واقع النقد الأدبي الخليجي.. اتجاهات نقدية لا تعترف بالحدود محمود أمين العالم تصوير: طالب الحسيني

واقع النقد الأدبي الخليجي.. اتجاهات نقدية لا تعترف بالحدود

ضمن فعاليات مهرجان القرين الثقافي الثاني الذي عقد في الكويت خلال الفترة من 12 إلى 14 ديسمبر عام 1995، جاء هذا الملتقى الأدبي تعبيرا عن خصوبة الحياة الأدبية التي تعيشها منطقة الخليج، وأثيرت في جلساته العديد من القضايا.

عندما ينعقد ملتقى للنقد الأدبي، لا يكون انتسابه إلى الأدب أساسا، بقدر ما يكون انتسابه أقرب إلى الفكر الفلسفي، أيديولوجيا كان أو إبستمولوجيا، فإذا كان النقد الأدبي هو قراءة للأدب سواء كانت هذه القراءة منهجية أو انطباعية، فإن ملتقى للنقد الأدبي، يكون همه الشاغل بالضرورة هو الكشف عن أسس هذه القراءة ومرتكزاتها المعرفية والمنهجية، أو بتعبير آخر يكون أقرب إلى الفكر النظري النقدي - بالمعنى الكانطي لمفهوم النقد - أو إلى ما يسمى بنقد النقد منه إلى الفكر الإجرائي.

لكن إلى أي حد برز هذا التوجه النظري في هذا الملتقى المكرس للنقد الأدبي في دول مجلس التعاون؟ هذا ما سنحاول تبينه في هذه الدراسة.

والملاحظ أولا أن هذا الملتقى المكرس للنقد الأدبي في هذه الدول، كان واعيا منذ البداية - على لسان العديد من المشاركين فيه - بأن هذا النقد الأدبي رغم خصوصيته المحلية والتاريخية، هو امتداد للنقد العربي القديم، وللاجتهادات النقدية في الثقافة العربية الحديثة عامة، فضلا عن تأثره بالنقد الأدبي العالمي. ولعل هذا ما دفع الدكتور عبدالله الغذامي في مدخل كلمته في الملتقى إلى استبعاد فقرة "بدول مجلس الخليج" من عنوان الملتقى ليحرر النقد من الحدود السياسية. فآفاق النقد على حد تعبيره "مفتوحة على المكان وعلى الزمان وعلى اللسان" فضلا عن تحريره "من قيد فكري وأيديولوجي ليس له معنى سوى كونه سلطة اصطلاحية" وهذا ما دفع الدكتور نجيب العوفي في تعقيبه على كلمة د. الغذامي إلى القول إن تخليص عنوان الملتقى من هذا القيد الفكري والأيديولوجي "إنما يجهز على المرتكز الجغرافي والتاريخي لأشغال الملتقى، ويقوم بتعويم أو تهويم آفاق النقد الأدبي في عراء الزمان والمكان واللسان"،"ويقع في قيد أيديولوجي آخر مضمر". والواقع أننا سوف نتبين هذا القيد صريحا وليس مضمرا عندما نعرض لكلمة الدكتور الغذامي في الملتقى، لا شك أن النقد الأدبي - موضوع هذا الملتقى - ينتسب أساسا إلى الخبرة الجغرافية، والاجتماعية، والتاريخية الحية لبلدان الخليج والجزيرة العربية، دون أن يعني هذا عزله عن الخبرة العربية والعالمية من ناحية، أو تعويمه - على حد تعبير د. العوفي - في رؤية نقدية مطلقة.

أسس النقد الأدبي

ولا شك أن انعقاد ملتقى للنقد الأدبي في دول مجلس التعاون يعني بالضرورة أن هناك أعمالا أدبية، وممارسات نقدية عليها، بلغت من النضج ما يفرض عقد هذا الملتقى النقدي للنقد الأدبي ويعطيه مشروعيته، وهذا ما ينقلنا إلى السؤال الجوهري في هذا الملتقى: ما هي الأسس والمرتكزات المعرفية والمنهجية للنقد الأدبي في دول مجلس التعاون؟ وهل هناك رؤية نقدية أدبية سائدة أم هناك أكثر من رؤية؟.

لقد رأيت أن أتخذ من ورقة " نقد النقد الأدبي في دول مجلس التعاون " للدكتور سعد البازعي نقطة انطلاق في تحديد معالم خريطة النقد الأدبي في هذه الدول لشمولها على مختلف الاتجاهات النقدية، فضلا عن أنها تتسم نسبيا بالمعالجة النظرية لهذه الاتجاهات، وإن غلب عليها - شأن الجانب الأكبر من أوراق الملتقى - الطابع التأريخي والوصفي والتصنيفي عامة، كما سوف نرى.

يميز الدكتور البازعي في نقد النقد بين النظرية النقدية والتأريخ النقدي، ويرى أن التأريخ النقدي هو"الأكثر ألفة" في بلدان التعاون، على حين ظل التنظير النقدي غائبا باستثناء "بعض الجهود المتفرقة هنا وهناك" ولهذا غلب على ورقة الدكتور البازعي - كما يقول هو نفسه - الاستعراض لبعض الجهود التأريخية مع إشارات إلى بعض الجهود التنظيرية، وإن جاءت في الحقيقة إشارات جزئية عابرة. على أنه يميز بين النقد الأدبي في الدول الواقعة في الخليج أو على ضفافه والتي ترتبط بقدر عال من التجانس أو التداخل الثقافي - كما يقول - وبين مناطق الجزيرة العربية البعيدة جغرافيا عن الخليج كالحجاز وعسير، وبدرجة أقل منطقة نجد. وقد استند الدكتور البازعي في دراسته للنقد الأدبي في دول الخليج إلى كتاب الدكتور محمد عبدالرحيم كافود في كتابه "النقد الأدبي" الحديث في الخليج العربي " الذي صدر عام 1982 والذي يعده أول دراسة منهجية موسعة ومتخصصة ورائدة للنقد الأدبي في هذه المنطقة كما استلهم بعض ملاحظات من قراءته النقدية لمقدمة الدكتور علوي الهاشمي على كتاب "ما قالته النخلة للبحر". على أنه في الحقيقة لا يخرج عن حدود استعراض آراء الدكتور كافود حول سمات النقد الأدبي الخليجي مثل تقسيم النقاد إلى محافظين ومجددين، وطغيان التطبيق على التنظير وعدم التزام النقاد بمنهج محدد والميل إلى الالتزام بقضايا اجتماعية وسياسية وتغليب الاهتمام بالمضمون على الشكل، والتأثر بالمناهج الغربية دون تمثلها إلى غير ذلك

هو ينتقد الدكتور كافود على انتقائيته المنهجية، ويرجع ذلك إلى ضعف التنظير النقدي دون أن يقدم هو نفسه جهدا نظريا أبعد من الحدود التي بلغها الدكتور كافود.

ينتقل الدكتور البازعي بعد ذلك إلى نقد النقد في المملكة العربية السعودية فلا يجد كتابا شاملا مثل كتاب الدكتور كافود. ولهذا يكتفي ببعض المقالات والكتابات المحدودة. ولعل أبرزها مقال للدكتور محمد الشنطي حول النقد في العربية السعودية الذي نشر في الكتاب الدوري "قوافل" ضمن عدد خاص عن الخطاب النقدي في المملكة. (الرياض عام 1994 الذي يعرض فيه لتيارات ثلاثة في النقد السعودي هي التراثي المعارض للتجديد والإسلامي الحذر من التجديد والتجديدي المنفتح ولكن دون مغالاة. ويأخذ عليه الدكتور البازعي عدم إشارته إلى نقاد آخرين في طليعتهم د. محمد الشامخ الذي يحتل كما يقول أهمية ريادية في النقد السعودي. كما يضيف تصنيفا آخر لستة أنواع من النقد إلى التصنيف الثلاثي الذي قال به الدكتور الشنطي. ولعل من أبرز هذه التصنيفات ما يسميه بالنقد التقويمي المشاكس القائم على التحليل الأسلوبي الألسني. ومن أبرز ممثليه الدكاترة الغذامي وعثمان صيني والقرشي والسريحي، فضلا عن اتجاهات أخرى تتسم - كما يقول - بالحرص على الوسطية والتكامل والاتزان والشمولية والحرص على المعايير الأخلاقية في أحكامها. كما يشير في النهاية إلى الدكتور الرويلي الذي يعده أول من مارس في النقد المحلي منهج التفكيك لديريدا والذي حرص الدكتور البازعي على تسميته بالمذهب التقويضي.

والملاحظة العامة على ورقة الدكتور البازعي -كما توضح تلك العناصر التي أشرت إليها- بأنها تكتفي بالاستعراض والتعريف والتصنيف للدراسات النقدية المختلفة، مع إصدار بعض الأحكام الجزئية هنا وهناك، دون أن نتبين الأسس التي تقوم عليها هذه الدراسات. وملاحظاته على دراسة الدكتور كافود. كما يقول الدكتور رمضان بسطاويسي في تعليقه على ورقته - هي ملاحظات عامة على النقد العربي المعاصر عامة منذ بداية القرن حتى الآن، ولم يقدم أي منهاج يميز خصوصية الدراسات النقدية في دول مجلس التعاون.

لعلي أفضت نسبيا في تقديم ورقة الدكتور البازعي وإن لم أوفها حقها في الحقيقة، ذلك أنها تكاد تمثل بمنهجها خلاصة العديد من الأوراق الأخرى المقدمة في الملتقى. ولهذا سأكتفي بالإشارة السريعة إليها، لأنتقل إلى ما أراه في الحوار الرئيسي الذي دار في هذا الملتقى.. ومن الطبيعي أن أبدأ بورقة الدكتور كافود الذي استند الدكتور البازعي إلى كتابه. ورقة الدكتور كافود بعنوان " أوليات النقد الأدبي في دول مجلس التعاون خلال النصف الأول من القرن العشرين ". والواقع أن الورقة على جانب كبير من الرصانة والدقة والشمول في تحديد المواقف النقدية المختلفة في هذه المرحلة التي حددتها، وهي لا تقف عند منطقة الخليج بل تمتد إلى الجزيرة العربية، ويلخص الدكتور كافود أهم ملامح هذه المواقف النقدية في نهاية ورقته في عدة نقاط هي الدعوة إلى التجديد ورفض المحاكاة، وشيوع النزعة الرومانسية والازدواجية في التطبيق بين المفاهيم والقيم القديمة والجديدة وبروز ظاهرة المعارك الأدبية والتركيز على الجوانب السلبية أكثر من إيجابيات العمل المنقود، وأن الكثير من الأحكام اتسمت بالتعميم والتسرع والانفعالية. والملاحظ على ورقة الدكتور كافود وعلى هذه النقاط الأخيرة، غلبة الطابع التصنيفي والتأريخي في دراسته وامتزاج الطابع التأريخي بالتقييم المعياري الخارجي وافتقاد التحديد النظري للأسس المعرفية للمواقف النقدية المختلفة. إن غلبة الطابع التطبيقي وافتقاد الوعي النظري في مرحلة مبكرة من مراحل الممارسات النقدية، لا تعني خلو هذه الممارسات من أسس ومرتكزات نظرية.

يؤكد الدكتور محمد حسن عبدالله في ورقته "الاتجاهات التعبيرية والاجتماعية في النقد الأدبي " أن النقد الخليجي (بحدوده الجغرافية) "لم ينشغل بالأصول النظرية، ولم يناقش أسس النقد (...) ولهذا ظل في حدود النقد العملي أو التطبيقي " وهو يفسر ذلك بأن هذا " يتناسب ونزعتهم العملية بصفة خاصة وبحاجة أدبهم الحديث الذي يستهدفون تقديمه إلى القارئ ". وهو في الحقيقة تفسير غريب إذ يكاد يعني تأبيد عدم الانشغال بالأصول النظرية على أساس الطبيعة العملية الثابتة للخليجيين من ناحية فضلا عن التوجه الغائي المقصود قصدا لإبداعهم الأدبي!! والواقع أنه حتى لو صح هذا- وما أعتقد أنه صحيح - فإنه لا يتناقض مع إمكان كشف ما وراء هذا النقد العملي أو التطبيقي من ركائز نظرية سواء كان الناقد واعيا بها أو غير واع. على أن ورقة الدكتور محمد حسن عبدالله ورقة ضافية، وإن اقتصرت على الاتجاهات التعبيرية والاجتماعية في دول الخليج وفي الجزيرة العربية التي يرى أنها مصدر الاهتمام بالنقد النظري في بلدان الخليج. وهي في تحديدها لهذه الاتجاهات وقفت عند حدود التعريف والتوصيف والتصنيف كذلك دون محاولة كشف جذورها المعرفية النظرية، وهو الهم الأساسي لعملية نقد النقد.

هل تخلف النقد في الخليج؟

ويتفق الدكتور إبراهيم عبدالله غلوم مع الدكتور محمد حسن عبدالله، في تخلف النقد الخليجي عن الانشغال بالأصول النظرية، إلا أنه في ورقته عن " بواكير النقد الأدبي من الانزياح إلى المرجعية الأدبية والاجتماعية " يقصر هذا التخلف على مرحلة البواكير الأولى التي يصفها الدكتور غلوم بالتأسيس ويعرفها ب "زمن المقدمات التي لم تعرف النقد منهجا ولا رؤية " وإن يكن يستثني الشاعر الكبير إبراهيم العريض الذي كتب " الأساليب الشعرية " عام 1950 و"الشعر والفنون الجميلة" فالتجربة النقدية - كما يقول - تنظيرا وتطبيقا لا ترتبط بشيء قدر ارتباطها بجهاز مرجعي مؤسس على الصعيد الإبستمولوجي والأدبي والاجتماعي. وكان المرجع آنذاك - كما يقول - الذي يحتكم إليه الفكر هو العرف والفطرة والسليقة ولكنه مع ذلك يرى في هذه المرحلة المبكرة رؤية نقدية يسميها ب " الرؤية المتماهية " وهي رؤية يغلب عليها طابع التقليد واستنساخ رؤى الآخر في البلاد العربية الأخرى وبخاصة مصر. وإن كانت بعض نماذج هذه الرؤى المتماهية، " تعبر عن صراع اجتماعي مستتر يعوق المجتمع حرية ظهوره ".

بهذا استطاع الدكتور غلوم أن يتبين جذور هذه الاتجاهات النقدية في مرحلة البواكير الأولى برغم وبفضل تماهيها " القناع " مع الآخر الذي هو معنى من معاني " وجهها " المستتر.

إن غلب الدكتور غلوم الجانب الاجتماعي في هذه الجذور على الجانب المعرفي الذي يمكن اكتشافه كذلك في قلب هذا الازدواج. أما الفصل الذي كرسه الدكتور غلوم للشاعر الناقد المفكر إبراهيم العريض فمناقشته تحتاج إلى مجال لا يتسع له هذا المقال.

وفي" روافد النقد الأدبي الكلاسيكي لدول مجلس التعاون " اكتفت الدكتورة نوال عبدالله الإبراهيم بعرض التعاريف المختلفة لروافد المدرسة الكلاسيكية في الشعر خاصة، ثم بمتابعة الإرهاصات الأولى الكلاسيكية في العشرينيات من هذا القرن، مع تحديد السمات المختلفة للنقد الكلاسيكي القديم والجديد وهو بحث قيم وإن يكن أقرب إلى المتابعة التاريخية والتوصيف والتصنيف كذلك دون تحديد الأسس المعرفية والموضوعية التي كانت وراء التأثر بهذه الروافد المختلفة التي حددتها، فضلا عن طبيعة هذا التأثر ومداه.

وفي ورقة الدكتورة نورية صالح الرومي "حول الخطاب المسرحي في النقد الأدبي بالخليج العربي" نقرأ عرضا تفصيليا منهجيا دقيقا للحركة المسرحية في الخليج العربي وما صاحبها من تحولات نقدية، وتنهي الدكتورة الرومي ورقتها بالقول إن "الناقد المسرحي في منطقة الخليج لا يزال عملة نادرة" "ولا يزال تابعا يدور في النقد الصحفي والنقد الكلاسيكي المعني بتلخيص النص المسرحي أو الاكتفاء بوصف العرض، ومن ثم ظلت رسالته غير مؤثرة وفعالة"، ولعلها ترد ذلك إلى "أن معظم النقاد المسرحيين من أساتذة الأدب والنقد في أقسام اللغة العربية حيث النص المسرحي لا العرض المسرحي جزء من اهتماماتهم وقليل منهم هو الذي يملك ثقافة مسرحية موسعة تسمح له بالحكم على العرض المسرحي" ويقدم الدكتور مرسل فالح العجمي "قراءة أولية لنقد القصة في دول مجلس التعاون" وهي خلاصة شبه موسوعية لسبعة عشر بحثا كتبها خمسة عشر باحثا في القصة، صنفها الدكتور العجمي في أقسام ثلاثة هي النقد التاريخي والنقد المؤدلج ومحاولات تنظيرية، برغم إدراكه للتداخل الأيديولوجي في هذه الأقسام الثلاثة بمستوى أو بآخر. ويغلب على الدراسة تلخيص الاتجاهات النقدية وتصنيفها، إلى جانب تقييم بعضها تقييما خارجيا سلبيا كان أو أيديولوجيا. ولهذا كان الدكتور محمد رجب النجار مصيبا في تعقيبه على هذه الدراسة قائل ا: إنه كان يتوقع أن يقدم الباحث تصورا عاما كليا لما انتهت إليه قراءته النقدية للخطاب النقدي القصصي في دول مجلس التعاون، ولا يكتفي فحسب بتفكيك هذا الخطاب الذي يبين عن ميل الباحث إلى النقد النصي الألسني - هذا إلى جانب الإشارة المهمة للدكتور النجار، أو بالأحرى لتساؤله حول إمكان إقامة نظرية في الأدب أو النقد الأدبي وأكثر من نصف تراثنا الأدبي وأبعده تنوعا وثراء - ويعني به الأدب الشفاهي الشعبي العربي. لا يزال مغيبا في الدرس الأدبي الأكاديمي!؟.

المدرسة الحجازية النقدية

ننتقل أخيرا إلى ما يمكن تسميته بالمدرسة الحجازية في النقد الأدبي التي عبر عنها في الملتقى الدكاترة سعيد مصلح السريحي ومعجب الزهراني وعبدالله الغذامي. وهي مدرسة نقدية ذات توجه منهجي محدد يغلب عليه الاتجاه الألسني الحداثي. ولقد كانت هذه المدرسة مدار أهم الحوارات في الملتقى وكانت مساهمتها من أغنى المساهمات فيها سواء اتفقنا معها أو اختلفنا. يقدم الدكتور السريحي ورقة بعنوان " المؤلف وجماعات الخطاب: من خواطر مصرحة إلى موت الكورس " وهي قراءة للخطاب النقدي في الشعر وإن تكن تركز على " خواطر مصرحة " لمحمد حسن عواد الذي صدر عام 1926م و"بيان موت الكورس" الذي أصدره في البحرين عام 1948 قاسم حداد وأمين صالح، باعتبار أن الخطاب الأول يمثل الخطاب الإصلاحي والثاني يمثل الخطاب الحداثي، ويشير الدكتور السريحي إلى الخطاب الإسلامي، ولكنه لا يعرض له باعتبار أنه يتوقف عند غاية قصوى تتمثل في استعادة المضامين القديمة وإحيائها داخل الأشكال القارة. وإذا كان خواطر مصرحة يعبر - كما يقول الدكتور السريحي - عن بروز الفكر الجماعي للمؤلف معبرا عن تأسيس علاقات قوى جديدة وبالتالي علاقة قوى جديدة في مواجهة علاقات القوى السائدة، فإن " بيان موت الكورس " يدعو إلى موت الكورس أي موت الصوت الجماعي بما يفرضه من أشكال وأنماط وشروط وإلى تأكيد قيمة المخيلة والحلم واللغة. على أن موت الكورس يعني - في الحقيقة - قيامة كورس آخر لا يقف عند حدود قاسم حداد وأمين صالح وإنما يتبلور في مجلة " كلمات " ثم يمتد ليشمل بيانا آخر صدر قبل بيانها من خارج دول الخليج هو " بيان الحداثة " لأدونيس ثم " بيان الكتابة " لمحمد بنيس. وبهذين النموذجين الإصلاحي والحداثي يكشف الدكتور السريحي عن الصوت الجماعي الكامن خلف مفهوم المؤلف. ولكن.. هل الصوت الجماعي يتوافر حقا في بيانات الحداثة التي تدعو إلى موت الصوت الجماعي، أم أنه صوت آحادي يؤسس لتمايز نوعي آحادي واسع يراوغ فيه تكريس الصوت الجماعي ليتحول هذا الصوت الآحادي ليكون وحده الصوت الجماعي، كما يتساءل الدكتور عبدالله المهنا في تعقيبه على ورقة الدكتور السريحي ؟! وفضلا عن ذلك فإن الدكتور السريحي لم يقم بأي دراسة للجذر التاريخي والموضوعي للاختلاف بين الخطاب الإصلاحي والخطاب الحداثي، وقصر الخطاب النقدي على الخطابات الثلاثة فحسب، مغفلا خطابات أخرى، إلى جانب أنه عرض لبيان " موت الكورس " دون أي تحليل أو تقييم نظري له وهو الجهد الذي قام به الدكتور المعقب.

اتجاهات جمالية

ومن المدرسة الحجازية يقدم الدكتور معجب الزهراني بحثا ضافيا عميقا عن " الاتجاهات الجمالية في النقد الأدبي في دول مجلس التعاون " مكرسا بحثه لقراءة " جماليات الإبداع وجماليات التلقي " كما يطرحها كتاب " الخطيئة والتكفير " للدكتور عبدالله الغذامي. ويرى الدكتور الزهراني أن النقد الجمالي - كما ينبغي في المستويين النظري والتطبيقي - غائب ومغيب عن الخطاب النقدي السائد في هذه المنطقة.

يعتبر كتاب الدكتور الغذامي " أول وأهم محاولة جادة لطرح القضايا المتعلقة بالنص الأدبي إنجازا وتلقيا من منظور حديث " كما أنه أول إنجاز نقدي في الجزيرة العربية يسعى إلى التعريف بالاتجاهات النقدية الألسنية الحديثة والعمل على استثمارها نظريا ومنهجيا في قراءة جديدة لمجمل الإنجاز الأدبي للشاعر حمزة شحاتة، فضلا عن تعامله المعرفي الحواري مع أطروحات النقد العربي القديم وخاصة في كتابات الجرجاني وحازم القرطاجني، ومع منجزات الفكر الفلسفي الحديث وخاصة تفكيكية " ديريدا " والنماذج العليا عند " يونج " واللاوعي باعتباره لغة عند " لاكان ". وإلى جانب هذا، اجتهد الدكتور الغذامي لتبيئة المفاهيم والمصطلحات الغربية في الثقافة العربية بتحويلها وتغييرها وتطويرها لتتلاءم معها، ولعل ترجمته الموفقة لمصطلح ال. Poetics بالشاعرية لا الشعرية أو الإنشائية أو البيوطيقا إلى غير ذلك أن تكون نموذجا دالا على ذلك. والشاعرية تتمثل عند الدكتور الغذامي وكما يقول هو نفسه في " انتهاك القوانين العادية مما ينتج عنه تحويل اللغة من كونها انعكاسا للعالم أو موقفا منه، إلى أن تكون هي نفسها عالما آخر وربما بديلا عن هذا العالم ". والنص الأدبي عنده كما يقول الدكتور الغذامي في كتابه " الخطيئة والتكفير "، يدور حول قطبين أحدهما قطب الصوت وقد يسميه الإنشاء الإيقاعي ويشمل كل جماليات اللغة وبلاغتها، وقطب المعنى أي الإنشاء المعنوي، وشاعرية النص أو جمالياته مرتبطة بالقطب الأول فحسب. فالمعنى كما يقول ليس سر العمل الأدبي بل سره اللغة أي الصياغة. ولهذا فالشاعرية عنده قد توجد في نصوص غير أدبية. هذا فيما يتعلق بشاعرية النص، أما شاعرية التلقي فهي عنده القراءة التي لا تتجه إلى المؤلف أو إلى المجتمع أو إلى المعنى أو إلى الدلالة الظاهرة وإنما تتجه إلى النص نفسه وتصفه وتحلله كما هو وتسعى لكشف ما هو في باطنه وتقرأ فيه ما هو أبعد مما هو في لفظه الظاهر، وذلك من أجل إعادة تركيبه كلا بنيوبا نموذجيا للعمل المقروء وهذا يعني إمكان تعدد القراءات للنص الواحد. ويتركز تعقيب الأستاذ جمال باروت على دراسة الدكتور الزهراني في النهاية على تساؤلين: الأول حول مدى انطباق مفهوم الشاعرية عند الدكتور الغذامي على شعر حمزة شحاتة الذي يتسم بالجمال الشعري الكلاسيكي الذي يحكمه المعنى. أما التساؤل الثاني فينطلق بإشكالية تطبيق مفهومه للشاعرية على الأجناس السردية في الرواية أو القصة القصيرة والقصة عامة.

على أن الملاحظ أن الشاعرية عند الغذامي تكاد تميز تمييزا قاطعا بين ما هو جمالي وما هو دلالي ومعنوي في النص الأدبي بما يقترب من التمييز بين الصياغة والمضمون، فضلا عن أنه يقصر الشاعرية على الجانب الصياغي وحده. وإن كان الدكتور الغذامي في نقده التطبيقي على شعر حمزة شحاتة يخلط بين الجمالي والدلالي والمعنوي والأيديولوجي، إلى جانب أن استخدام الدكتور الغذامي لمصطلح التفكيكية ليس تبييئا لهذا المصطلح من فلسفة ديريدا في الثقافة العربية، بل يعد خروجا تاما عن مدلوله الأصلي عند ديريدا. ولعل ما يفسر ذلك - كما يقول الدكتور الزهراني -" هو حرص الدكتور الغذامي على أن يتعامل بحرية كبيرة جدا مع النظريات والمفاهيم والمصطلحات النقدية الغربية (...) دون أن يقيد نفسه بأي أصل أو مرجعية محددة، فضلا عن تعلقه بحرية الكتابة والتفكير والإبداع والابتكار والمغامرة وتحويل المسلمات إلى تساؤلات وإشكاليات.

ونتوقف أخيرا عند الدكتور الغذامي نفسه في ورقته حول " آفاق ما بعد الحداثة " ولعلها تكون أخطر الأوراق التي قدمت في الملتقى وأكثرها إثارة للحوار والتساؤلات. وهي تدخل في الحقيقة في باب التنظير النقدي الخالص لا في باب نقد النقد الأدبي وإن جاء ذلك متضمنا في التنظير النقدي الذي يقدمه. وتنقسم ورقة الدكتور الغذامي إلى قسمين: قسم يفكك فيه عناصر الموضوع الذي اقترحه عليه الملتقى ولم يكتب فيه وهو " آفاق النقد الأدبي في دول مجلس التعاون "، وقسم يعرض فيه لموقفه من قضية ما بعد الحداثة.

في القسم الأول يستبعد " شبه الجملة " التي تحدد المجال الجغرافي والسياسي للنقد وهو (في دول مجلس التعاون) لأن آفاق النقد - كما سبق أن أشرنا في البداية - لا تملك حدودا تماثل الحدود السياسية - ثم يرى في " آفاق النقد الأدبي " قيدا على الآفاق وتضييقا لها لكي تصبح آفاقا نقدية، كما يرى في وصف النقد بالأدبية قيدا على النقد نفسه. فالأدبية مصطلح يجنح إلى جعل الأدب مقصورا على الجليل والمعلن والمقبول تقليديا، وينسى الحقير والمستور والمهمش في إطار المؤسسة الثقافية الرسمية. ولهذا يرى فتح آفاق النقد لكل ما هو فاعل ومؤثر في جماهير الناس - ويضرب مثالا على ذلك بالأغنية الشبابية " والنكتة "، ويقارن بينها وبين ما يقال عنه أنه " ديوان العرب " ويتساءل أيهما المؤثر في الناس؟، وأيهما أحق بعناية الباحثين؟ ليجد أن غير المؤثر هو ما يشغل بال الدارسين وأن الفاعل والمسيطر على عقول الناس هو المغفول عنه. ومقصد الدكتور الغذامي من تفكيك عنوان الموضوع الذي كان مطلوبا منه هو - كما يقول -: "تحرير مصطلح " الأدبي " من شرط الرسمي والجليل والبليغ، هذه الشروط القسرية والتقليدية التي تعلي من شأن المكتوب وتقلل من شأن الملفوظ وتقصر الفنية على الرسمي وتتعالى على الشعبي ". وينتهي أخيرا إلى أن النقد لم يعد علما أدبيا بحسب المعنى التقليدي، وإنما أصبح فعالية ثقافية يعتمد على النظرية المستقلة عن التخصص العلمي المحدد وذات النشاط المعرفي المفتوح.

هل فشل المشروع الحداثي؟

أما في القسم الثاني من ورقته، فإن الدكتور الغذامي يعالج ما يسميه ثقافة "المابعد". فنحن في مرحلة ما بعد الحداثة، وما بعد البنيوية، وما بعد الكولونيالية، وما بعد عصر الصناعة وهي - كما يقول - مرحلة بحث عن إجابات جديدة لأسئلة جديدة وقديمة. ولم تعد الحداثة كافية للإجابة عنها. وليس ما بعد الحداثة إلا رد فعل لفشل المشروع الحداثي المتمثل في العلم الحديث والاتجاه العقلاني والليبرالي. فقد عجزت جميعا - كما يقول بعض الباحثين الغربيين - عن حل المشاكل الاجتماعية والعمرانية والأمنية بل دعمت الأنظمة الشمولية وتضاءل معها الاهتمام بالقيم الأخلاقية والأبعاد الروحية والميتافيزيقية. ولهذا أخذ الفكر الغربي المعاصر يعيد النظر فيما هو مقدس وما هو ذو خصوصية، وما هو لا عقلاني، وهنا يتساءل الدكتور الغذامي: هل نتوقف عند الحداثة أم ندخل في حفل الترف الفكري الغربي؟ وينتهي إلى القول إنه ليس في مقدورنا أن نصدر فرمانا ثقافيا نلتزم به، إذ لم يعد أمامنا خيار في مجاراة عصر ما بعد الحداثة. ولم يبق أمامنا إلا أن نبادر إليها وننطلق معها. إن دعوة الدكتور الغذامي. كما نرى. نظرية أيديولوجية صريحة وليست ضمنية كما يشير الدكتور نجيب العوفي في تعليقه على ورقة الدكتور الغذامي.على أن الدكتور العوفي يتفق - بحق - مع الدكتور الغذامي في دعوته إلى تحرير الأدب من الاقتصار على الجليل والسامي والرسمي، وتوسيع آفاقه. ولكنه يرى أن الدكتور الغذامي يفعل ذلك على حساب الأدب الذي سماه رسميا ونخبويا ومتعاليا - كما يرى - كما ذكرنا من قبل أن استبعاد عبارة: في دول مجلس التعاون يؤدي إلى تعويم وتهويم آفاق النقد الأدبي في عراء الزمان والمكان واللسان، ويؤدي به إلى عملية تعويم ابستمولوجية تفيض عن تخوم تخصصه وحقله، - كما يقول - هذا فضلا عن أن تحريره من شرطه البلاغي يؤدي إلى تحريره من شرطه اللغوي كذلك الذي هو أبرز ظواهر هويتنا العربية. أما فيما يتعلق بموقف الدكتور الغذامي من ما بعد الحداثة. فإن الدكتور العوفي يرى بحق أن ما بعد الحداثة ينطبق على الواقع الغربي لا على واقعنا الذي لا يزال في مرحلة ما قبل الحداثة، فلم ننجز بعد العصر الصناعي، ولم نتخط لحظة الحداثة، بل نحن - كما يقول - على هامش الحداثة لا في غمارها ولا في داخلها.

ويرى أن هذا الاندفاع إلى ما بعد الحداثة لن يجعلنا في الصفوف الأولى من العصر كما يتصور الدكتور الغذامي، بل سيجعلنا دوما في الصفوف الخلفية من حيث نريد الهرب إلى الأمام.

التخلي عن النظريات الشمولية

والواقع أن هذه الدعوة إلى ما بعد الحداثة هي دعوة - في تقديري - إلى التخلي عن كل المفاهيم الكلية والأطر النظرية من قيم ومباديء وتصورات وأيديولوجيات ومواقف، لا مجرد نقدها وتطويرها وتجاوزها تجاوزا إبداعيا. وهي تكاد تكون دعوة في مجال الأدب مساوقة ومرادفة للدعوة في مجال الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة إلى إلغاء الحدود السياسية والاقتصادية والخصوصيات القومية والثقافية باسم العولمة أو الكوكبية. وهي في هذه المجالات محاولة لتكريس هيمنة الدول الرأسمالية الكبرى وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم وبخاصة على بلدان العالم الثالث ومضاعفة تهميشها. ولا شك في صحة النقد الموجه للاستخدام الإجرائي الوضعي النفعي والاستغلالي والقمعي للعلم والعقلانية، ولكن هذا لا يعني التخلي عن العلم والعقلانية اللذين يمثلان جوهر حضارتنا الإنسانية الراهنة، واللذين لا يتناقضان في جوهرهما مع القيم الثقافية. والروحية والأخلاقية والديمقراطية. ولا سبيل أمامنا للتخلص من تخلفنا وتبعيتنا وتمزقنا القومي بغير العلم والعقلانية بمفهومهما الإنساني. أما القول بالعولمة والكوكبية، على صحته الموضوعية، فلا يعني كذلك طمس الاختلافات والتناقضات المصلحية والقومية والثقافية.

بل لن تتحقق هذه العولمة تحققا صحيحا وصحيا " في تقديري " بغير مراعاة هذه الاختلافات واحترامها ومحاولة معالجتها على أساس من المشروعية الديمقراطية الدولية.

عذرا على هذا الجنوح إلى الحوار السياسي الذي فرضته دعوة الدكتور الغذامي إلى التسليم المطلق لدعوة ما بعد الحداثة. وليس في هذا ما يغض من القيمة الفكرية والأدبية الكبيرة للدكتور الغذامي، الذي كان لورقته هذه ولمداخلاته الغنية العديدة طوال الملتقى فضل كبير في المساهمة في حيوية الملتقى وإغناء حواراته. وهو فضل يشاركه فيه كل الأساتذة الأفاضل الذين أسهموا كذلك بأوراقهم ومداخلاتهم في نجاح هذا الملتقى.

ولقد كشفت الجلسة الأخيرة التي خصصت لقضية المصطلح النقدي عن الأهمية الكبرى لهذه القضية وضرورة عقد ملتقى خاص يكرس لها، كما كشف الملتقى في ندواته جميعا عن أن قضية نقد النقد الأدبي العربي لا تزال في حاجة إلى مزيد من البحث والحوار.

ويبقى في النهاية الشكر والامتنان والتقدير للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت لمبادرته بعقد هذا الملتقى الأدبي الرابع لمجلس التعاون لدول الخليج العربي وتكريسه لقضية النقد الأدبي في هذه الدول.

 

محمود أمين العالم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




واقع النقد الأدبي الخليجي





د. عبدالله المعطاني ود. سعاد عبدالوهاب ود. محمد حسن عبدالله





د.سعد البازعي





مزيد المزيد





د. نورية الرومي





د. مرسل فالح العجمي





محمود أمين العالم





د.محمد حسن عبدالله





د. سعد السريحي





عبدالله الشهيلي





د. محمد عبدالرحيم كافود





د. عبدالله الغذامي ود. معجب الزهراني