللغوية الجزئية وقد تشكلت في بناءٍ كليّ مكون من الجملة وسلاسل الجمل المتتابعة.

 لكن الناقد هنا لا يدرس نصاً لغوياً، ولا يدرس هذه المستويات ليتعرف عليها في ذاتها فحسب، وإنما يدرسها ليضع يده على ما يسمى جماليات هذا الاستخدام، أو ما يسميه تليمة بـ «النشاط الخلاق للفعل اللغوي»، هذا النشاط الذي تنصهر بمقتضاه، وطبقاً لقدرته الخالقة مكونات هذا النظام مع بعضها، لتتشكل – في النهاية – طاقته التصويرية التي تسهم فيها الوحدات اللغوية المختلفة المكونة للنظام اللغوي، وبذلك تتحقق الوحدة الداخلية للقصيدة. ولأن السياق في الأصل فاعل رئيس في هذا البناء التشكيلي اجتماعياً ونفسياً وموقفياً وثقافياً، فإنه عبر هذا الجدل يتخلق النص بناء رمزياً قائماً في موازاة الواقع نفسه. 

بالتأكيد يمكننا أن نوجه نقداً لانقطاع العلاقة بين هذا المشروع والتراث، ولا ندري كيف يمكن أن يتأصّل هذا الجهد في ثقافتنا دون اشتباك حقيقي مع واقع ماثل بالفعل، وهذا الواقع هو بشكل أو آخر أثر من آثار الفعل المستمر للتراث. 

   كما يمكننا أن نقدم نقداً لفكرة الحتمية التي تجعل الوجود الثقافي والفني انعكاساً للوجود الاجتماعي، وصياغة لحقائقه، وأنها – الثقافة - في العموم تابعة في تطورها لتطوره، ولا يمكنها أن تتقدم أو تتطور بعيداً عن هذا الاشتراط، أقول يمكننا أن نقدم نقداً لهذه الفكرة، ليس بما يناقضها تماماً، وإنما بما ينفي عنها الحتمية القاهرة من ناحية، وبما يجعل مفهوم «العلم» حكراً على هذا النظر دون سواه؛ لقد تغيَّر مفهوم العلم، وتراجع عن اشتراط الحتمية طريقاً للعلمية، وما يترتب عليها من الإيمان بالسببية، بحيث إذا حدث وتكررت الأسباب تكررت النتائج نفسها في كل مرة؛ فالحقيقة أن «النسبية» قوضت هذا النظر، بالتأكيد ليس بما ينفي الحتمية، وإنما بما يخفف سطوتها وبما يجعلنا مع ما كان يطلق عليه «راسل» الحتمية المعتدلة. 

  وإذا غضضنا الطرف عن فكرة الحتمية، بدت لنا العلاقة الجدلية بين الوجود الاجتماعي والتشكيل الفني، بشكل عام مما يجب أن ننتبه إليه، خصوصاً وقد أفرط نقدنا المزامن لمنجز تليمة في الشكلية، حتى بدا معزولاً عن اهتمامات المتلقي وانشغاله، وبالتالي بدا عاجزاً عن ممارسة دوره الاجتماعي الذي لا يتعلق فقط بالتثقيف والتنوير، وإنما يتعلق أيضاً بملاحظة العلاقات الجدلية بين النص ومختلف أنساق الثقافة. 

 يمكننا أن نقدم بالفعل مزيداً من النقد، ولكن هذا على أهميته ليس ما نرجوه من هذه المقالة، وليس ما نرجوه من التعامل مع منجز الأساتذة، لقد أردنا أن نقيم حواراً بين هذا المنجز، أو بعضه، بما ينفي عن ذاكراتنا فعل الإزاحة، ويمكننا دائماً من وصل حاضرنا بماضينا، سواء أكان هذا الماضي بعيداً أم قريباً، ولعل هذا بات ملحاً في وقت بدا النقد الأدبي والجمالي عامة نخبوياً، منعزلاً عن جمهور المتلقين .