د. تليمة.. نبل المبادئ وأصالة الفرسان

في يوم الاثنين السابع والعشرين من شهر فبراير الماضي، وعن عمر يناهز الثمانين عاماً، غيَّب الموت قامة وقيمة أدبية كبرى في ثقافتنا المصرية والعربية، فهو واحد من أبرز المثقفين والأكاديميين المصريين والعرب، كان خبيراً لُغويّاً وناقداً متميزاً ومثقفاً كبيراً، امتلك رؤى ثاقبة وحُجَجاً مقنعة ومنطقاً قويّاً، قرأ فألَّف، وتعمق ففهم التراث والنظريات النقدية الحديثة.
إنه الراحل المصري الدكتور عبدالمنعم تليمة، الذي ولد عام 1937، وتخرج في كلية الآداب قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة عام 1960، واستطاع أن يحصل على دبلومة عامة في التربية وعلم النفس عام 1961.
وفي عام 1963 حصل على درجة الماجستير وكانت عن الشعر السياسي في مصر من ثورة عرابي حتى ثورة 1919، حصل على درجة الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث عام 1966، وفي عام 1985 حصل على ليسانس في الآداب الكلاسيكية اليونانية واللاتينية من جامعة عين شمس.
عمل الدكتور تليمة مُعيداً في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة القاهرة عام 1967، وأخذ يتدرج بالقسم ذاته من مدرس إلى أستاذ مساعد ثم أستاذ ثم رئيس للقسم من 1994 وحتى 1997.
كان الدكتور تليمة - رحمه الله - عضواً بالعديد من الهيئات والجمعيات أبرزها جمعية الدراسات الشرقية بطوكيو، كما كان عضواً مؤسساً لاتحاد كتاب مصر، وعضواً مؤسساً ورئيس مجلس إدارة الجمعية المصرية للأدب المقارن، وعضواً مؤسساً للجمعية المصرية للدراسات اليونانية، وعضواً مؤسساً وعضو مجلس إدارة الجمعية المصرية للنقد الأدبي، كما كان خبيراً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة.
للراحل مجموعة من الكتب والأبحاث والدراسات التي ستظل مرجعاً مُهمّاً للدارسين والباحثين، من بينها: مقدمة في نظرية الأدب عام 1973، ومدخل إلى علم الجمال الأدبي عام 1978، وطرائق العرب في كتابة السيرة الذاتية عام 1983، ونجيب محفوظ عام 2001.
ولديه أيضاً فصول عدة في كتب: مئة عام من النهوض لطه حسين عام 1989، وفصل في كتاب عبدالرحمن بدوي عام 1982، وآخر بعنوان الثقافة العربية والكوكبة عام 2000.
شهرة تجاوزت الآفاق
وبالرغم من أهمية كل كتبه فإن كتابيه: مقدمة في نظرية الأدب، ومدخل إلى علم الجمال الأدبي كانا سبباً رئيساً في أن تجاوزت شهرته النقدية مصر لتصل إلى الأقطار العربية كافة، حيث فرق بين المنهجين الرئيسيين اللذين ينقسم إليهما البحث النظري في تاريخ الفكر الإنساني، وهما المنهج المثالي والمنهج العلمي، إذ ينحاز هو إلى الأخير الذي يرصد الظاهرة الأدبية في سياقها الاجتماعي والتاريخي، ولا يسير أبداً وراء نظريات تنقصها الدقة أو مغلوطة.
وأرى أن كتابه الرائع «طرائق العرب في كتابة السيرة الذاتية» لم يأخذ حقه ولم يحظ بالحضور الذي حظي به الكتابان اللذان أشرت إليهما سلفاً، في هذا الكتاب سجل تليمة انطباعاته ومذكراته عن رحلته إلى اليابان، إذ كان يعمل أستاذاً للغة العربية وآدابها هناك مدة عشر سنوات.
يقول د. تليمة: «عندما وجدت أن راتبي أعلى من راتب رئيس الوزراء الياباني رجعت على الفور إلى مسؤول الماليَّات في الجامعة، فكانت المفاجأة عندما أجابني بقوله: إن قانون الرواتب في اليابان موحد على الجميع، وإن درجته العلمية أعلى من درجة رئيس الوزراء الذي معه دكتوراه فقط، وإن سنوات خبرته أكثر من سنوات خبرة رئيس الوزراء، إضافة إلى نسبة تميز مهن التعليم، لذا استحق راتباً أعلى من رئيس الوزراء بالقانون».
طبعت كتب د. تليمة أكثر من طبعة، ومازال يتم تدريسها في مختلف الجامعات العربية، وأشرف د. تليمة على عديد من رسائل الماجستير والدكتوراه ونشرت أبحاثه ومقالاته في كبريات الدوريات العربية والأجنبية، وتقديراً لجهوده الأدبية والنقدية حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2004.
الجدال والمناقشة
ومن مميزات المنهج الفكري النقدي لديه، أنه كان ينحاز انحيازاً تامّاً للنهج الذي يقوم على الجدال والمناقشة مع أصحاب النظريات النقدية أيّاً كانت مكانتهم ودرجاتهم العلمية وأطروحاتهم الفلسفية والفكرية، فقد اختلف مع كبار النقاد العالميين أمثال روجيه جارودي وآرنست فيشر وجورج لوكاتش وغيرهم، حيث كان مُدلياً برؤيته ووجهة نظره، طارحاً أسلوبه وطريقته الخاصة والمميزة في التحليل والتعليل والبحث والاستنتاج.
قال عنه د. صلاح السروي في مقاله «الفكر النقدي عند عبدالمنعم تليمة»: «يتميز عن كثير من المثقفين والأكاديميين المصريين والعرب بولعه الواضح بالنظرية النقدية وبمحاولاته المتواصلة في الحفر عند جذور المفاهيم وأصول الأفكار، باعتبار ذلك شرطاً أوليّاً لإخصاب المعرفة النقدية وتأصيلها بمنطلقاتها وآلياتها وغاياتها، ولذا فإنه يأخذ في طرح درسه التأصيلي لتاريخ الفن الأدبي، ومصادره وأنواعه ومدارسه من حيث الممارسة الجمالية التطبيقية، وكذلك لتاريخ النظرية الجمالية - الفنية من حيث الرؤى الكلية ذات الوجه الفلسفي التنظيري، من ناجية أخرى محاولة استخلاص قوانين نوعية محددة لتطور الفن الأدبي، مستغلاً في ذلك وعيه الحاد بالفكر الفلسفي العام وبالفكر النظري النقدي - الأدبي بصفة خاصة في الآن ذاته».
لا ريب في أن شخصية د. تليمة قد انفتحت على آفاق معرفية كبرى، إذ كان يدرك منذ البدء معنى المثقف الحقيقي ودوره التنويري في كشف تزييف إدراك ووعي الأفراد والمجتمعات من قِبَل أي سُلْطَة سياسية كانت أو دينية.
وقد استمعت إليه في أحد البرامج التلفزيونية يوماً وهو يقول: التحقت بكُتَّاب القرية من عام 1940 حتى عام 1946، وخلال هذه السنوات الست استطعت أن أحفظ معظم أجزاء القرآن الكريم، وتعلمت تجويده على يد أحد الشيوخ، وكنت أستشعر روحانية غير عادية إذ كانت تزلزلني. ثم استطرد قائلاً إن إقبال الناس على فعل الطاعات في «رمضان»، وتركهم لها بعد انقضائه، أمر يدعو إلى الدهشة.. ويفسر ذلك فيضرب مثلا بالازدحام الشديد وتزايد عدد السكان، حيث يتركز سكان مصر على مساحة 6 في المائة فقط من مساحة البلد كذلك العبادات يجب أن تكون طوال العام وليست في أوقات محددة أو مخصصة لذلك.
هناك حكايات كان د. تليمة يذكرها دائماً ويكررها في معظم أحاديثه ليحفز بها طلابه، فقد حكى أن إحدى الجامعات الأمريكية في مطلع ستينيات القرن الماضي جاءت لعقد دورة عن الأدب العربي في كلية الآداب جامعة القاهرة، حيث كان يعمل مُعيداً بها آنذاك، وطَلَبَتْ من
د. سهير القلماوي رئيسة قسم اللغة العربية في ذلك الحين الإشراف عليها وإعدادها، وقد استعانت به في الإشراف والإعداد، ولما انتهت الدورة حدَّدت الجهة العلمية الأمريكية ثمانين جنيهاً لكل دكتور أو محاضر شارك في الدورة، ثم رصدت مكافأة مالية قيمتها أربعة آلاف جنيه للدكتورة القلماوي مقابل إعدادها وإشرافها الكامل على الدورة، لكن الجميع فوجئوا بها تقول: «لقد شاركني في عملية الإعداد والعمل بنفس الدور، بل وأكثر، تلميذي ومعيد عندي هو عبدالمنعم تليمة، وأطالب بنفس المبلغ له، أو أن يشاركني فيه بحيث يصبح قسمة عادلة بيني وبينه»، فقالوا لها ولكنه معيد وأنتِ رئيسة قسم، قالت: «هذا شرطي إمَّا أن يُعْطَى نفس القيمة أو أقتسم معه مكافأتي»، فأذعنوا لطلبها وأعطوه نفس مكافأتها، أربعة آلاف جنيه، وكانت هذه المكافأة في تلك الآونة تمثل قيمة كبيرة، وتقديراً غير عادي لشاب حديث التخرج.
ومن المواقف التي تدل على شجاعة الراحل العظيم د. تليمة، أنه لما كُلِّفَ هو والدكتورة القلماوي بالإشراف على رسالة الدكتوراه الخاصة بالسيدة جيهان السادات، رفض إعطاءها الدكتوراه وردَّ رسالتها، لأن ما تم كان مجاملة للرئيس السادات، إذ كان من الممكن أن يُرضي السُّلْطَة ليحقق طموحاته وأهدافه عبر طرق ملتوية وغير شرعية، لكنها عزة الرجال، وأصالة الفرسان، ونبالة أصحاب المبادئ والقيم الإنسانية النبيلة، وقد أيدت موقفه
د. القلماوي وساندته ووقفت إلى جواره.
رحلة كفاح
إننا لو دققنا النظر في رحلة كفاح هذا الرجل لوجدنا أن هناك الكثير من الروافد والعوامل التي ساهمت في تكوينه الثقافي والفكري، وساعدته كثيراً في تحديد مساراته النقدية، يقول في أحد تصريحاته «تتعدد مصادر التكوين بالنسبة لي داخل وخارج آداب القاهرة، فمثلاً درستُ المعجم العربي على يد الأب جورج شحاتة قنواتي بمعهد البحوث والدراسات، وتجديد الفكر الديني على الشيخ علي عبدالرازق، وتفاعل الأدب والمجتمع على زكي نجيب محمود، ومذاهب الأدب وفنونه على محمد مندور».
أيضاً ظل د. تليمة - رحمه الله - يحضر بصفة مستمرة جلسات مجمع اللغة العربية الذي كان يرأسه أحمد لطفي السيد في تلك الفترة، فضلاً عن أنه كان يواظب على المشاركة في ندوات المشاهير، مثل ندوة عباس العقاد وسلامة موسى وغيرهما، وكان يكرر زياراته لشيخ المحققين التراثيين محمود شاكر، وكذلك العلامة
د. إبراهيم مدكور.
أخيراً في الجامعة الأمريكية واحتفاء بإنجازه النقدي عُقِدَ لقاءٌ له مع بعض تلاميذه وأصدقائه، ألقى فيه كلمة موجزة لخَّص من خلالها تجربته في النقد ومراحل تكوينه فقال: «إنني وقعت في غرام عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، إذ كنت أتخفى في أيامي الأولى وأنا بالجامعة عام 1956 لأذهب إلى درس للفرقة النهائية كي أستمع إليه، وكان الزحام شديداً، وجاهدت حتى وصلت إلى مقعد الشيخ، وافترشت منديلي على الأرض بجوار قدمي الأستاذ وأخذت أتلقى، منذ تلك الخطوة الأولى وما تلاها من خطوات بقسم اللغة العربية وأنا مرتبط بشيوخ هذه الثقافة وأساتذتها الكبار».
كان الراحل د. تليمة من أوائل المفكرين العرب الذين تنبَّأوا بسقوط الشيوعية قبل أن تسقط بعشرين عاماً برغم انتمائه لها فترة، ولما سئل عن ذلك قال: «إن أي كيان أو فكرة يخلو جوهرها من الحرية، وتقدير كرامة الإنسان.. يقيناً يسقط»، وقد كانت الشيوعية بالتأكيد تخلو منهما.
لقد استطاع د. تليمة بعد عودته من اليابان أن يجعل من منزله مركز إشعاع ثقافي وفني تنويري، إذ إن ندوته كانت تقام به في يوم الخميس من كل أسبوع، وكان يشارك بها الأدباء والشعراء والكتَّاب والفنانون من الأجيال المختلفة، وكذلك تلاميذه ومريدوه، وقد أجمع كل هؤلاء على أنه ناقد بارع، ومثقف من طراز فريد.
اعتقل د. تليمة مرتين: الأولى أثناء تظاهرات 18 و19 يناير عام 1977، والثانية في ديسمبر عام 1986 بتهمة الانتماء إلى تنظيم ثوري سري، وقد فصل من الجامعة ونقل إلى وزارة الشؤون الاجتماعية أثناء حملة الرئيس السادات على رموز الحركات السياسية والفكرية في هذه الأثناء.
للراحل العظيم د. تليمة جوانب فكرية وأدبية غاية في الأهمية لم أتحدث عنها هنا، ولكني ركزت على بعض الإضاءات في حياته وفي سفره وفي علاقاته، فتحيَّة لروح عالم ومفكر وفيلسوف وأديب وفنان وناقد كان له الفضل على كثيرين .