هل احترق النحو العربي؟؟

قَسَّم بعض العلماء العلوم الإسلامية من حيث استواؤها إلى قسمين: علوم احترقت، وأخرى لما تحترق. ويجعلون علم النحو من طائفة العلوم التي لما تحترق! لكنه - في قولهم - علْمٌ وُضعت أصوله وحُصرت مسائله، ولم يَبْقَ فيه للمتأخر مُتِّسَع لتجديد أو تبديل. فهل هذا صحيح؟

ما دام النحو قد وصل إلى مرحلة كاملة من النضج فإنه لم يبق للمتأخرين فيه قَوْل، إذْ أراحهم السلف من العلماء والنحاة فوضعوا قواعد اللغة بعد أن جمعوا شتات مادتها واستَقْرَوا شواهدها! ومَنْ دَرَس النحو اتضح له - من غير جهد كبير - أن في النحو مجالات كثيرة لمَّا تبحث، ومسائل عديدة تحتاج إلى إعادة نظر.

مجالات لم تزل بكراً

ويبدو أن تلك المقولة (أي نضج النحو) قد ولُدت في العصور التي، غلب فيها "إغلاق باب الاجتهاد"، حيث إن الأول لم يترك للآخر شيئا، وَفْقاً لذلك الرأي. فقد روى هذه المقولة السيوطي (ت 911 هـ) - رحمه الله - وفي هذه المقولة خَلْط بَين فضل الأقدمين في أنفسهم وأعمالهم، وبين العمل ذاته، فلاَ شك أن فيهم أهل فضل، وفيهم أئمة. وقد قَدَّموا للغة العربية خدمة جلى. فهذا - مثلاً - الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175 هـ) كان زاهداً وَرعاً، قال عنه النَّضر بن شُمَيْل (ت 203 هـ): "أقَام الخليل في خُص بالبصرة لا يقدر على فَلْسَينْ وتلامذته يكسبون بعلمه الأموالَ". وأمثاله كثيرون.

ولكن علْم أولئك الأعلام الفضلاء يَقْصر كثيرا عن أن يغلق الباب عمّن بَعدَهم. وسنبين هنا بعض المجالات النحوية والصرفية التي ما تزال بكْراً أو تكاد، وقبل الخوض في ذلك لا بد من الوقوف عند منهج العمل نفسه. فقد ينحو المنهج منحى سلفّياً (تقليدياً)، وقد يخرج عن ذلك معتمداً على مُعْطَيَات علوم اللغة الحديثة. وأيّا كان الأمر ففي كلاَ المنحيين سَعَةٌ.

وسوف نكتفي بالنظر إلى الموضوع من منحى سلفي تاركين المنحى الآخر جانبا، ومستدلين على خطأ المقولة التي أشرنا إليها في صدر المقالة استنادا إلى المنحى نفسه وَفْق منهج الأقدمين.

هل كتب النحو شاملة للغة؟

وأولى النقاط التي نبدأ بها هي: "شمول النحو العربي": فهل نحو اللغة العربية هو الموجود في كتب النحو؟ هل استقرى النحاةُ قواعدَ اللغة على نحو شامل؟.

والجواب على ذلك هو: "كَلاَّ"، فليست كتب النحو - مهما طالت - بشاملة للغة العربية التي دَوَّن علماء اللغة مادتها، بل اصطبغت تلك الكتب بخصائص لا تخفى على دارس، منها:

1 - غلبة صبغة التعليم عليها فصار هدف تلك الكتب هو تسهيل قواعد اللغة واطّراح ما شذ عن الموصوف.

2 - غلبة النقل والرواية فصار لأقوال النحاة المتقدمين سلطان على المتأخرين حتى وإن اصطدمت تلك الأقوال بشواهد وأمثلة في اللغة ذاتها. وقاد هذا الاتجاه أيضا إلى وَصْم بعض اللغة بالشذوذ. والصحيح هو أنَّ استقراء الأمثلة والشواهد كان ناقصا.

3 - الاهتمام بآراء النحاة والعناية بنقلها حتى أصبح النحو عند بعضهم "قال فلان" و "قال الآخر"، وامتلأت كتب النحو بالأقوال التي لا يضر اطّراح معظمهما.

وأمام النحو اليوم مجال فسيح للإضافة والإسهام دون أن يخرج على الإطار السلفي، ومن غير أن يركب موجة المعاصرة. ولنكتف بالنظر في مجالين: الشواهد النحوية، وتدريس النحو.

الشواهد النحوية

استنبط النحاة قواعد اللغة العربية من مادة اللغة المتمثلة في القرآن الكريم والحديث وكلام العرب: شعره ونثره. ولكن استنباطهم - كما هو منتظر - لم يحط باللغة كلها. وقد تبوأ الشعر مكانة عالية في الاستشهاد على قواعد اللغة، هذا إلى جانب القرآن الكريم وكلام العرب المنثور. وثار جدل لدى المتأخرين عن صحة الاستدلال بالحديث النبوي، وما زالت آثاره، باقية إلى وقتنا الحاضر. ولن نعرض لذلك هنا.

وقد تبين الدراسة التي اضطلع بها محمد عبد الخالق عُضيمة - رحمه الله - أن استقراء النحاة للقرآن الكريم يعتوره قَدْر كبير من النقص. إذ نَجدهم حكَموا بالشذوذ على أساليبَ لغوية يشهد لها القرآن الكريم، أو رجَّحوا قاعدة على قاعدة يشهد لها أسلوب القرآن، وقد بين ذلك عُضيمة في مقدمات أبوابه في عمله الضخم "دراسات لأسلوب القرآن الكريم".

ولا شك أن الشواهد الشعرية والنثرية التي تَرد في كتب النحو ما هي إلا جزء ضئيل من التراث الأَدبي واللغوي الذي ورثناه عن العرب. فهناك أمثلة وشواهد كثيرة لم ينتبه إليها النحاة أو لم يُعْنَوا بحصرها. وهي تعود إلى عصور الاحتجاج التي قرروا. ولم يقم حتى الآن استقراء شامل لأساليب اللغة العربية في شعرها الموروث، على غرار صنع عضيمة رحمه الله في الأساليب القرآنية. ومثل الشعر الأنواع الأدبية الأخرى كالخطب والأمثال والنثر عامة.

ويملك النحويون الْمحْدثُون من وسائل الحصر ما لم يكن لسلفهم، بل ما لم يكن ميسور العضيمة نفسه قبل سنوات معدودات.

وتحُيط بالحصر مشكلاتٌ لا تخفى على دارس. لعل من أهمها توثيقَ هذا المروي - شعراً كان أو نثراً - لا من حيث الانتحال، لكن من حيث صحةُ النص وتحقيقُه، وقد يجد الدارس نفسه مضطراً إلى العودة إلى تحقيق بعض الأصول بنفسه عندما لا يطمئنّ إلى قراءة بعضها، وليس هذا بمستغرب، فقد تعاورت هذه الأصولَ الأيدي وظهر لبعضها طبعات متعددة، فلا بد للدارس من المفاضَلة بينها واختيار ما تطمئن إليه نفسه، وهو عمل لا يخلو من مشقة.

مسائل خلافية

فاستقراءُ هذه المصادر - القرآن والشعر العربي والنثر بشتى أنواعه - سيكون هو الحكَمَ الفَصْلَ في قضايا نحوية وصرفية كثيرة. وهو إما أن يشهد لأقوال النحاة بالصحة، وربما يُقَوِّض بعضها. وهناك مسائل خلافية مشهورة قد يُسْهم الاستقراء في الفصل فيها، وها هي بعض الأمثلة المشهورة:

(أ) لا يُجيز كثير من النحاة مثل "غَائبٌ مُحمَّدٌ" و"ممنُوعٌ التَّدْخينُ" على الرغم من ورود أمثلة تشهد لهذا الاستعمال. لكن هل الشواهد في اللغة كثيرة؟ أما ما ذكره النحاة فليس بكثير، وربما قاد استقراء مادة اللغة إلى مزيد من الشواهد. وقد يشهد لصحة زعم المانعين.

(ب) لا يُجيز بعضهم ما نسمع من بعض الخطباء: "صلى الله عليه وآله وصحْبه وسلم"، حيث عُطفَ الاسم الظاهر، وهو "آله"، على الضمير في "عليه"، ويرون أنه ينبغي أن يقال: "صلى الله عليه وعلى آله وصحبه". وما ردُّوه وَرَدَتْ له أمثلة في قراءات القرآن وكلام العرب، تشهد له على الرغم من قلة استعماله.

(ج) لا يقبل معظمهم أن يقال: "خذ هذه الخمسة العشر ريالا" أو "الخمسة العشر الريال". ويرون أن الصواب: "خذ هذه الخمسة عشر ريالا"، مع أن ما ردوه مروي عن العرب ووارد في كتابات بعض المؤلفين كالفراء، وهو من الكوفيين المجيزين لمثل هذا الأسلوب.

(د) يخطئ معظمُ النحاة والصرفيين مَنْ يقول في جمع "بَحْث" "أبحاثٌ" ويقولون إنّ جمع ما كان على "فَعْل" (ما لم يكن معتلَّ الوسط) هو "فُعُولٌ". فتقول "بَحْثٌ: بُحُوثٌ". فهل تؤيد اللغة ما ذهبوا إليه؟ لقد أثبت الاستقراء المبدئي أن هذا القول غير صحيح.

(هـ) واختلفوا في جواز اشتقاق "أفْعَلَ" التفضيل والتعجب من مثل: أبيض، وأسود، وأعرج، وأبرص. فلم يجزْ فريق منهم مثل قول المتنبي:

ابْعَدْ - بَعدْتَ - بَيَاضاً لا بَيَاض لَهُ

لأنْتَ أسْوَدُ فيِ عَيْني من الظُّلَم

ويرون الصواب هو: أشَدّ سَوَاداً، وأكثر بياضاً، وما أشبه ذلك. وقد وردت عن العرب أمثلة تنفض قولَهم، وربما نجد من استقراء اللغة أن الأمثلة أكثر مما وصل إليهم.

ولو استمررنا في سرد الأمثلة لطال بنا الأمر، فهنالك في النحو والصرف والأصوات عشرات القضايا التي ربما يُجلِّيها حَصر مسائل اللغة باستقراء مصادرها استقراءً شاملا.

تدريس النحو

يُدَرَّسُ النحوُ لأحد طالبين: طالب عادي في مرحلة معينة من التعليم، أو طالب متخصص في اللغة العربية، وسوف نُخْرِج الثاني - وهو المتخصِّص - من حديثنا. فالمتخصصَ ينبغي أن يحيط بأكبر قدر من النحو وَأن يدرسه في كتبه المتخصصة وأن يتمرَّس على قراءة تلك الكتب وفَهْمِ أساليبها.

والطالب غير المتخصص هو المُهمُّ هنا، لأن أمثاله هم الكَثْرةُ الكَاثرة. وينبغي للنَحاة واللغويين أن يُعْنَوْا به ويُقَدِّرواَ حاجته من علْمهم. فليس هدفُ هذا الطالب هو علمَ النحوَ، بَلَ مقصوده الحصول على "المهارات الأساسية" في اللغة بحيث يحُسنُ الرفعَ في موطنه وينصب متى وَجَب النصب، ولا يقدم جزءاً من الجملة حقُّه التأخير، ولا يتحدث عن زمن ماضٍ بما هو للاستقبال.. إلخ. فإذا تحدَّد هذا الهدف عُيِّنت الوسيلة التي توِّصل إليه أو تقرِّب منه.

ومن الوسائل التي جُرِّبت في تعليم النحو للناشئة طريقة التدريس السائدة التي يُعَلَّم فيها الطالبُ القواعدَ، ويُغَلَّب فيها الحفظُ على الممارسة، والقاعدةُ على الأمثلة. وتُغَلبَّ الآليَّة - ممثلة في الإعرْاب والمصطلحات - على اكتساب المهارات ذاتها. فماذا ينتج؟ نرى الطالب يَعْرف الفاعل ويعلم أنه مرفوع لكنه لا ينتفع بهذه المعرفةَ النظرية إذا احتاج إلى ضبط فقرة في كتابه أو كراسته، أو قرأ أمام زملائه.

ولا شك أنه ينبغي إعطاء الأولوية لإكساب المتعلم "المهارات اللغوية" لا "آليَّة النحو" المجردة. فليس يجدي أن يعرف الطالب مصطلحات الفاعل والمفعول والظرف.. إلخ، إذا كانت معرفته لا تعصمه من خطأ، بحيث يكتب - إذا كتب - كتابة سليمة مقبولة، ويتحدَّث على نحو جيد مقبول إذا تحدَّثَ. ويستطيع النحوي الُمحْدَث أن يجدِّد في وسائل التعليم دون الخروج عن المنهج النحوي المألوف قيد أنملة. وله أن ينظر في الوسائل التي استعان بها مَنْ سبقوه. فقد كان منها قراءة الكتب على العلماء، وحفظ المتون والمنظومات، وتعزيز ذلك بمحفوظ من الشعر والنثر. وبات من العسير اليوم السيرُ على هذا المنهاج، إذ اكتسب التعليم طابعاً جماعياً بسبب كثرة الطلاب وانتهاج أسلوب تعليمي مقيَّد بزمن معين ومقررات محدَّدة.

والنحوي مخير بين أُسلوب التعليم القديم (وهو أمر يكاد يكون مستحيلاً) وَالتكيف مع الواقع والاستجابة لمتطلباته. ولا غَرْوَ أن علمهَ وما نيط به من مسئولية يَفْرِضان عليه الخيارَ الأخيرَ ما لم يَنْكُصَ.