رمضان في النصف الأول من القرن العشرين.. الموروث الشعبي والحكايات والذكريات

رمضان في النصف الأول من القرن العشرين.. الموروث الشعبي والحكايات والذكريات

يهل‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬الكريم‭ ‬علينا‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬ويتضوع‭ ‬الجو‭ ‬العام‭ ‬بأريج‭ ‬طيب‭ ‬من‭ ‬التاريخ،‭ ‬والموروث‭ ‬الشعبى،‭ ‬والحكايات‭ ‬الشخصية‭ ‬والعامة،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬الذكريات‭ ‬التي‭ ‬ترتبط‭ ‬بالشهر‭  ‬الفضيل‭ ‬وترحل‭ ‬بالمرء‭ ‬بعيداً‭ ‬في‭ ‬رحاب‭ ‬الزمن‭ ‬ترتبط‭ ‬بطفولته‭ ‬أو‭ ‬صباه،‭ ‬أو‭ ‬بلده‭ ‬والناس‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد،‭ ‬وتحمل‭ ‬الحنين‭ ‬إلى‭ ‬الماضي،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الذكريات‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬ليست‭ ‬وقفاً‭ ‬على‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الماضي‭ ‬الذي‭ ‬نحنُّ‭ ‬إليه‭ ‬ليس‭ ‬كله‭ ‬وقفاً‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يربطنا‭ ‬بالشهر‭  ‬الكريم‭.‬

من ناحية أخرى ربما يكون شهر رمضان بالنسبة إلينا في مصر يتعدى كونه مناسبة دينية مثلما هي الحال في جميع البلاد الإسلامية؛ وإنما هو في مصر بشكل خاص مناسبة دينية اجتماعية ربما لا نجد مثيلاً لها في بلد آخر. حقيقة أن لكل بلد تقاليده وموروثه الشعبي الذي يتعلق بالشهر الكريم، وأن أبناء كل بلد من بلاد المسلمين تربطهم ذكريات ذات طابع عام بشهر رمضان، ولكن هذا الشهر اكتسب ملامح خاصة في مصر منذ دخول الإسلام، ومع مرور الزمن ارتبط ببعض من المظاهر التي تتأثر في معظمها بالموروث الشعبي.

ولسنا مبالغين عندما نقول إن بعض العادات والتقاليد المصرية المرتبطة بهذا الشهر اكتسبت مع الأيام شكل العادات والتقاليد المصرية، في الريف وفي المدينة على السواء. فالفانوس الذي نجد الإشارة إليه، وما ارتبط به الأطفال والكبار عند خروجهم لصلاة التراويح في مواكب بهيجة حدثنا عنها المؤرخ المقريزي في «خططه» بالتفصيل؛ هذا الفانوس لايزال موجوداً حتى الآن ليجلب الفرحة للأطفال في شهر رمضان، وكان يضاء بشمعة نشعلها ونحن أطفال وله باب بسيط يحميه من الرياح التي قد تطفئه وكان بألوانه الساذجة يبعث فينا الفرحة والفخر، وإن تطور الفانوس على النحو المزعج المزيف الذي يستورده التجار من الصين، ولكن في النصف الأول من القرن العشرين كان الفانوس الذي يفرح به الأطفال هو الفانوس بسيط الصناعة الذي كان الحرفيون يصنعون منه أعداداً هائلة بأثمان زهيدة، ويشتريه الناس لأطفالهم قبل أيام من قدوم الشهر الكريم. وكانت وظيفة الفانوس قد تغيرت عن وظيفته في عصر سلاطين المماليك (التي حدثنا عنها المؤرخ تقي الدين المقريزي باستفاضة)، فلم يعد الأطفال يخرجون بفوانيسهم في مواكب لمصاحبة الكبار في صلاة التراويح، وإنما كانوا في النصف الأول من القرن العشرين يخرجون بها للغناء بأهازيجهم الجميلة.

‮«‬حالو‭ ‬يا‭ ‬حالو

رمضان‭ ‬كريم‭ ‬يا‭ ‬حالو

أدونا‭ ‬العادة

ربى‭ ‬يخليكم

حبة‭ ‬وزيادة

ربى‭ ‬يخليكم

لولا‭ ‬الحبايب

لولا‭ ‬جينا

ولا‭ ‬تعبنا‭ ‬رجلينا

حالو‭ ‬يا‭ ‬حالو

رمضان‭ ‬كريم‭ ‬يا‭ ‬حالو‮»‬

وتمضي قافلة الأطفال الصغيرة المرحة، تغني من بيت إلى بيت من بيوت الجيران، وفي كل مرة يخاطبون أهل البيت باسم ابن من أبنائهم (وربما يكون الطفل نفسه من بين أفراد القافلة الصغيرة) وكان الجيران يعطونهم ما يجودون به من «ياميش» رمضان (البلح، أو المكسرات أو ما شابه ذلك)، وتزيد فرحة الأطفال وهم يحصون ما حصلوا عليه في آخر هذه الجولة كل ليلة.

 

الراديو‭ ‬التسلية‭ ‬الوحيدة

كان ذلك يحدث عقب الإفطار مباشرة، ولكن قبله كان الجميع ينتظرون «مدفع الإفطار»، أي المدفع الذي كان يطلق ليحدث صوتاً يعرف الناس بواسطته أن موعد الإفطار قد حان، وعند إطلاق المدفع كنا نصيح مهللين ونتقافز فرحين لانطلاق المدفع، حقيقة كان هناك «الراديو» والمساجد؛ ولكن يبدو أنها لم تكن كافية لإعلام الناس بموعد الإفطار، ويجب أن نلاحظ أن الميكرفونات المزعجة لم تكن قد عُرفت بعد على هذا النطاق المثير للأعصاب الذي يحدث حالياً؛ ومن ناحية أخرى لم يكن المصريون قد عرفوا التلفزيون (الذي أدخل في مصر في بداية ستينيات القرن العشرين)، ولهذا السبب كان الراديو يقدم التسلية الوحيدة آنذاك.

وهنا كانت مادته الرئيسة مأخوذة من الموروث الشعبي، وخاصة من «حكايات ألف ليلة وليلة»، وكانت البيوت القليلة التي يمتلك أصحابها الراديو تضم الجيران لسماع «ألف ليلة وليلة»، وكان صوت الفنانة زوزو نبيل، عندما يقول: «بلغني أيها الملك السعيد»، وهي تبدأ الحكاية، مشيراً إلى أنها سوف تأخذ السامعين في رحلة جميلة، يطلق كل منهم خياله مع صوت الراديو ليتخيل الأحداث كما يشاء (وهي متعة قضى عليها التلفزيون كما سبق أن قضت عليها السينما من قبل) حتى يصحو من رحلة خياله على صوت الفنانة نفسها وهي تقول: «فلما أدرك شهرزاد الصباح سكتت عن الكلام المباح». كان الاستماع إلى حكايات ألف ليلة وليلة في الراديو متعة للجميع كباراً وصغاراً، ولكن هذه المتعة لم تكن الوحيدة؛ فكانت متعة الاستماع إلى حكاية الجدات الغريبة والمثيرة، تجتذب الصغار دائماً، على الرغم من إغراءات اللعب مع الأطفال من أبناء الجيران في الحى، وكانت الألعاب بسيطة وفي كثير من الأحيان تعتمد على ما يصنعه الأطفال أنفسهم.

 

كعك‭ ‬وبسكويت‭ ‬العيد

وعندما يمضي الشهر مقترباً من عيد الفطر (الذي كنا نسميه العيد الصغير حسبما جرت العادة، وحسبما عرفنا تسميته من أهلنا) تبدأ ملحمة عمل كعك العيد والبسكويت، وكانت الأمهات والبنات والقريبات والجارات يشتركن في عمل الكعك والبسكويت وغيرهما مما كان يجب عمله في تلك المناسبة. كانت السيدات والبنات، من بنات الأسرة أو الجيران والأصدقاء يتفنن في صناعة الكعك والبسكويت والغُريبة، وما إلى ذلك من الأنواع، وكانت مراحل صناعة كعك العيد تتم كلها في المنزل وسط جو من الألفة التي لا تخلو من المداعبات والفكاهة، ولا تخلو من بعض المشاغبات والمعاكسات، وربما ثارت بعض المشكلات الصغيرة أحياناً، ولكن كعك العيد وإعداده في شهر رمضان كان مناسبة اجتماعية ترتبط بالعادات والتقاليد التي تحرص عليها كل أسرة من المصريين، وكان الجو العام لهذه المناسبة جو مرح وود أسري، على الرغم من أن كعك العيد أحياناً كان يسبب مشكلات لبعض الأسر الفقيرة، نتيجة لضيق ذات اليد من ناحية، وبسبب الحرص على إحياء هذه العادة من ناحية أخرى.

كان هذا بشكل عام دور السيدات والبنات في المنزل، ولكن يبقى دور الرجال والصبيان في هذه المناسبة؛ كان دور أرباب الأسر بشكل عام يتمثل في توفير نفقات كعك العيد الذي لم تكن مناسبة تخلو من التفاخر والمباهاة بحسب المكانة الاقتصادية والاجتماعية لكل أسرة. ولم يكن من المتعارف عليه أو من تقاليد ذلك الزمان (النصف الأول من القرن العشرين) شراء كعك العيد جاهزاً من المحلات (كما هي الحال اليوم)، وربما كان من دواعي الخجل لربات الأسر آنذاك أن يتم شراء كعك العيد جاهزاً في تلك المناسبة على أي حال. وكان الرجال يقضون وقتهم أثناء إعداد كعك العيد وما شابهه من الحلويات خارج المنزل ويتركونه للسيدات والبنات صاحبات السلطة في تلك المناسبة البهيجة؛ أما الصبيان أي الأولاد من أبناء الأسرة أو أصدقائهم، فكانوا مسؤولين عن المشاق الجسمانية المرتبطة بإعداد كعك العيد؛ فقد كان عليهم حمل الكعك إلى الفرن، بعد أن تقوم السيدات بعمل اللازم ورصه في الصاجات (جمع صاج) اللازمة لإدخاله في الفرن، وكانوا يقومون بمهمة حمل الصاجات إلى الفرن المجاور لكي يتم إنضاجه على النحو المرضي، وبعد التسوية (النضج) تعاد الصاجات إلى المنزل الذي خرجت منه لكي يتم تفريغها حسب الأنواع المختلفة (الكعك، البسكويت، الغريبة... وغيرها من الأنواع) بمعرفة ربة الأسرة، ويتم ذلك في احتفال بسيط بين أهل البيت.

في تلك الأثناء يلتقي الرجال أصدقاءهم ومعارفهم في حلقات السمر التي تروى فيها النوادر والحكايات، أو يذهبون إلى الحسين (الحي الذي اشتهر بارتباطه بشهر رمضان)، وهناك يجلسون في واحدة من المقاهي المشهورة؛ وكانت إحداها معروفة بجلوس مشاهير الفنانين فيها طوال شهر رمضان؛ أو تقام فيها حلقات تشبه المنافسة لإلقاء النكت التي كانت تعرف في مصطلح ذلك الزمان باسم «القافية» (لأن المنافسة كانت تبدأ بأحدهم يطلب منافسة شخص آخر بقوله «تخش لي قافية»، وتبدأ بنكت حسب نوع المباراة مثلاً عن قافية السينما، أو قافية الجرائد أو قافية الحقائب... إلخ)، وكانت تلك المنافسات تضم فريقين يشجع أحدهما أحد المتنافسين في القافية، على حين يشجع الفريق الثاني المنافس الآخر.

وكانت الضحكات تنطلق خاصة عند استحسان سرعة بديهة أحد الطرفين... ولكن الفكاهة والمرح والارتجال اللحظي وذكاء المشتركين في المنافسة كانت تغلف جو هذه المنافسات التي كنت أحضرها وأنا طالب في الجامعة أوائل ستينيات القرن العشرين. على أي حال، كان الرجال يبحثون عن التسلية البريئة والمرح في هذا الحي. 

 

ليالي‭ ‬‮«‬الحسين‮»‬‭ ‬الرمضانية

ومن ناحية أخرى، كانت في «الحسين» خلال شهر رمضان شخصيات غريبة؛ تجمع بين التصوف وادعاء البساطة، وأذكر واحداً من هذه الشخصيات كان يتصور نفسه أحد الجنرالات، على الرغم من أنه يلبس جلباباً قذراً وعليه «جاكيت» قديم ضاع لونه الأصلي، وقد غطى صدره بأغطية زجاجات المياه الغازية على اختلاف أنواعها؛ فضلاً عن أنه كان يمسك سيفاً خشبياً يسير به بين الزحام لكي يتم به مظهر «الجنرال»... كان هذا من الأماكن المفضلة لدى أهل القاهرة في ليالي رمضان ذلك الزمان.

ومن الذكريات التي ارتبطت بشهر رمضان في النصف الأول من القرن العشرين أيضاً، تلك التي ارتبطت بشخصية «المسحراتي» وهو شخصية قديمة وأساسية بالشهر قديماً، وحدثنا عنه المؤرخون والرحالة الذين زاروا مصر في عصر سلاطين المماليك، وما بعده. وقدموا لنا أوصافاً مسهبة عما كان يقوم به المسحراتي. وقد ظلت وظيفته كما هي تقريباً على مر القرون، وربما لم تكن قد تغيرت في النصف الأول من القرن العشرين؛ فقد كان لكل حي، أو منطقة، في القاهرة المسحراتي الخاص بها. وهو يعرف البيوت وساكنيها، ولذا كان من المألوف في ذلك الحين أن يطوف على كل بيت لكي يوقظ أهله بالنداء على رب الأسرة، أو على أكبر الأولاد الذكور، لكي يقوموا ليتناولوا السحور. وكان يدق على طبلته الصغيرة دقات معينة تصحب تلك الأغاني الشجية التي ينشدها، وقد تتضمن أحياناً أسماء بعض من أهل البيت من الذكور، ويبدأ النداء بقوله: «اصحَ يا نايم.... وحِّد الدايم»، ثم ينشد أغنياته الجميلة الشجية التي كان المسحراتية ينافسون بعضهم بعضاً في إبداعها، أو على الأقل في حفظها وإنشادها. في ليالي الصيف الجميلة كان قدوم المسحراتي يلقى الترحاب خاصة من الأطفال والصغار؛ ولكن في ليالي الشتاء الباردة كان قدومه يسبب الضجر والملل، لأنه يعني القيام من الفراش الدافئ لتناول السحور.

وكان من عادة كل مسحراتي، عندما ينتهي شهر رمضان ويحل عيد الفطر، أن يمر على البيوت في المنطقة التي يعرفها، لكي يأخذ نصيبه من الكعك والبسكويت والغريِّبة وغيرها، فضلاً عن ياميش رمضان؛ وربما كان بعض الموسرين يعطيه بعض النقود على سبيل «العيدية» (وإن كان ذلك لا يحدث كثيراً) وبعد نهاية «الموسم» كان المسحراتي يعود إلى عمله الأصلي؛ فقد كان المسحراتية جميعاً من أصحاب المهن البسيطة المتواضعة التي يرتزقون منها طوال العام، ولا يقومون بوظيفة المسحراتي سوى في شهر رمضان، وفي لياليه فقط.

لقد كانت ذكرياتنا في شهر رمضان نوعاً من الحنين الذي يربطنا بجزء من تاريخنا القريب، ولا سبيل إلى استعادته ولا رغبة في عودته، لأن الزمن يمضي في صيرورة دائمة من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل. وإنما نتذكر كيف كانت ملامح وسمات هذه الفترة القريبة من تاريخنا الاجتماعي والثقافي وماذا كانت عليه بعض عاداتنا وتقاليدنا، لقد كان شهر رمضان الكريم في النصف الأول من القرن العشرين مزيجاً من الموروث الشعبي، والحكايات والذكريات التي لا تنسى .