من المكتبة العربية مجزرة البوسنة وتخاذل الغرب صراع الدم والتاريخ في البلقان زكريا عبدالجواد

من المكتبة العربية مجزرة البوسنة وتخاذل الغرب صراع الدم والتاريخ في البلقان

المؤلف: دافيد ريف
ترجمة: عبدالسلام رضوان و محمد الصاوي الديب

إن ما وقع على أرض البوسنة كان أبعد من الحرب حيث يتقاتل طرفان أو أكثر بندية أحيانا أو بغلبة في موازين القوى لطرف على الطرف الآخر، وكان أشرس من القتال حيث يسعى كل جيش للغلبة وإنزال الهزيمة بالجيش المعادي له، إن ما حدث تحديدا كان إبادة جماعية ضد سكان عزل، تهدف أولا وأخيرا إلى القضاء على وجودهم وكيانهم وتدمير كل ما يمت إليهم بصلة.

هكذا كانت المجزرة البشعة التي ضربت أرض جمهورية البوسنة والهرسك لما يقترب من الأربع سنوات، تجري بينما العالم يتفرج، قبل أن يتدخل أخيرا ويفرض على أطراف النزاع توقيع اتفاقية السلام في دايتون بالولايات المتحدة الأمريكية. وبين البداية وتوقف المأساة ثمة تفاصيل مرعبة ومواقف مخزية رصدتها عين ثاقبة لمراسل صحفي أمريكي تنقل في منطقة البلقان وشاهد فظائع حرب الإبادة التي تعرض لها البوسنيون وعاش مأساة السقوط الأخلاقي للغرب خلالها، وصاغ ذلك في قصة مأساوية، فكان هذا الكتاب المهم.

قبل أغسطس 1991 كان علي عزت بيجوفيتش يحذر من أن سلوبودان ميلوسفوتش رئيس صربيا يريد كل البوسنة، وحين طلب اعتراف الجماعة الأوربية بجمهورية البوسنة كان له ما أراد بشرط إجراء استفتاء حول الاستقلال، وهو ما حدث في 29 فبراير 1992، حيث وافق مسلمو وكروات البوسنة الذين يمثلون 63% من سكان الجمهورية على الاستقلال بالإجماع، بينما استجاب صرب البوسنة لدعوة قيادتهم مقاطعة الاستفتاء ليكون بدء القتال عقب ذلك مسألة وقت فقط.

وهو ما حدث بالفعل، ففي أوائل مارس بدأت القوات الصربية بإقامة الحواجز على الطرق، ليعقب ذلك استيلاؤها بمساندة مكشوفة من الجيش اليوغسلافي على الأراضي في كل أنحاء البوسنة، ثم محاصرة سراييفو وإسقاط بانيالوكا، ثم البدء في تنفيذ فصول أحد أكثر المجازر دموية وبشاعة في التاريخ المعاصر، وهو ما أكده المؤلف دافيد رايف إنها مذبحة لأن الإشارة إلى ما كان يحدث على أنه حرب يعد تشويها، بل والأكثر فداحة من ذلك، تجميلا للطبيعة الحقيقية لما حدث. لقد أتى الصرب، وذبحوا، وغزوا، والعالم يتفرج وكما قال حارس سيلادزيتش وزير الخارجية، ثم رئيس الوزراء الذي استقال قبل فترة إن ما يحدث هو إبادة جماعية، لقد اختار كثير من الناس في أوربا أن يسموها حربا، ولكنها ليست بالحرب، إنها مجزرة.

هذه المجزرة راح ضحيتها ما يزيد على مائتي ألف مسلم بوسني حر بتقتيلهم وذبحهم علنا وأمام كاميرات التليفزيونات العالمية، في الوقت الذي تمت فيه أكبر عمليات الاغتصاب الجماعي للنساء، إلى جانب طرد مليوني مسلم آخرين من ديارهم بالقوة وتشريدهم في بقاع الأرض.

التطهير عرقيا.. وثقافيا

وهنا يؤكد المؤلف أن التطهير العرقي في البوسنة والذي جرى على نطاق واسع، كان هدفه إذلال شعب وتدمير ثقافته، بمثل ما كان يهدف إلى القتل والإبادة، فلم يكن العدوان الصربي على التراث المعماري الإسلامي في كل أنحاء دولة البوسنة والهرسك ناتجا عن القتال، ولم يكن مصاحبا له، بل كان هدفا مهما للحرب، فبالنسبة لقيادة صرب البوسنة والتي كان هدفها هو صربنة مناطق البوسنة، كانت تدرك أن طرد المسلمين دون تدمير تراثهم، لم يكن سيجدي في شيء إذا استمر المسلمون اللاجئون يأملون في العودة يوما ما إلى منازلهم، عندما ينعكس ميزان القوى.

لذلك كانت المذابح عند بدء القتال في ربيع 1992 البداية فقط، أما البرنامج الأهم لدى الصرب والخاص بالتطهير العرقي، فكان ينطوي على إعادة كتابة التاريخ البوسني أيضا.

وفي بوسانيكا كرايينا مثلا كان يوجد ألف مسجد تقريبا قبل بدء القتال، ولكن بحلول شتاء 1994 لم يتبق منها سوى أقل من مائة، وحتى مسجد فرهابد الكبير وهو أجمل مثال على العمارة الإسلامية في البلقان في القرن السادس عشر، لم يسلم كذلك.

ولم تعد المسألة تتمثل في هل سيكون هناك قتل، بل إلى أي مدى ستستمر إراقة الدماء؟، فقد تصرف أولئك الذين قاموا بالتطهير العرقي بثبات وكأن الأعمال الوحشية التي ارتكبوها لها ما يبررها، وعندما استحوذت قوات الصرب على الأراضي والبيوت وحيوانات المزارع، كانوا يحرقون البيوت ويذبحون الثروة الحيوانية، برغم أنهم يدركون بوضوح أن أفعالهم تلك جعلت من المحال على مواطنيهم الصرب أن يبدأوا الزراعة.

ولا مجال هنا للدهشة إزاء هذا الافتقار للحساب الاقتصادي في حرب القرى تلك أو للدهشة من تدمير المكتبة الوطنية في سراييفو، والتي لم تكن لها قيمة عسكرية بل كان تدميرها مستهدفا بشكل خاص من قبل المسلحين من صرب البوسنة المتمركزين في التلال فوق المدينة في الأيام الأولى.

لقد تم القيام بالتطهير العرقي لإزالة الوجود المسلم من معظم أراضي البوسنة، كان الماضي المسلم وكذلك الحاضر بسكانه المختلطين عرقيا في المدينة هو المستهدف، وفي الواقع، من الصعب القول أي هدف منهما هو الأكثر أهمية.

كان من الضروري إراحة الصرب في سراييفو من عبء مدرسة الدراسات الشرقية، ومن المكتبة الوطنية، ومن مساجد العاصمة الكبيرة، فلم يكن الصرب يستطيعون العيش مع وجود تلك الآثار الضاغطة.

ويضيف المؤلف في فقرة أخرى واصفا التطهير العرقي تحولت المنازل والقرى إلى ركام، وكان السكان الأبرياء يذبحون بالجملة مع أعمال عنف لا تصدق وسلب ووحشية من كل لون فقد كانت المساجد تدمر بالنار والمتفجرات ويتم تحويلها إلى مواقع إنشائية حيث يبدأ أفراد المليشيا من الصرب في وضع الأساس لكنائس أرثوذكسية ويقارن ريف ما حدث في سنوات مجزرة البوسنة بما أورده تقرير للبعثة الدولية التي كانت قد كلفت ببحث أسباب الحرب في منطقة البلقان عام 1914، مؤكدا أن ما حدث خلال تلك الحرب لا يختلف كثيرا عما جرى في الأعوام من1991 وحتى 1995.

إعادة توطين

في فصل آخر ينقل المؤلف دافيد ريف عن مسئولين في وكالة الأمم المتحدة للاجئين قولهم: إن الصرب الذين هربوا من بيوتهم في كرواتيا أثناء الحرب الصربية الكرواتية عام 1991 كانت تتم إعادة توطينهم في أملاك العائلات المسلمة، وبذلك تم تغيير وجه شمال البوسنة المسلم.

لقد كانت قوات صرب البوسنة ترسم تكتيكها حسب نوع المنطقة التي يحاربون فيها، ففرض الحصار حول سراييفو كان أحد الأساليب، أما في قرى البوسنة المختلطة عرقيا فإنه لكي يتمكن المقاتلون من تنفيذ التطهير العرقي بنجاح، فقد كان عليهم تحويل موقف الصرب المحليين من المترددين بالمشاركة في القتال أو الذين عارضوا بصراحة المشاركة في الجريمة، وكان أحد السبل المستخدمة في ذلك، أن تدخل مجموعة من المقاتلين الصرب منزلا صربيا وتأمر الرجل القاطن فيه بأن يذهب معهم إلى منزل جاره المسلم، وعلى مرأى من القرويين الآخرين، يساق إلى هناك ويستدعى المسلم للخارج ويعطى الصربي بندقية كلاشنكوف أو سكينا ويؤمر بقتل المسلم، فإذا فعل فقد اتخذ الخطوة الأولى التي هدفت إليها الميليشيات الصربية، وإذا لم يفعل فالحل بسيط، هو أن يتم قتله على الفور، ثم تتكرر العملية مع الصربي صاحب المنزل التالي، وإذا رفض يقتل برصاصته، وعند البيت الثالث كان السكان الصرب يرتعدون هلعا متسائلين أين تريدون إصابة المسلم وكم مرة؟

جذور العنف

وإذا كان العنف في البلقان قد وصل إلى هذه الدرجة من البدائية، فإن الأمر قد أصبح جديرا بالدراسة حول أسبابه واتخاذه لهذا المنحى الشديد الهمجية، وهو ما حاول عدد كبير من المتابعين لجذور تلك الأزمة بالإضافة إلى مثقفي البلقان رصده والبحث عن بدايته، وقد تحدث هؤلاء كثيرا عن وجود نزعة بلقانية متأصلة إلى العنف، وبرغم كل هذا الكلام الفضفاض، لم تكن البوسنة تحديدا وبشكل خاص مكانا للعنف، على الأقل بالمعايير العنيفة للتاريخ الأوربي.

كان القرن العشرون استثناء مأساويا، ولكنه لم يختلف في البوسنة عن بولندا، والناس لا يضمرون بالتساوي الخيالات المتطرفة عن الشخصية القومية البولندية. وبرغم ذلك فإن القليل من الأفكار أو الولاءات ينقرض على مدى جيل أو جيلين، والقومية العرقية هي واحدة من تلك الأفكار، وقد انتصرت في البوسنة عام 1994، بينما كانت الفكرة الأخرى هي التعددية الثقافية في سراييفو، وهي فكرة استمرت على الأقل منذ الفترة التي أصبحت فيها المدينة ملجأ لليهود والسفارديم، لكنها قتلت في البوسنة في ذلك العام نفسه. وفور أن بدأت تلك المذبحة الجماعية كان لابد من تغذية الخوف، ولم تبذل قيادة صرب البوسنة جهدا خاصا في الدعاية لإخافة الشعب الصربي من المسلمين والتحريض على قتل كل مسلم، بدعوى أن وجود أي مسلم حيا هو أمر يحمل خطرا على كل صربي، لو لم يحدث هذا لكان من المحتمل على الأقل أن يكون الصرب العاديون أقل حرصا على الاستمرار في جولات أكثر من التقتيل والطرد، بعد أن هزموا في البداية قوات الحكومة البوسنية واستولوا على الأراضي التي تم تلقينهم دروسا عديدة في الاحتفاظ بها وتدمير ما عليها من آثار تخص الشعب البوسني.

منهج مدروس

إن ما بدا على هيئة تكتيك لمذبحة ورعب محض في القرى، تطور خلال ستة شهور إلى منهج مدروس لدمار شعب، ففي شمال البوسنة عام 1992، تم تقسيم الرجال المسلمين الذين أخذوا. سواء أثناء الحرب أو في فترة التطهير العرقي. إلى ثلاث مجموعات، فالمهنيون والوجهاء المحليون والشباب القادرون جسمانيا كانوا يفصلون وحدهم عادة ويقتلون على يد مقاتلي الصرب.

من جانبهم لم يكن قادة الصرب يتصرفون عن رغبة محضة في الدماء فقط، فعندما يأمرون بقتل أكبر عدد ممكن من المسلمين المثقفين، فإنهم كانوا يريدون أن يضمنوا أنه مهما حدث فإن أية دولة بوسنية مستقلة ستكون بقدر المستطاع ثكلى من الرجال الذين يمكنهم أن يجعلوها تعمل بكفاءة.

ويمكن استنتاج نجاح تلك الحملة والتي أطلق عليها إبادة النخبة من حقيقة أنه بصرف النظر عن آلاف قليلة من اللاجئين من الطبقة المتوسطة الذين اتخذوا طريقا إلى عاصمة كرواتيا زغرب والعدد القليل الذي ذهب إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة البوسنية، فإن فئات المهنيين المسلمين في بوسانسكا كرايينا قد اختفوا عن بكرة أبيهم، والذين لم يقتلوا في تلك المفرزة المهلكة كانوا يقسمون إلى مجموعتين، فالأولى، التي لم يكن الصرب قد اتخذوا فيها قرارا بعد، كانوا يحجزون في ذلك الوقت فيما كان يعرف بمعسكرات الاستخبارات، ثم يقتل بعضهم بعد ذلك ويفرج عن الآخرين، وأما المجموعة المتبقية والتي يتكون معظمها من الفلاحين وأهل المدن الفقراء فيتقرر الإفراج عنهم منذ البداية، ويوطنون فيما كان يسميه الصرب أحيانا بالمراكز المفتوحة والتي كانت عمليا عبارة عن معسكرات يسمح لممثلي اللجنة العليا للصليب الأحمر بزيارتها.وفي زيارة له إلى أحد المعسكرات التي يحتجز فيها المدنيون المسلمون داخل بلدة ترينو يولي يسرد المؤلف ما شاهده قائلا: عندما دخلنا القرية، كانت هناك أعلام بيضاء فوق المنازل وحتى على كومة أخشاب مكدسة في حقل قريب. وكما في كثير من المدن البوسنية حيث عاش. قبل الحرب. الصرب المسلمون في سلام على مدى جيل على الأقل، كانت منازل المسلمين هي التي تحولت إلى كومة أحجار بفعل القصف أو اخترقتها الطلقات، في حين ظلت بيوت الصرب قائمة لم تمس: بيوت المسلمين التي بدا أنها اضرمت فيها النيران بعد إصابتها بالرصاص وبيوت الصرب التي لم تكن تبدو شاذة عن الكميونات الريفية المزدهرة في بعض الأماكن في النمسا أو سويسرا، كان شائعا في يوغسلافيا بين العمال الزائرين أن يعودوا إلى قراهم كل صيف ويبنوا جزءا آخر من المنزل الذي من أجل الحصول عليه ذهبوا إلى الخارج ليوفروا ثمنه. تلك المنازل غير الكاملة وقفت، وغالبا محاطة بالسقالات وأكوام الطوب بين المنازل الجاهزة، ولما بلغنا المسجد وجدناه مدمرا، فقد زال السقف وهدمت المئذنة.

تخاذل دولي

ولم يكن الغرباء عن المنطقة هم وحدهم الذين يشعرون بهذا الانزلاق إلى الهاوية، فقصة البوسنة مثلت إلى حد بعيد قصة تبتعد عن الحل أكثر فأكثر، فعلى المستوى السياسي، هناك مشهد الفاعلين الدوليين الأساسيين في الأزمة الذين أصروا في بدايتها على أن البوسنة دولة شرعية يتعين الحفاظ على وحدة أراضيها وفقا للشكل الذي كانت توجد به وقت اندلاع القتال. ولكن ما أن بدأ قائد قوات صرب البوسنة ميلاديتش يعرب عن رأيه الواضح في أنه لا يوافق على قرارات الأمم المتحدة، حتى بدأ سخط المجتمع الدولي العاطل من أي فعل، ومناشدة المفاوضين، وبدأت لهجة الدول الكبرى في التغير، وبدأ المفاوضان الدوليان يكشفان كيف أن توقعاتهما قد تغيرت بالنسبة للصفقة التي كانا يحاولان إبرامها في البوسنة. ففي جلساتهما الخاصة، أوضحت المفاوضات أنهما افترضا منذ البداية أن استعادة البوسنة لوحدة أراضيها مرة أخرى سيكون أمرا مستحيلا من دون نوع ما من الضغط العسكري الغربي على الصرب، لكن في العلن واصلوا إصرارهم على أنه مازالت هناك بوسنة يتعين إنقاذها، بعد أن أصبح واضحا بوقت طويل أن ما يجري مناقشته في واقع الأمر هو تقسيم البوسنة إلى ثلاث دويلات عرقية وليس الحفاظ عليها.

خريطة التقسيم

ولكن في بداية عام 1993، وعند نقطة يمكن اعتبارها بحق متقدمة في القتال، أصر دافيد أوين بشكل مطلق على أنه لن تكون هناك جمهورية لصرب البوسنة، ولو أمكن أن يحسم النزاع برغم عدم جاذبيته لأي طرف. والمتمثل في خريطة تقسم بموجبها البوسنة والهرسك إلى مجموعة من الكانتونات يجرى تخطيطها طبقا للأغلبية العرقية فيها، وتخضع لسلطة حكومية مركزية ضعيفة في سراييفو، فسوف يمكن الحفاظ على البوسنة، ولم يكن هذا الحل مثاليا بحال، وهو ما اعترف به المفاوضان، وقال عنه أوين إنه سلام من قلب الجحيم، ولكن هذه الخطة في الواقع كانت تضحي بمبدأ حق البوسنة وهي الحكومة الشرعية، في تأكيد ذاتها كدولة، لصالح استقلال ذاتي لكانتونات عرقية، أما البوسنيون فكانوا مستعدين للموت في سبيل دولتهم ومبادئهم، وفضلت إدارة كلينتون أن تتركهم يفعلون ذلك.

لقد بدت خطة فانس وأوين وكأن شيئا فيها لا يشرف،ولكن بعد أن سلمت كل الخطط التي تلتها بتقسيم البوسنة، لم يبق في النهاية حاملا لاسم دولة البوسنة سوى شريحة محدودة المساحة، غدت وقتذاك وبرغم كونها غير عادلة، أفضل ما يمكن أن يحصل عليه البوسنيون، وبرغم رفض الحكومة البوسنية الإذعان في البداية على أمل التدخل الغربي، فقد جاء التقسيم، وبحلول العام 1994، كان السؤال الوحيد المطروح هو بموجب أي خريطة، وبأي ترتيبات دستورية مؤقتة يتم هذا التقسيم؟.

أما ما يتبقى بعد ذلك لمناقشته، فهو ما إذا كانت أية دولة بوسنية قابلة للنمو أو الاستمرار اقتصاديا أو اجتماعيا يمكن أن يسمح لها بالبقاء، أو ما إذا كانت البوسنة كلها ستصبح صورة مكبرة من الجيوب الشرقية مثل سربرنيتشا وغوراجدة التي تشبه قطاع غزة آخر بصورة مكبرة، مما يجعل من البوسنة دولة غير قادرة على الاستمرار اقتصاديا أو عسكريا، ويحتم عليها أن تظل معتمدة على المساعدة الدولية في كل شيء، بل وتحت رحمة صربيا وكرواتيا.

لقد تم تخفيف بعض المعاناة بفضل الجهود البطولية من جانب القوات التابعة للأمم المتحدة والعاملين في قوافل الإغاثة، لكن الكارثة الإنسانية في البوسنة لم تكن سوى عرض من أعراض الكارثة السياسية. لقد كانت حلقة مفرغة، فالأمم المتحدة تمد الناس بالغذاء وتتركهم عرضة لقصف القنابل، ومجلس الأمن يعلن عن تحديد مناطق آمنة لا تعمد قوة الحماية إلى كفالة سلامتها، كما لا تملك القوات التابعة للأمم المتحدة القدرة على ضمان هذه السلامة، وترسل قوافل الإغاثة ضباط حماية إلى الميدان معروف سلفا أنهم لا يستطيعون توفير الحماية، ولم تثمر جهود قوة الحماية وقوافل الإغاثة إلا عن المزيد من الشعور بالامتعاض والإنهاك لدى أفرادها من جراء تنفيذ مهمة كان أغلب ضباطها يدركون منذ وقت طويل أنها يائسة.

ومع كل جريمة للصرب، كان من المفترض أن تكون الفظاعة قد بلغت منتهاها، فلقد مثل التطهير العرقي في المدن الشرقية للبوسنة، مثل زفورنيك في مايو1993، ما بدا وكأنه الدرك الأسفل لتلك الفظاعة، ولكن الصحفيين كشفوا حينئذ عن وجود المعسكرات وعن التطهير العرقي في كرايينا البوسنية خلال ذلك الصيف وبداية الخريف. وبدا اكتشاف معسكرات بالقرب من بلدة فوكا القريبة من سراييفو في بداية 1993 غير قابل للتصديق، ثم اتضح بعد ذلك أن الصرب يستخدمون الاغتصاب سلاحا في الحرب في كل مناطق البوسنة،كوسيلة لإرعاب السكان المسلمين ودفعهم إلى الهرب ومن ثم يحققون الهدف الأساسي للحرب الصربية والمتمثل في التطهير العرقي.

ملاحظة أخيرة

أهمية هذا الكتاب تكمن في أنه يتناول إحدى أهم الفترات في تاريخ القضية البوسنية، وهي الفترة التي بدأت بإعلان جمهورية البوسنة الاستقلال عن يوغسلافيا السابقة، وحتى العام 1994 وهو العام الذي تبدلت بانقضائه موازين القوى إلى صالح القوات البوسنية، لتكون الانتصارات التي حققتها تلك القوات بعد عامين من الهزائم. وتكمن أهمية هذا الكتاب أيضا في أنه شهادة من صحفي غربي على الممارسات البشعة التي ارتكبها الصرب ضد المدنيين العزل في المناطق المسلمة بالبوسنة، في الوقت الذي يعد فيه هذا الكتاب أيضا إدانة صارخة للموقف المتفرج الذي اتخذه الغرب على ما يجرى من حرب إبادة وعمليات اغتصاب وتشريد وإهدار لكرامة شعب وإذلال لأبنائه، لفترة زادت على ثلاث سنوات متصلة.

وبالرغم من أن أحداث هذا الكتاب تقتصر على فترة العامين الأولين للحرب في البوسنة، فإن التطورات التي حدثت عقب ذلك، والتي أعادت التوازن على الأرض، لا تقلل أبدا من أهمية هذا الكتاب، بل على العكس فهي تؤكد مدى بسالة شعب البوسنة الذي ظل يقاوم برغم الافتقار إلى الأسلحة وفرض الحصار.

لذلك فإنه تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الكتاب قد صدر في الفترة التي سبقت عدة تطورات مهمة ابتداء من قبول مبادرة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر وانهيارها، واندفاع الجيش البوسني لفك الحصار عن سراييفو، ثم سقوط عدد من المناطق الآمنة والمفترض قيام الأمم المتحدة بحمايتها بأيدي الصرب، عقب قيام الناتو بشن غارات جوية ضد مواقع صربية كانت قد أطلقت قذائفها على أحد أسواق سراييفو موقعة أعدادا كبيرة من القتلى والجرحى المدنيين، مرورا بقيام الصرب باحتجاز ضباط وجنود الأمم المتحدة وتكبيلهم والمساومة عليهم، ثم تحقيق الجيش الكرواتي للعديد من الانتصارات وأهمها تحرير إقليم كرايينا وطرد الصرب منه، وتحقيق الاتحاد العسكري بين مسلمي وكروات البوسنة وقيامه بعمليات مشتركة أسفرت عن تحرير أجزاء كبيرة كان الصرب قد احتلوها، وانتهاء بالتدخل الغربي الفاعل والذي كان في مقدمته تدخل الولايات المتحدة، وإجبارها الأطراف المتصارعة على التوصل إلى اتفاقية سلام، ثم وصول القوات الدولية بصلاحيات أكبر إلى البلقان لحماية الاتفاق وتأمين تنفيذه.

كذلك فإن الكتاب لم يشر إلى فرض الأمم المتحدة للحصار على جمهورية صربيا (الاتحاد اليوغسلافي)، والذي كان له أكبر الأثر في وقف اندفاعها في تأييد صرب البوسنة بالسلاح والرجال إضافة إلى الدعم السياسي والمعنوي. ولكن برغم ذلك فإن الأحداث التي رصدها الكتاب والتي تؤكد أن التاريخ كان العنصر الرئيس الذي يؤجج هذا الصراع، هذه الأحداث تصلح وبصورة جيدة لتكون مؤشرا على أن صراعا دمويا تختلط فيه الثارات العرقية بالانتماء العقائدي كصراع البوسنة، سيكون من الصعب على اتفاق أجبرت عليه أطرافه. وترفضه بالقول والممارسة، كاتفاق دايتون - أن يتمكن من لجم رياح الثأر، وحمى الكراهية التي زادت ترسخا الآن، وأن يكون كفيلا بمنع أية شرارة قد يسعى لإيقادها طرف ما.

 

زكريا عبدالجواد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




مجزرة البوسنة وتخاذل الغرب