من يصور آلام الفلسطينيين؟

من يصور آلام الفلسطينيين؟

حين طلبت الطفلة هدى غالية ببراءة وذكاء من المصور: صوِّر واجعل العالم يرى، بكى المصور, وأبكانا المشهد وأغضبنا.

لا بد من توثيق جرائم الحرب على الشعبين في لبنان وفلسطين.

ولا بد من تصوير الألم الإنساني الذي يظهر بإطلاق الآهات والصرخات.

فمن هو الشاعر الذي عنون إحدى قصائده بهذا العنوان؟ أعجبني العنوان وقتها، كما أعجبتني القصيدة والديوان والشكل الفني الذي رحت أحاكيه وأكتبه في غير مكان، قد يكون بلاغة العبارة أو مضمون الديوان المتحدث عن الهم الإنساني والقومي وبطش النظم هو السبب، لكن المهم في القصيدة هو تصوير الألم الذي عبر عنه بحزن وغضب. يقفز هذا العنوان الشعري إلى ذهني بسرعة أشبه بسرعة ذاكرة الحاسوب عندما أشاهد ويلات الحرب في فلسطين ولبنان، في الصحف وعلى شاشات التلفاز في الأيام الدامية.

فم المواطن الجريح - الذي كان يصرخ من شدة الألم جراء إصابته في القصف الإسرائيلي على منزل في غزة أو في جنوب لبنان - مفتوح من أقصاه، أقصى اتساع يلائم أقصى ألم، ألم شديد مفجع مرعب. يوحي المشهد بأن المتألم ود لو خرج فمه من رأسه، إنه يبحث عن أقصى اتساع لإطلاق الآهات والصرخات الموجعة لعله بتعبيره، بأقصى تعبيره، يمكن أن يخفف شيئًا من الألم، ولعل فمه المتسع رسالة. فم الطفلة هدى غالية التي أبادت حربية إسرائيلية عائلتها، من أقصاه إلى أقصاه تعبير عن شدة الألم.

إنها صور فوتوغرافية لوكالات الأنباء تبثها باستمرار، وتنشرها الصحف في اليوم التالي، ولو كنت المصور لوقفت مقابل الرأس وجعلت العدسة تركز على فتحة الفم، ولا أكتفي بصورة جانبية، للتعبير عن شدة الألم، أقسى الألم.

لا حد للألم

لو كان الفنان الإسباني فرانسيسكو جويا ( 1746 - 1828) هنا لرسم هذا الألم على اتساعه، وعلى اتساع فتحة الفم، ذلك أن آلام الحرب التقليدية التي كانت سائدة في زمنه بوسائلها لا تضاهي آلام الحرب الحديثة، وهكذا يتطور الألم مع تطور تكنولوجيا القتل والحرب والتدمير. فالمتفجرات غير السكاكين والبنادق القديمة. فتحة فم المواطنين الفلسطينيين واللبنانيين في الصورة تحيلنا إلى لوحة جويا الشهيرة (الثاني من أيار) التي تعد من أكثر اللوحات العالمية ذات التأثير الدراماتيكي المروع، كتسجيل مأساوي للحرب الإسبانية والمقاومة ضد الهجمة الفرنسية الشرسة. «ففي عام 1808 اقتحم الفرنسيون الأرض الإسبانية وشهدت البلاد ويلات الحرب ووحشية الغزاة والتنكيل والمجازر، فكانت لوحات «كوارث الحرب» لجويا التي أردفها بلوحات «فظائع الحرب» لتكون صيحة وعي وزفرة ألم وصحوة ضمير تستعر هائجة في وجه القهر والظلم والتسلط».

في لوحة جويا (الثاني من أيار) تظهر المذبحة.. عسكريون فرنسيون يتوجهون بقوة وتصميم ببنادقهم ويعملون قتلاً بالمدنيين الإسبان، وقد صور جويا الخوف والاستسلام الذي لم يمنع القتلة من ممارسة فعل القتل الذي تعلموه وأجادوه. فهذا الإسباني ذو القميص الأبيض يرفع يديه إلى الأعلى لعله ينجو، ولكن دون فائدة. ولمشاهد اللوحة أن يتأمل سحنات وجوه المدنيين وهم يُذبحون.

لذلك فحين شاهدت الصور عن مذابح فلسطين ولبنان المتواصلة، خطر على بالي جويا، وعدت أقرأ وأشاهد لوحاته. إننا بحاجة لجويا آخر (هنا في فلسطين ولبنان وخارجهما) ليعبر عن أقصى ألم يلائم أقصى اتساع لصرخة ألم يطلقها مواطن متألم في فلسطين.

«هنريش كلاي، غير محمد علي كلاي، الأول فنان رسم في لوحات ساخرة قصة الإنسان ومأساته في هذه الحياة». أما كلاي الآخر فهو من أبطال العالم في الملاكمة وشهرته أكثر من أن نعرفه. والفنان كلاي (1863 - 1952) فنان ألماني «عبر بسخرية لاذعة عن تفتت الكيان الإنساني بين تروس المصانع الصاخبة، ولجأ إلى الرسوم السريعة الهازئة من سيطرة الآلة على البشر، ومن تكالب الناس على بناء الحضارة الحديثة وهم في الوقت نفسه يقومون بهدم القيم والسلوك المهذب والترابط بينهم، وكانت أعماله في معظمها كالرسوم الصحفية النقدية تطبع الابتسامة على الشفاه، ولكنها تترك في الوقت ذاته أثرًا عميقًا في العقل والضمير والوجدان»

شيش كباب.. بشري

من هذه اللوحات لوحة تسمى «شيش كباب بشري»، ومن الاسم يمكن التعرف على اللوحة، حيث يظهر الإنسان الوحشي المعبر عن قسوة المادية والحروب وهو يجلس للشواء، لكنه يستخدم البشر في عملية الشواء، إنه يشوي البشر ويتلذذ بذلك.

«وإذا كان هذا التعبير القاسي يبدو غريبًا وشاذًا من وجهة النظر العقلانية فإنه تجسيد منطقي من وجهة نظر الفنان لروح العصر الذي غلبت عليه سيطرة المادة وتداعي القيم والفضائل وشراسة آلات الحرب والدمار».

هو تعبير قاسٍ كما قال نقاد الفن، لكنه تعبير فني حقيقي عن الأشرار، تخطر على بالي رسمة كلاي دومًا ونحن نتألم ويزداد تألمنا كل يوم في ظل شوي الاحتلال الإسرائيلي لنا في هذا الحصار. مع أن فعل الشواء المادي للبشر الفلسطينيين قد تحقق فعلاً في شوي نار صواريخ الأباتشي على المواطنين في البيوت، والمركبات من مخيم جنين إلى غزة، إلى الكرسي المتحرك للشهيد أحمد ياسين وجسده المنثور، إلى المواطنين اللبنانيين الذين أبيدوا حرقا وهم فارون من الجحيم في الجنوب اللبناني. فماذا يمكن أن يرسم هنريش كلاي لو كان موجودًا؟ وماذا يمكن أن يرسم الفنان الفلسطيني واللبناني الآن أيضا؟

خطرت على ذهني أيضًا لوحة بيكاسو التي رسمها عام 1936، بعد المأساة المروعة التي راح ضحيتها سكان القرية الإسبانية الوادعة جرنيكا عندما ألقى عليها الألمان وابلاً من قنابلهم، فدمرت القرية بمن فيها عن آخرهم، واندثرت تحت الأنقاض جثث ألفين من القرويين العزل هم كل سكان هذه القرية البائسة، ففي صباح 26 أبريل - وكان يوم السوق الأسبوعي للقرية - فوجئ السكان البسطاء بالسماء من فوق رءوسهم وقد امتلأت بالطائرات الألمانية الغازية، تلقي بقنابلها عليهم، وتدك البلدة بمن فيها حتى أحالتها إلى دمار ورماد وأشلاء»، كي تكون عبرة للشعب الإسباني حتى يخضع للسلطة العميلة للنازيين.

في لوحة جرنيكا - ذات الثمانية أمتار طولاً - تعبير عن الألم الإنساني ووحشية القتلة. وقد أبدعها بيكاسو بأسلوب الفن المعاصر. والذي يتأملها على ضوء فتحات أفواه المعذبين في فلسطين ولبنان، يرى كيف عبر بيكاسو من خلال فتحات الأفواه، للبشر والخيول، والأيدي المرفوعة إلى أعلى فزعًا. تماماً كرءوس المواطنين العرب في فلسطين ولبنان، فمن أين لنا ببيكاسو يصور فظاعة جرائم الاحتلال وقتله للبشر دون رحمة لأنهم، يُدافعون عن أرضهم.

فتحة فم أم طفل مخيم بلاطة الذي استشهد في بيته، وآخر في بيروت، إلى آخر الأفواه المعذبة مثيرة للتأمل في شكلها والصوت العالي المنبعث منها.

الأصل في الفن المعبر عن الحرب أن ينفِّر من شرها ليدفع البشر ومتذوقي اللوحات إلى الخير والجمال. ولا أدري كيف يكون بحوزة البشرية مثل هذه اللوحات لجويا وكلاي وبيكاسو وآخرين وتستمر في مسلسل القتل والاحتلال. والمفارقة أن بلادًا تدعي الحضارة وحقوق الإنسان، إما أنها تدعم الاحتلال، وإما أنها تصمت على فظائعه، أو تتحدث بدبلوماسية هشة توازي بين القتلة والضحايا.

أمطار الموت

هذه هي «أمطار الصيف» الإسرائيلية التي تسقط على شاطئ فلسطين، هي استخلاص العبر التي استخلصها القتلة المحتلون بعد عمليتي المقاومة في فلسطين ولبنان: قتل الناس.

فأي فضيحة عسكرية لهؤلاء الغزاة الذين لا يستحون ولا يخجلون؟! كانت العبرة الحقيقية التي لو شاء المحتلون استخلاصها هي الانسحاب من الأراضي المحتلة، وفتح صفحة جديدة مع الشعب الفلسطيني واحترام إرادته وكرامته.

 

تحسين يقين 





من تخطيطات جويا





جرنيكا.. كما خلدها بابلو بيكاسو