عبدالمنعم تليمة وبلاغة الإشارات

عبدالمنعم تليمة وبلاغة الإشارات

لم يكن أستاذي عبدالمنعم تليمة بلاغياً بالمعنى المدرسي للكلمة، ولكنه فتح عيني على عالم البلاغة الفسيح لأسير في أنحائه تأليفاً وترجمة وإشرافاً لا أكاد أشذّ عنه حتى التصقت بي صفة البلاغي. لم أكن في بداياتي العلمية  من أنصار البلاغة مثل معظم الطلاب الذين وجدوا أنفسهم طوال سنوات تحصيلهم العلمي في مرحلتي التعليم الثانوي والجامعي مجبرين على تلقي علم بائد جاف لا بريق له ولا نفع، بيد أنّ اللقاء الأول في السنة التمهيدية للماجستير مع الأستاذ تليمة الذي كان يلقننا مادة «علم الأساليب»، كان كافياً ليغيِّر موقفي جذرياً من البلاغة التي لم تعد وصفاً لأبيات ملغزة، ولا محفوظات لقواعد مقرونة بالشواهد، بل كانت فكراً مرتبطاً بالفلسفة وعلم الجمال وعلمي الاجتماع والنفس وعلم الأساليب. لقد حرص الأستاذ على أن يفتح عقول تلاميذه على ما كان ينشر وقتئذ من دراسات مجدِّدة للبلاغة العربية القديمة؛ إذ كانت محاضراته عبارة عن مناقشة مفتوحة على كتب ودراسات معاصريه أمثال شكري عياد وجابر عصفور ونصر أبوزيد وألفت الروبي وعبدالحكيم راضي وغيرهم. على هذا النحو وجدت نفسي أتعرّف بلاغة أخرى لا تشبه البلاغة التي تلقيناها في قاعات الدرس سابقاً. هذه البلاغة التي وقعت في أسر فتنتها وحدّدت مسيرتي العلمية حتى هذه اللحظة.    

في أول لقاء للأستاذ بنا نحن الطلاب المغاربة في السنة التمهيدية للماجستير، طلب منّا إعداد عروض مختصرة حول فصل من كتاب شكري عياد يتحدث فيه عن علاقة الأسلوبية بالبلاغة العربية. أحضر كل واحد منا ورقته، وبدأنا نقرأ الواحد تلو الآخر. كان واقفاً يصغي بتركيز إلى الطلاب وهم يتلون ما صاغوه إلى أن أشار بيده إلى أن نتوقف عن الاستمرار في قراءة العروض، وكان الطالب الذي استوقفه معروفاً بيننا بأسلوبه البياني، لكن على الرغم من ذلك قال الأستاذ معقباً: «يبدو أن لهجة القاهرة أفصح بكثير من لهجة المغرب». كنا نعرف أن المصريين أفصح نطقاً من المغاربة؛ نعرف ذلك من خطب أئمة المساجد والوعاظ والسياسيين والأساتذة في المحاضرات. ولكن ما علاقة اللهجة باللغة العربية؟ 

لم يقصد الأستاذ الكبير باللهجة مستواها المعجمي ولا بالفصاحة الألفاظ العربية الخالصة؛ ففي كل لهجة كم هائل من الألفاظ الدخيلة، تجد ذلك في اللهجات العربية جميعها، ولكنه قصد بالفصاحة الأداء والنطق؛ فلهجتنا المغربية قليلة الحركات، تميل إلى التسكين.

 

أستاذ‭ ‬في‭ ‬الأداء

أشعرتني ملاحظة الأستاذ الكبير عن طريقة أداء المغاربة للغة العربية، بضرورة العمل على تحسين نطقي. والحق أنني لاحظت أن عبدالمنعم تليمة من الأساتذة المصريين القلائل الذين يحاضرون بعربية فصيحة تجنح إلى البيان؛ فلا تكاد تختلف لغة أحاديثه في رصانتها وانتقاء ألفاظها عن لغة الكتابة. ولقد أعجبت بعباراته البليغة واختياره للألفاظ وطريقة أدائه، وربما سعيت إلى أن أحاكيها وأتمرّن عليها حتى أكتسب فصاحته. وفيما بعد قال لي أحد زملائي عندما شاهد الأستاذ عبدالمنعم تليمة في إحدى القنوات الفضائية: الآن عرفت أستاذك في الأداء.

  وعلى الرغم من ملاحظة الأستاذ تليمة الصحيحة عن اللهجة المغربية، فإنه كان يشعر بجدية الطلبة المغاربة الذين يحضرون جلساته في السنة التمهيدية للدراسات العليا؛ فما نكاد ندخل إلى مكتبه حتى يرفع صوته مهللاً: «المغاربة قادمون». لم أفكر حينئذ في مغزى هذه العبارة التي فسرتها مثل غيري بأنها تعبير عن سرور الأستاذ بجدية طلبته وحرصهم على المعرفة. ولعله كان يقصد بها أيضاً أمراً آخر، وهو أن الدراسات الأدبية والفكرية ستؤول عما قريب إلى المغاربة، بعد أن تراجع إقبال الطلاب المصريين على الدراسات العليا. وأتذكر أنني عندما كنت أتأهب لمناقشة رسالتي عن «نظرية ابن جني في لغة الشعر»، كان يجلس إلى جانبه أحد زملائه من الأساتذة المغمورين، فالتفت إليه قائلاً في مزاح لا يخلو من سخرية مبطنة: «هل تقبل مناقشة رسالة الطالب المغربي؟» وكان يشير إليَّ. لقد قَبِل الرجل سخرية الأستاذ الكبير بكل تواضع واعتراف. والحق أن قسم اللغة العربية وآدابها بتاريخه العريق كان قد رسّخ تقاليد البحث العلمي الجاد؛ فالكلمة العليا فيه للأساتذة الذين يسهمون في تطوير البحث وتنميته.

 كان إشرافه على رسالتي مناسبة للتقرب من أخلاقه الإنسانية؛ فقد اتفق معي في إحدى المرات على لقاء في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة في منتصف شهر أغسطس عام 1986 عند الساعة الواحدة ظهراً، وحضر في الموعد المضبوط، وكأن الاتفاق جرى بيننا في الأمس وليس قبل ثلاثة أشهر.

كان هذا الوقت بالنسبة إلى طالب جامعي مغربي لم يعهد هذه الحركة الدائبة في جامعات بلده، أمراً مستغرباً. تساءلت: ألم يكن أنفع لهذا الأستاذ الكبير أن ينعم في هذه اللحظة برمال أحد شواطئ البحر الأبيض المتوسط أو البحر الأحمر؟. تخيلته في تلك اللحظة مخلوقاً أوجده الله لخدمة غيره؛ كان في حوالي الستين من عمره، طويل القامة، ذا ملامح جادة، كثير التأمل وهو يدخن السيجارة تلو الأخرى ويرشف من كأس القهوة، يصغي إلى المتحدثين بعناية فائقة، ولا يتوانى عن الابتسام وإرسال ضحكة مدوية عندما يدعو الموقف إلى ذلك. وكان مُقلاًّ في الكلام، كما كان مُقلاًّ في الكتابة. وكما أن كلامه من الضرب الموجز المفيد، فإن كتاباته من الضرب القليل المؤثر.

 

تجربته‭ ‬في‭ ‬اليابان

قرأت له في المرحلة الجامعية بالمغرب كتاب: «مقدمة في نظرية الأدب»، ثم قرأت له في مصر كتاباً بعنوان: «مداخل إلى علم الجمال الأدبي»، ومقالات نادرة متفرقة في مجلات غير منتشرة على نطاق واسع. وفي السنوات القليلة الماضية عرفت أنه نشر النص الأصلي لكتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» صدَّره بمقدمة مطولة في أربعين صفحة، وقد عنونه
بـ «طه حسين... مائة عام من النهوض». كما أن تجربته في تدريس اللغة العربية في جامعات اليابان باعتباره أستاذاً زائراً لمدة عشر سنوات أثمرت مجموعة من التأملات في المجتمع قدمها للتلفزيون الياباني من خلال برنامج أسبوعي باسم «اليابان بعيون أجنبية»، وذلك  في شكل أحاديث لا يقل عددها عن المائة. ولعل هذه الأحاديث هي التي شكَّلت مادة كتابه في أدب الرحلات «تخليص البيان في تلخيص اليابان». 

كنت أحياناً أزوره في بيته بالدقي، الذي قد يتحول في أي وقت إلى صالون ثقافي لمناقشة شتى القضايا. وفي إحدى المرات فوجئت بوجود الشمع الأحمر على باب البيت. كانت تلك أول مرة في حياتي أرى فيها بيتاً مشمّعاً. علمت بعد ذلك أنه اعتقل. لم أعرف السبب، ولم أحاول أن أسأل؛ كنا نحن الطلبة المغاربة نتحاشى الخوض في الأمور السياسية. نشعر بأننا مراقبون، ونخشى أن يتم ترحيلنا في أي وقت. كانت الأجواء السياسية في تلك الفترة متوترة؛ فالبلاد تعيش حالة الطوارئ بعد قتل السادات، وعنف الحركات الإسلامية في تصاعد متزايد. وما كنت أعلمه عن أستاذي هو أنه يساري يصدر عن الأيديولوجية الماركسية في تنظيراته النقدية، ولكني لم أعلم شيئاً ذا بال عن نشاطاته السياسية التي كانت وراء اعتقاله. ولم أعلم إلا لاحقاً في حوار أجري معه، ملابسات ذلك الاعتقال الذي حدث في 12  ديسمبر  1986. لم تكن هذه المرة الأولى التي اعتقل فيها الأستاذ عبدالمنعم تليمة؛ فقد اعتقلته السلطات في عهد السادات بحجة العثور في بيته على كتب الماركسية.

 

تلميذ‭ ‬طه‭ ‬حسين

أتذكر أنني عندما قرأت في سنوات الدراسة الجامعية كتابه «مقدمة في نظرية الأدب», وهو  أحد أهم المراجع في النقد الأدبي الماركسي العربي، تخيلت صاحبه شخصاً متعصباً لأيديولوجيته، لا يقبل الاختلاف، عدواً لدوداً لأي فكر ديني. وعندما رأيته بعد ذلك بسنوات في مكتبه بقسم اللغة العربية بكلية الآداب يستقبل طلاباً إسلاميين ويشرف على أبحاثهم في تفسير القرآن الكريم، وحضرت جلساته التي يستشهد فيها بأحاديث نبوية ويذكر باحثين إسلاميين مرموقين بكل خير، أدركت أنني كنت أقيس الأستاذ الكبير على التلاميذ الصغار من الماركسيين الذين احتشدت بهم الجامعة المغربية في بداية ثمانينيات القرن الماضي. ولم أدرك وقتئذ أن الأستاذ في الواقع هو أحد تلاميذ طه حسين الذي يستند إلى قاعدة تراثية عربية وإسلامية ويونانية صلبة، وكان إلى جانب ذلك مهموماً بالديمقراطية وبمشكلات الفقراء.

يقول عن علاقته بطه حسين: «أعتبر نفسي ثمرة من ثمراته التي لا تعد ولا تنقضي في التاريخ الوطني والقومي والإنساني, رحمه الله».

ولعل من الأخطاء التي ينزلق إليها المرء في تقييمه للشخصيات الأدبية والفكرية الحديثة في مصر، ألا يتم ربط فكرها بمسار الثقافة العربية واتجاهاتها التي تبلورت في عصر النهضة وما ترتب عليه من انعكاسات ونتائج. إنّ ربط التفكير النقدي عند عبدالمنعم تليمة بالماركسية لا يختلف في شيء عن الربط الذي يجريه رجل المباحث الذي لا يهمه من العلم والمعرفة إلا ما يخدم به مصالح السلطة التي يمثلها. إن الأستاذ الكبير، الذي يشاء بعضنا أن يصنفه في زمرة الماركسيين على سبيل الاحتفاء والتقدير أحياناً، وعلى سبيل الاستغلال والترهيب السياسي أحياناً أخرى، يعلن أنه جزء من تلميذة طه حسين، الأستاذة سهير القلماوي التي كلما حضرت إلى قسم اللغة العربية بالجامعة، أطفأ سيجارته بسرعة خاطفة وهبَّ واقفاً بقامته المهيبة وشعره الأشيب، ويهب معه جميع من في القاعة إلى تحية الأستاذة الجليلة. فلا عجب إذن أن نجده يتحدث عنها بهذه الكلمات المؤثرة وكأنه يريد أن يشير إلينا جميعاً إلى أن نلتفت إلى السياق الصحيح الذي ينبغي أن نضع فيه رحلته العلمية والإنسانية؛ يقول: «ومن الثمار اليانعة التي تعهدها الدكتور طه تلميذته البارة المرحومة سهير القلماوي التي رأست قسم اللغة العربية، وكان لي الشرف أن تشرف على رسالتي للدكتوراه، وأذكر أنه يوم أن رقتني وجدتها تبكي وقالت: «أنا عشت يا عبدالمنعم لحدّ ما رقيتك أستاذ» فقلت لها: «رقّاني طه حسين لأستاذ مساعد وأنت رقَّيتني لأستاذ، فأنت جزء منه وأنا جزء منك».

مثَّل د. عبدالمنعم تليمة صورة حية لنموذج الأستاذ المصري الذي ارتسم في ذهني عندما كنت فتى مشغوفاً بقراءة الثقافة المصرية. والحق أنه لم تتح لي فسحة كافية من الوقت للاحتكاك الواسع به، ولكن في الحيز الضيق من الزمن الذي أتيح لي أن ألتقي به، كنت أراه إنساناً مهموماً بقضايا أكبر من مجرد «لغة الشعر» و«علم الأساليب» و«المناهج النقدية» و«البلاغة» وغيرها من القضايا الجزئية التي فتنتني في ذلك الوقت الذي انشغلت فيه بإعداد رسالتي للماجستير. كان الرجل قد عاد لتوه من رحلة اليابان التي استغرقت عشر سنوات، ولا شك في أن الرحلة قد تركت آثارها الواضحة على تفكيره وكتاباته التي أصبحت حول حوار الحضارات والثقافات والأديان والقوميات. لأجل ذلك كنت أشعر أن الأستاذ الكبير يترك لي الحرية التامة في صياغة موضوعي، ولكنه حرص على مراقبتي من بعيد وفسح لي مجالاً للاحتكاك بأساتذة آخرين بالقسم يثق بمقدرتهم العلمية ويسمح لهم بتوجيهي.

بعد سنوات طويلة من الانقطاع عن مصر والانغماس في الثقافة النقدية والبلاغية المغربية، عاودني الحنين إلى هذا البلد، وربما كان كتابي «الهوى المصري في المخيلة المغربية» (2007 و2014) أجلى تعبير عن رغبة مكبوتة في تجديد الصلة بالثقافة المصرية؛ وكان أول شيء قمت به في هذا الاتجاه أن أُطلع أستاذي على ما كتبته عنه في هذا الكتاب، وأُطلعه على  كتابي: «البلاغة والأصول: دراسة في أسس التفكير البلاغي عند ابن جني» (2006)، الذي لم يكن في الأصل سوى ثمرة من ثمار غرسه القديم؛ إذ كان أول من فتح عيني على عالم ابن جني البلاغي. كان وقع الكتاب عليه عظيماً، وسعادته به بادية على محياه عندما التقيت به أول مرة. ولقد سرّني اقتراحه عليَّ المشاركة في كتاب جماعي عن أعماله من تنسيق الجمعية الفلسفية المصرية؛ كان ذلك دليلاً على اقتناعه العلمي بي، مثلما كان دليلاً على اقتناعه بمكانته في وجداني وعقلي؛ هذه المكانة التي لم تتأثر بانصرام السنوات وبتباعدنا عن بعضنا البعض. وانتظرت انطلاق المشروع، ولكن من دون جدوى.

 

إشارته‭ ‬الأخيرة

في آخر لقاء لي معه زرته في بيته بصحبة الناقد المصري خيري دومة وباحث من اليمن وزميل من المغرب، وقدّم لنا طبقاً من الحلوى في جو من الموسيقى الكلاسيكية التي ملأت جنبات البيت؛ أمسك بورقة وقلم وطلب من كل واحد منا أن يحدثه عن انشغاله العلمي ومشروعه، وخاض معنا في تاريخ الأدب العربي وغيره من القضايا، ثم حدثنا عن كتاب المعري في شرح ديوان المتنبي «معجز أحمد» مشيراً إلى أنه ههنا يوجد النقد الأدبي، مثلما أشار إليَّ قبل ذلك بعشرين سنة إلى ابن جني الذي فتح أمامي آفاق البلاغة الرحبة، ومثلما كان يبثّ إشاراته البليغة في مناقشاته للرسائل والأطاريح أو في صالونه الثقافي، لم تفاجئني إشارته هذه المرة؛ فقد كنت أعرف انغماسه العميق في النصوص التراثية. ومنذ ذلك اللقاء لم تفارق ذهني إشارته إلى «معجز أحمد»؛ فقد تعلّمت أن لإشاراته بلاغة لا تدركها الأبصار بسهولة. فلعلّ فراقه الأليم اليوم أن يحفّزنا على التقاط إشارته الأخيرة إلى كتاب المعري؛ فيكون حوارنا مع هذا النص أفضل تقدير يمكننا أن نقدّمه له بعد رحيله .