بصدور الطبعة
الثالثة، المنقحة والمزيدة من الكتاب الموسوعي "التاريخ العالمي للفن"، في صيغته
الفرنسية أخيرا عن دار "بورداس" بباريس، يتوقف دارسو الفن ومتابعوه ومتذوقوه أمام
محاولة طموح وجسور تنكب عن القيام بها مؤرخو الفن ودارسوه، فرادى أو جماعات، منذ
عهد بعيد، وقام بها الباحثان الإنجليزيان هوج هانور وجون فليمنج. ذلك أن جمع مواد
هذا الفن، وتقويم فتراته ومراحله، ليست بالأمر الهين، حتى لو توافرت لها الإرادات
الصلبة والتحضيرات الغنية، فكيف بترتيب موقف واحد، أو بين دفتي كتاب واحد، لمفهوم
"الفن" art" نفسه!
فمن المعروف أن
الثقافات، وبالتالي اللغات، تعرف تعيينات وتسميات مختلفة للمنتجات والسلوكات التي
تصنفها تحت دائرة الحسن (أوالجمال)، والتي تعتبرها مجلبة للاستحسان والتثمين. فإذا
كانت الحضارة الأوربية (وعلى أثرها الغربية) اعتبرت فن "اللوحة" (والتمثال والعمارة
وغيرها مما جرى جمعه تحت اسم الفنون التشكيلية) فنها الأرقى، بل الراقي في حسابها
عن غيره من الفنون والتجارب والنتاجات غير الأوربية، فإن حضارات أخرى سلكت سبلا
مختلفة في تصنيفاتها، ووجدت سلما آخر للقيم الجمالية، مثل اليابانية التي وجدت فنها
الراقي في تصميم الحدائق وتوزيع الشاي، والإسلامية في فن الخط، وغير ذلك من السلالم
الجمالية النسبية بالتالي. وهو ما شرع في الانتباه إليه غير عالم ودارس، لا في
الحضارات المغلوبة على أمرها في الوقت الحالي، وإنما في الحضارة الغالبة نفسها. فكم
من دارس غربي ينقطع في صورة متزايدة عن ترويج فكر "أنوي" متمركز على ذاته، وينصرف
إلى تأريخ مساره الفني المخصوص على أنه تاريخ "محلي" في نهاية المطاف، ولو أنه اتخذ
في نفوذه الحالي - أي في انتشاره خارج الدائرة الأوربية - أحجاما كبيرة! وهي
مراجعات نلقاها في غير باب، وتصدر عن ممارسات تحليلية باتت مقتنعة بـ" النسبية
الثقافية"، أي بالإقلاع عن "التفاضل الثقافي" فيما بين الثقافات، وتثمين كل ثقافة
ضمن قوانينها الخاصة في التجديد والتقليد. فماذا يمكننا أن نقول عن التاريخ الفني
الموسوعي الجديد؟
خطة
الكتاب
نقسم الكتاب
الضخم إلى خمسة أقسام، هي: أسس الفن، الفن والأديان العالمية، الفن المقدس والفن
المدنس، انبثاق العالم الحديث وفن القرن العشرين. كما ينقسم كل قسم منها إلى عدة
فصول، تتجاوز في مجموعها واحدا وعشرين فصلا، ما عدا المراجع والهوامش والفهارس.
فنقع في قسم "أسس الفن" على خمسة فصول، تبدأ من أول تاريخ معروف أو مدروس للبشرية
وتنتهي في العهود الرومانية. ويستغرق الفصل الأول، "ما قبل التاريخ"، العهود
التاريخية المعروفة أي المدروسة من قبل الآثاريين، وتمتد من الألف الثلاثين حتى
الألف الثاني قبل الميلاد. ويستعرض المؤلفان فيه عهدين فنيين: عهد الصيادين وعهد
الزراعيين. واللافت في هذا المجال هو أن الأعمال الأولى المؤرخة عن بدايات الفن
ليست بالأولى فعلا: هي مجسم جسد نسائي جرى الكشف عليه في النمسا، ويرقى إلى الألف
الثلاثين قبل الميلاد، ولا يزيد طوله على أحد عشر سنتيمترا. هي الأبعد، من دون شك،
في اكتشافات الإنسان الأثرية، لا الأقدم عهدا، على أية حال، في تاريخ الفن. فإن
نظرة نقدية متفحصة لهذا العمل النحتي المصنوع من الكلس تبين لنا أنه يشبه العديد من
الأعمال النحتية اللاحقة عليه، بالإضافة إلى كونه يمتاز ببنية فنية متبلورة، يصعب
علينا تعيينها أو قبولها بوصفها "الأقدم" تاريخيا. أما الفصل الثاني، "الحضارات
الأولى"، فيعالجان فيه الفترة التاريخية الواقعة بين الألف الرابع والألف الأول قبل
المسيح، فيتوقفان خصوصا عند نتاجات الحضارات القديمة، في بلاد ما بين الرافدين، وفي
وادي "الهندوس"، وفي مصر القديمة، وفي عالم إيجة، وفي الصين. ويستجمع المؤلفان في
هذه الجولة معطيات معروفة ومنسقة عن عالم "البدايات" هذا، وهي ليست عديمة المنفعة
إذ إنها تجمع لنا الصور، أو "المتبقيات"، التي بلغتنا عن هذه الحضارات البعيدة. وفي
الفصل الثالث، "عبر المحيطات"، يستكمل الباحثان جولتهما السابقة، فيتحققان من
النقلات الفنية الجديدة التي أصابت الحضارات التي سبق لهما أن تعرضا لها في الفصل
السابق، مثل العهود الحضارية الجديدة في بلاد ما بين الرافدين (مع الآشوريين،
والبابليين..)، أو في مصر القديمة (مع "الإمبراطورية الجديدة")، أو في الصين (مع
عهد "زو")، أو في بلاد فارس. أو نراهما يتوقفان عند بدايات أخرى ناشئة، في هذه
الفترة التاريخية، سواء في أمريكا أو في إفريقيا.
إن هذه الفصول
الثلاثة لا تعدو كونها تقديما تعريفيا وتمهيديا في آن، وربما استعراضيا "بانوراميا"
في بعض نواحيه، لما سيتبعها، أي الفن اليوناني، الذي يخصه الباحثان بفصل مستقل، هو
الفصل الرابع، "اليونان وإشعاعها"، وبقسم واسع من الفصل الخامس والأخير من هذا
القسم الأول، "الفن الهيلليني" والحضارة الرومانية. ففي هذين الفصلين (ويشملان فترة
تاريخية ممتدة من موت الإسكندر، في العام 331 ق. م.، إلى توحيد الإمبراطورية
الرومانية في العام 312 م.) ننتقل من التاريخ العمومي إلى التاريخ المخصوص:
فالتواريخ دقيقة، والتحركات والمعاني التاريخية منسوبة إلى أسمائها العلوم، إلى
أصحابها المعينين. والنقلة هذه فنية، هي الأخرى، حيث إننا نعبر من فن البدايات
المبهم والمتعدد إلى فن مخصوص ومتبلور ومنسوب إلى أصحابه كذلك.
الفن
والأديان
يخصص المؤلفان
القسم الثاني من كتابهما، وعنوانه الفن والأديان العالمية، لجولات فنية جديدة تقوم
بتتبع الصلات الناشئة بين المعتقدات الدينية الناشئة، البوذية، والمسيحية،
والإسلامية، وبين الفن في أنواعه المختلفة. ذلك أن الأديان هذه عرفت صلات مختلفة
بين الفن واعتقاداتها، فطلبت من الفنانين ما يعزز ويؤكد قيمها وصورتها عن العالم.
وفي الفصل الأول من هذا القسم (وهو السادس في الكتاب) يتبين الكاتبان حال الفن في
الشرق الأقصى، بين القرن الأول والقرن الثالث عشر، متوقفة، بداية، في الهند مع نشأة
الفن البوذي، ثم الفن الهندوسي، فالكونفو شيوسي، والطاوي، وذلك في غير بلد آسيوي،
من الهند مرورا بسيلان وجافا وصولا إلى الصين واليابان. وهي وقفة واسعة في الزمن
والبلدان، تجمعها الصلات الشديدة والمتداخلة بين الفن والمعتقدات البوذية المنشأ.
أما الفصل السابع فيكرسه المؤلفان لدراسة الفن المسيحي الأول، وهو عنوان الفصل
أيضا، أي الفن الممتد من روما إلى بيزنطية، بين القرن المسيحي الأول والقرن الحادي
عشر. وينصرف الكاتبان في الفصل الثامن، وهو الأخير في القسم الثاني، إلى دراسة الفن
الإسلامي، تحت العنوان التالي: نشأة الفن الإسلامي وتطوره، وذلك بين الهجرة النبوية
والقرن الثاني عشر(في التقويم المسيحي). فماذا نقول عن الفصل هذا؟ يتبع المؤلفان في
عرضهما الخطة نفسها المعروفة في كتب التاريخ الفني التقليدية، وهي تتبع التاريخ وفق
محطاته السياسية الأساسية، على أن لكل محطة منها أسلوبا جامعا ومحددا لها. وينطلق
هذا العرض من فكرة. أساس يجدون فيها، أو يوضبون فيها مسارات العرض المختلفة
والمعقدة. وهي فكرة لا تختلف أبدا، بل تجدد موقفا اعتقاديا قديما في الكتابات
الأوربية عن الفن الإسلامي منذ كتابات المستشرقين، وهي أن العرب ما عرفوا الفن في
الجزيرة العربية في الفترة الواقعة قبل الإسلام، وأنهم أخذوه بالتالي عن غيرهم من
الشعوب والحضارات التي اعتنقت الإسلام بعد الفتوحات، من جهة، وأن الإسلام نهى عن
القيام بالفن في بعض الحالات مما أعاق سلفا تبلور نظرية جمالية خاصة به في هذا
المجال، من جهة ثانية.
لا تختلف خطة
المؤلفين في تقسيم التاريخ الفني الإسلامي عما هو معروف منذ مطالع القرن الحالي في
الكتب التاريخية الأوربية الجامعة عن الفن الإسلامي، وهو التعويل على فكرتين
متلازمتين في التمهيد: تتحدث الفكرة الأولى عن علاقة واحدة وراسخة وجوهرية بين
الإسلام والفن، أساسها امتناع صلة الإسلام وعدم طلبه للفن في طقوسه وشعائره
وممارساته وعباداته، وتتحدث الفكرة الثانية عن نسبة هذا الفن، أو عن أصوله غير
العربية، إذ أخذها العرب. المسلمون الأوائل في حسابهم عن الشعوب التي غلبوها، ليس
إلا. وهذا التمهيد، على اقتضابه الشديد، يوقع الفن الإسلامي سلفا تحت دائرة التشكيك
الفني به، وتحت دائرة التشكيك بنسبه العربي، وبابتكاراته أيضا.
عرض الفن
الإسلامي
تنقسم مادة العرض
كلها إلى سبيلين، أو عنوانين: الفن والعمارة في كل حقبة تاريخية مختارة، والديكور
الإسلامي. وهما عنوانان يشكوان من الالتباس، حتى لا نتحدث عن تناقض في التعيين:
فماذا يعني التمييز بين الفن والعمارة؟ ألا تندرج العمارة في نطاق الفن؟ لا يقدم
المؤلفان على تفسير هذا التبويب المقترح، أما مبعثه فيعود، على ما تبينا، إلى قسمة
أجراها المؤلفان بين العمارة، من جهة، وما عداها من السبل الفنية، من جهة ثانية،
وذلك لتثمينهما العمارة الإسلامية من دون غيرها على أية حال. وهو ما نشكو منه في
العنوان الثاني، وهو الديكور الإسلامي. فماذا يعني الديكور هذا، إذا وضعنا جانبا
حمولته الفنية الخفيفة في التصنيفات الفنية الأوربية؟ هو يعني، على ما بدا لنا،
الإشارة إلى ما يمكن تسميته بالزخرفة التي تزدان بها سطوح المنتجات الفنية
الإسلامية، أي ظاهرها الفني، أي ما يشغل مساحات هذه المنتجات من زخارف وكتابات
وغيرها. وهو، بدوره تفسير غير مقنع، ذلك أننا لا نقوى - إذا اعتمدناه - على تدبير
تفسير للسطوح المزخرفة بدورها في العمارة.
أما عرض المؤلفين
للعمارة فيقوم على اختيار بضعة مساجد وحسب (مثل قبة الصخرة وسامراء)، من دون غيرها
من أعمال العمارة. وإذا ما تحدثا عن أصناف العمائر الأخرى، مثل القصور، فإنهما
يكتفيان بما ورد عن القصور العباسية على سبيل المثال في.. ألف ليلة وليلة! وعرض
العمارة جردة آثارية مقتضبة للغاية، لا يتوانى فيها المؤلفان عن إعادة هذا العمود
أو ذاك إلى هذه الحضارة أو تلك (تحت دائرة التشكيك دوما) السابقة على الإسلام أو
التي غلبها، من دون أن ينتبها إلى أن العمود هذا، أو المفردة الزخرفية تلك، تندرجان
في نسق فني وجمالي جديد ومختلف. أما الخط العربي فيحظى بالتفاتة سريعة تقتصر على
كلام أولي عن الخط الكوفي وحسب من دون غيره. أما المنسوجات فترد فقط في معرض الكلام
عن نسيج إسلامي في إيطاليا.
نستعيد، إذن، ما
سبق أن مهدنا القول عنه في عرضنا لمادة الفن الإسلامي في هذا الكتاب، وهو أن
المؤلفين ينساقان إلى موقف تشكيكي. ويعود منشأ هذا الموقف، في اعتقادنا، إلى
سببين:
- الأول، هو
التعويل على تفسير متسرع وغير تاريخي للنهي الإسلامي عن التصوير العبادي، وهو نهي
لم يشمل - على ما نعرف - صنوف الفن كلها، ولا صنوف التصوير كلها، بدليل ما تم
العثور عليه من فنون مختلفة في البلدان الإسلامية كلها، ومن تصاوير حتى جدارية في
القصور الأموية والعباسية وغيرها، أو على الورق في تزويق الكتب (وما يسمى حاليا ب.
المنمنمات).
- الثاني، وهو
أن مفهوم الفن مختلف بين صيغته الأوربية وصيغته الإسلامية، بحيث طلب الدارسون
الأوربيون في البيئات العربية والإسلامية فنونا، أو منتجات فنية مما اعتادوا عليها
في مجتمعاتهم، وهي الصورة المعلقة على الجدران والتمثال في صورة أساسية، وهو ما
جعلهم يتغاضون عن منتجات فنية أخرى لا تناسب تصورهم، فوضعوها خارج الفن، أو في
مرتبة دونية.
الموقف
"التشكيكي" يبقى بينا في هذا التاريخ الفني، حيث إن الكاتبين يسارعان إلى القول منذ
بداية عرضهما إن مواقف المسلمين الأوائل إزاء الفنون التشكيلية لم تكن محددة (ص
296)، وينتهيان في ختام عرضهما إلى الاستنتاج: يمكننا القول، ختاما، أن الإسلام لم
يلهم (المؤمنين به) فنا دينيا، وإن ما عرفه (من فن) يكاد يكون فنا غير ديني (ص
315). فكيف نفسر التباين هذا بين الموقفين؟
ينطلق المؤلفان
من كون الإسلام لم يطلب في طقوسه ممارسات فنية بعينها، مثلما نلقاها، على سبيل
المثال والتخصيص، في الممارسات الفنية التي طلبتها الكنيسة في احتفالاتها الدينية
أو في شعائرها، أو في صورها ورموزها. وينتهيان بالتالي إلى القول إن ما عرفته بلاد
الإسلام من فنون ليس بالديني بالتالي، مادام أنه لم يتمثل في الطقوس والشعائر. وهو
فهم قاصر إذ يتنكر، أو لا يتحقق من وجود صلات أخرى بين الدين والفن لا تتحقق في
الطقوس، بل في غيرها، ولا في الصور وحسب بل في غيرها أيضا.
يتحكم بعرض
المؤلفين، إذن، فهم مرتبك لحقيقة صلات الإسلام، أي ممارسات المسلمين بالأحرى،
بالفن، عدا أنه فهم مشبع بالتناقضات التي لا تقوى على تقديم نسق تفسيري سوي ومتناسق
لوجود شخصية بينة وأكيدة للفن الإسلامي (وهو ما يعترف به المؤلفان) من جهة، ولوجود
التشكيكات التي تطاوله فنيا في كتاباتهم، من جهة ثانية. ويعود هذا التناقض، على
الأرجح، إلى تصورات مسبقة، قوامها وجود علاقة منمطة عن الدين والفن، مثلما تحقق
منها المؤلفان في تاريخهما الخصوصي، الديني والتصويري.
النزاع بين المقدس
والمدنس
يعالج المؤلفان
في القسم الثالث من كتابهما الفن المقدس والفن المدنس، ويعين في حسابهما مسأله
التنازع في القرون الوسطى وحتى القرن الثامن عشر بين الديني والدنيوي في تعيينات
الفن، وذلك في غير بلد وميدان، من أوربا خصوصا (التي تحظى طبعا بالقسم الأكبر من
مادة هذا القسم) حتى حال الفنون في أمريكا وإفريقيا والشرق الأقصى، بما فيه حالها
في البلدان الإسلامية. وما ننتبه إليه في هذا القسم هو أن التحليل يتجه في صورة
متزايدة إلى تعيينات أدق وأشد مما كانت عليه عند الحديث عن الفنون غير الأوربية.
فالوقفات متأنية، تستعرض أدق وأشد مما كانت عليه عند الحديث عن الفنون غير
الأوربية. فالوقفات متأنية، تستعرض بتوسع وتمعن أحوال وأساليب معمارية بعينها، مثل
الفن الروماني أو الفن القوطي، أو حال الفن في الفلاندر أو في غيرها من الممالك
والإمارات الأوربية. طبعا تحظى إيطاليا في هذا القسم بنصيب وافر، إذ يتعرض المؤلفان
لأحوالها الفنية في غير فصل وفي صورة مركزة (في كل فصول القسم، أي التاسع والعاشر
والحادي عشر والثالث عشر والرابع عشر، فيما خلا، إذن، الفصل الثاني عشر المخصص
للفنون خارج أوربا). وهو ما ننتبه إليه في العناوين، حيث إن الكاتبين لا يتأخران عن
إطلاق معان أو قيم كبرى على هذه الحالة الفنية أو تلك، فيصفان البحوث الفنية في
أوربا في القرن السادس عشر، على سبيل المثال، أو يجملانها ويجدانها متحققة في
العنوان التالي: بين التوازن والقلق، أو في العنوان التالي: "الأنوار والحرية ".
يبدو القسم الرابع من الكتاب، انبثاق العالم الحديث، مثل تمهيد لما سبقه من فنون
ومن تجارب الشعوب والحضارات المختلفة في الأقسام الثلاثة الأولى. وما يسترعي
انتباهنا في هذه التقسيمات، أي في الأقسام والفصول، هو درجة التعيين الخفيفة التي
تصيب الفنون غير الأوربية، على اختلافاتها: فهي فنون منسوبة إلى بلد (الصيني،
المصري..)، أو إلى دين (مثل الإسلام)، أو إلى مؤسس ديني (مثل بوذا)، من دون أن يحظى
أي من هذه الفنون بتعيينات أشد وأدق، أو من دون أن يتمتع بتصويبات أو استدراكات
ناشئة أو مستجدة. أما الفنون الأوربية (وتتمتها الحالية في الولايات المتحدة
الأمريكية) فتحظى بنسبة عالية من التعيينات.
أما القسم الخامس
والأخير، "الفن في القرن العشرين"، فهو عرض لتيارات الفن الأساسية في الغرب: أي
أننا نقع في هذا القسم على جمع فني وغير فني، جديد بل "حديث"، يقوم بين "العالم
القديم"، أي أوربا، وبين "العالم الجديد"، أو تتمته، أي الولايات المتحدة
الأمريكية. الكتاب متفاوت القيمة طبعا، تصله بموضوعه علاقات متباينة. هذا يصح في
المصادر والمراجع بداية. ما هي الكتب والوثائق التي عاد إليها المؤلفان لكتابة
مؤلفهما هذا؟ عادا طبعا إلى خزين المكتبة الأوربية - الأمريكية، وهو ليس بالهين،
ولا بالقليل. فما انقطع العمل في أوربا، منذ مساعي الموسوعيين الأوربيين في "عصر
الأنوار" خصوصا، على ترتيب وإعداد مكتبة عالمية خاصة بهم، توضب فيها وتصنف معرفتها
بالعالم وبثقافاته وفنونه. هذا يصح في الآثار، وقد ساهم آثاريو أوربا في إجراء
كشوفات أثرية لافتة في العالم، ليس أقلها طبعا فك رموز غير لغة قديمة، مثل
المسمارية والهيروغليفية وغيرها. وهذا يصح أيضا في تجميع "لقى" و"طرف" عن فنون
الشعوب والعهود التاريخية القديمة، وما توضب بدوره في كتب فنية "جامعة". توافرت
للكاتبين الإنجليزيين، إذن، مادة واسعة من الكتب والمصنفات المتراكمة، والتي ينقح
بعضها البعض الآخر، ومن بلد إلى آخر، فعادا إليها، ودققا فيها، جامعين لعدد أكبر من
المواد المتنوعة والمتفرقة. عادا إليها طالبين أكثرها وأوسعها، من دون أن تكون
لخطتهما التأليفية استراتيجية أخرى غير الخطط السابقة المعروفة في الكتب "الجامعة"،
أي تأليف كتاب له في صورة مسبقة تاريخ معين ومصنف، هو تاريخ تعيين أوربا نفسها
لتاريخ العالم. ونحن نجد في توزيع مادة الكتاب، كما عرضناها أعلاه، في أقسام وفصول،
صورة أو رسما بيانيا عن هذا التاريخ. الكتاب لافت في غير مجال، ولا سيما في جمعه
الغني والمتنوع لمئات الأعمال الفنية. عدا أن المشروعات الجسور هذه تتطلب من دون شك
جهد أكثر من كاتبين مهما بلغا من العلم والمعرفة..