ثلاثة مخرجين... وثلاثة أفلام مهمة

ثلاثة مخرجين... وثلاثة أفلام مهمة

ثلاثة من أهم مخرجي هوليوود، يقدمون ثلاثًا من التجارب المهمة تتراوح بين أفلام العنف إلى التشويق إلى تصوير الحياة الواقعية ولكنها تقدم صورة عن عالمنا المعاصر.

يعد أوليفر ستون في رأي غالبية المهتمين بالفن السينمائي، أحد أبرز مخرجي هوليوود، حيث يقف ومنذ سنوات على رأس قائمة أولئك الذين ينحون منحى خاصا خارجا عن المألوف في تقاليد السينما الأمريكية، أساليبها، معالجاتها، نهاياتها المُفبرَكة.

لقد صنع ستون أبرز أفلامه، بل أفضلها، خلال مغامرة سعى فيها إلى تهشيم نمطية البطل «الأمريكي»، تاركا وراءه أكبر أساطير «هوليوود ونابذًا أحلامها، وذلك عبر أفلام شهيرة مثل: (بلاتو) و(وُلِدَ في الرابع من تموز).

وقد سار «ستون إلى دائرة التفرد الأسلوبي، فأنجز أخطر أفلامه وأعقدها على صعيد المضمون والفنية العالية ألا وهو:

قَتَلَة بالغريزة -Natural Born Killers

لم يتعرّض فيلم من أفلام ستون إلى الرقابة الشديدة وسلبية التلقي مثلما تعرّض له هذا الفيلم. بسبب كثرة مَشاهد القتل والعنف والتركيز على الهواجس السادية لدى بطليه اللذّين تحوّلا في الفيلم إلى أسطورة في فنون القتل وحرية التدمير، امتدت بسرعة عجيبة إلى عقول الأكثرية (داخل الفيلم وخارجه).

ولكن: هل كان هذا العنف خاليا من المعنى؟ هذه بالطبع إشكالية أساسية أولى يطرحها الفيلم عند تَلقيه.

إنه شكل متطرف من أشكال تأكيد الوجود الإنساني الأكثر عرضة للتهميش والانسحاق في مجتمع رأسمالي لا يأبه لمن يتأملون مصير حركته العملاقة. يستمد ستون رؤيته تلك من التحولات الوجودية للانفعالات البشرية الصاخبة ومن مظاهر الكبت والمُحاصرة الجسدية التي يَعيشها الفرد والتي ساعدت أساسا في تفجير هذه الأزمة. فيكون الشروع في قتل الأب (بالنسبة للثنائي «ميكي وماليري») هو البداية للفوز بحرية مُطلقة تستمد وعيها الضروري من صيرورة الأحداث التي تضعها بمواجهة «قوة السلطة ممثلة بحاكم السجن (الممثل توم لي جونز) الذي لا تتيح له الوقائع فرصة النجاة من حدتها، فتنقلب القوة البشرية الهائلة المُحتَجَزة في السجن إلى يدٍ ضاربة تُطيح برموز القمع كلها دونما رأفة. حتى أن الإشارة المميزة إلى القوة القادرة على توجيه الأفكار وبعث الإرادة الكامنة وتنظيمها لدى الفرد، تحملُ إحالة واضحة لتصورات (الثقافة الغربيّة التحرريّة) عند فرويد في التحرر الأوديبي من عقدة الأب ، و«شتراوس في تأكيد نقاء الهنود مقابل ضعف الرجل الأبيض وخلله، كما عند فوكو خلال التدليل على سلبية وسائل الإعلام وسلطة العلامات واللافتات في حياة المدن.

من هنا نرى كيف ينسحب كل ذلك على خطاب الفن السينمائي الذي يعتبر اليوم أكثر الخطابات الفكرية هيمنة على الذهنية الأوربية والأمريكية خاصة.

حملة مضادة

من هنا تعرّض الفيلم إلى سوء فهم وعدم قبول وحملات انتقاد واسعة في الكثير من الأوساط والمحافل الفنية في العالم، إلى الدرجة التي أقدمت فيها بريطانيا على إيقاف عَرضهِ وإعادة النظر في شروط رقابته بشكل يُعد إساءة إلى حرية الرأي والفكر في أوربا». وفي الإطار نفسه ذكرت إذاعة «صوت أمريكا» أن الحكومة أوقفت عَرضه بعد أن تبيّن لها أن أكثر من عشرين جريمة قتل أرتكبت في الولايات الأمريكية تَقمّصت مُعظَمها مَشاهد القتل في الفيلم، وذلك في الأسابيع الأولى لعرضه في دور السينما. في غمرة الضجة هذه سنجد أن الجمهور لا يفهم الفيلم إلا على أساسٍ انفعالي، فيُصبح من الصعوبة بمكان أن يلجأ مخرج ما إلى مخاطبة عقل الجمهور ومُدرَكاته دون المرور بحواسه وغرائزه.

ربما لم يكن فيلم (قتلة بالغريزة - 1994) الفيلم الأول الذي يتعرّض للبحث عن أصول العنف في حاضر المجتمع الغربي، إلا أنه الأكثر جرأة في الكشف عن حقيقة نزوع القتل لدى الإنسان ضمن إطاره النفسي والفلسفي بما يؤكد حيوية المعطى البدائي في إنسان العصر الحديث.

لقد كانت علامة أوليفر ستون الفارقة أنه لم يُقدم تصوراته عن المحتوى المحتدم للفيلم برؤية من يتأمل الأمر من الخارج، إنما حاول بجهد واضح (في الأداء والإخراج والمستوى الفني) أن يتناول الموضوع بلغتهِ ذاتها، هي جزء منه مُلتحم في السياق العام، ليذهب بعيداً في ملاحقة هواجس (ميكي وماليري)، إلى درجة متطرفة تصل حدّ (فَلَسَفة) هذا الشروع الدموي، دون إغفال إضاءة جوهره الإنساني المُتعلق بأواصر الحب المجنونة التي تربط البطلين في ثنائية (الذكر/الأنثى) المسئولة دوماً عن البناء والهدم في أيما مجتمع. من هذه الزاوية يمكن قراءة الأحداث كمسلسل مدروس لإطلاق كامل الحريات في الحب والجنس ومخاطبة الآخر - الاتصال به أو التخلص منه - للفوز بلذةٍ شاردة مُلحة هي بعض من هاجس الوجدان الغربي على مدى تشكّلاته التاريخية المختلفة سواء في الحضارة أم الفن أم العلم.

إن إشكالية تلّقي هذا الفيلم تكمن في أنه تحدّث بلغة الفئة تلك وبمشاعرها، مما أعطاها المساحة الأكبر في التأثير في المُشاهد الذي تنسحق حواسه في تطلعاته لمن يُصبحون مشاهير، فَتُرجح كفتهم لتدوس كل القوانين والشرائع. وبالتزام هذا المستوى المُجازف من الطرح لا يَتبنّى ستون عقيدة أخلاقية تنفعل مع السلبي من الحوادث بروح مسيحية، بالقدر الذي نجده فيه متحمساً لخلق الجدل ومُستخدما قوته الإخراجية بدافعٍ من روح العصر وجرأة نظره إلى أزماته أو تَخطيها، وإن أوحى له ذلك الانتهاء «بالوهم».

لقد كان البناء الفني غير التقليدي للفيلم عاملاً مساعداً في إرباك المتلقي، خلال التلاعب بالبناء السردي وإدخال عناصر مختلفة من المؤثرات، كتلك الأشكال العديدة من الرسوم المتحركة (التي يعرضها التلفزيون الأمريكي) المُوظفة بذكاء يُتيح للمخرج حرية أكبر للاشتغال في منطقة تكثيف الرموز والدوال السينمائية، ناسفاً التصاعد الهرمي لمنطق حكاية الفيلم (التيمة) ومتجنباً الحوار في أكثر المَشاهد أهمية ومعتمداً في الوقت نفسه اللغة البصرية - السمعية التي حققتها طرائق الفيلم المونتاجية وكذلك موسيقاه المعبرة.

هذا الفيلم الذي دفعَ أوليفر ستون إلى المغامرة بسمعتهِ كمخرج بارز، لا يمكن النظر إليه إلا من زاوية المفاضلة بين رؤية الفنان والمتطلبات الروتينية لصناعة السينما في هوليوود.

المخرج (مايكل مان)
بين فنية الفيلم وشباك التذاكر

ما يهمنا في أفلام هذا المخرج تلك (الهارمونية) المدروسة في بناء فنية الفيلم والإقناع المتعين بها، وهي ميزة الطريقة التعبيرية التي تتمخض عن العلاقة الحساسة والواعية بين صانع (الصورة) ومتلقيها. سيتطلب سياق الحديث عن هذا الصنف من المخرجين الواثقين من قوة أدواتهم الفنية، التنويه ببعض أفلامهم المُجسِدة لذاك المزج بين التشويق والحركة والإمتاع. وباستثناء خاص يجب الوقوف عند المخرج مايكل مان الذي عرفه الجمهور من خلال أفلام سينمائية شهيرة مثل: (آخر الرجال الموهوكينز) (حرارة- Heat ) (العليم - The insider) حاول فيها باحتراف نادر تقديم توليفة ذكية جمعت بين تقليدية الموضوع وحداثة الأسلوب. فكان أن أعاد الجاذبية لأفلام الحركة دون التخلي عن قيمة مضمونها وروعة أدائها. في شريطه (حرارة - 1995) على سبيل المثال لا الحصر، نلاحظ عنايته الواضحة في صناعة فيلم سينمائي يقف إتقانه في معادلة التوازن الصعب والحرج بين متطلبات العرض الجماهيري (شباك التذاكر) وبين البناء الإخراجي المحترف. فيراهن على إبقاء لمساته الخاصة سبيلاً لضمان النجاح في الحالتين، لا سيما أن عنصر الإخراج هو الكلمة النهائية والصفة اللافتة للنظر في هذا النوع من الأفلام. إضافة إلى تعاونه مع ممثلين كبار (آل باتشينو، روبرت دي نيرو، فال كيلمر) في هذا الفيلم، وجدوا أنه سيقدمهم بقالب مؤثر إلى حد ما يختلف عن بعض أدوارهم السابقة.

وبنفس الجدارة والحماس عاد مايكل مان في العام 1999 وبالتعاون مع آل باتشينو أيضاً والممثل راسل كرو لتقديم فيلم جديد أطلق عليه اسم (العليم) أو (المُطّلع) وقد رُشح فيه لنيل جائزة أفضل مخرج في مهرجان الأوسكار للعام 2000.

بالتأكيد لا يتوافر بسهولة لأي مخرج قدرة توظيف تلك الموضوعات وجعلها تستأثر باهتمام جمهور واسع من المشاهدين وتثير في الوقت نفسه جدلاً محتدماً بين أوساط النقاد والمهتمين بالشأن السينمائي. سنرى أن فيلم (حرارة) مثلاً، حاول الخروج من كونه فيلمًا (أكشن) فقط يعيد إلى الأذهان مئات الأشرطة السابقة التي تناولت مشاكل جماعة من اللصوص المحترفين في سرقة البنوك أو ما شابه ذلك، رغبة منه في الوصول إلى أداء سينمائي مغاير يمتلك قدرة الإحاطة بحيثيات موضوعه ويحمله إحالات واسعة إلى الواقع الاجتماعي والنفسي للشخصيات، فيمنح مجالها التعبيري في النهاية صفة التأثير والإقناع.

ومهما بالغت خبرتنا الفنية في التغاضي عن مشاهدة هذه الأفلام وتقييمها، فسنجد أنها تُصر من الجانب الآخر على الاحتفاظ بالقليل الجيد منها. فقد تتجاوز حبكة البناء الدرامي لبعضها، إمكانية التنبؤ بمسار الأحداث فيها، كاعتياد تقليدي يصورها أفلام حركة ذات نهايات معروفة فحسب، أو ينزاح بعضها الآخر عن فجاجة الطرح المتواضع والتوظيفات البسيطة لقصص ساذجة تداعب مشاعر المتلقي الآنية. وبالطبع يتعاضد نجاح تلك العملية مع الإجادة في توظيف عناصر مهمة كالموسيقى والتصوير والمؤثرات التقنية التي تحيل العرض مباشرة إلى ذائقة الجمهور وتحفزه على التمعن في مَشاهد وحوارات تملك تأثيرها الخاص في استقباله الفيلمي.

توثيق الوقائع

لا يختلف الأمر كثيراً مع فيلم (العليم) الذي أثار- بجدارة سينمائية اعتمدت شيئاً من التوثيق التاريخي للوقائع- قضية حساسة مست مصالح المؤسسة الأمريكية وما يتفرع عنها من علاقات اقتصادية وسياسية متشابكة، حتى وصل الأمر بشركات السجائر الفعلية التي أزعجها انتقاد الفيلم لسلوكها، إلى رفع الدعاوى القضائية ضده، في محاولة تهدف إلى تغطية واقع تورطها المؤكد في استخدامها بحوثاً كيميائية تضر بصحة الإنسان ولأغراض تجارية صرفة لا تتجاوز الترويج لبضاعتها. فاستوجب التحدي أن وجّه خطاب الفيلم ضربته الموفقة لها، بوصفها مؤسسات وطنية - كما تدعي - تتاجر بالمخدرات، لكن بصفة شرعية يدعمها القانون! فكانت المفارقة الكبرى متعلقة فيما أثير حول الفيلم وما تعرض له كادره الفني من تشهير، تتساوى بقدر ما، مع ما لقيته الشخصية الرئيسية في الفيلم. وهي شخصية (لويل برغمان - الممثل آل باشينو) المُعد الصحفي لبرنامج (60 دقيقة) والمُنتَج لمصلحة قناة (سي بي اس)، وكأن المسألة وما لحق بها، نتيجة مفارقة وحتمية تسفر عن مغامرة الدخول إلى الملفات المحظورة سواء في الواقع أو السينما!!

إن حيوية أفلام المخرج مايكل مان وآخرين غيره، علامة أخرى تضاف إلى رصيدهم السينمائي وامتلاكهم حرفة إخراجية لها قدرة الإمساك بدرامية الفيلم، ببراعة تحيد بها عن الوقوع في فخ النمطية الهوليوودية أو الوقوف -على الأقل -عند مبرراتها، وذلك في محاولة للعودة من جديد إلى ساحة الإقبال المعقلن والمشروع على أفلام الحركة والإثارة لبساطتها المتضمنة التماع معناها. وليكن هذا الاتجاه مؤولا بدعوى تجاوز عيوب الفيلم الأمريكي بماركته المُصدرة إلى الخارج، أو قل لتقنين معايير الإقبال الجماهيري، بشكل يبعده - أي الجمهور- عن الهوس والنزق الرخيص.

سبيلبرج عالقا في صالة الانتظار!

الأصل كان حكاية واقعية غريبة ذات مسار تراجيدي حدثت في ثمانينيات القرن الماضي. دراما حقيقية مكتملة المغزى والتأثير اجتذبت المخرج الأمريكي الشهير ستيفن سبيلبرج فقرر إعادة صياغتها ومعالجتها سينمائيا في فيلمه (محطة الوصول).

أسند سبيلبرج بطولة هذا الفيلم Terminal كما هو اسمه الاصلي لنجمين سينمائيين بارزين هما: توم هانكس وكاترين زيتا جونز، وفي نيته جذب الجمهور إلى فيلمه هذا. وقد ذكرت التقارير الصحفية أن سبيلبرج دفع مبلغ 300 ألف دولار للإيراني (ميرهان كريمي ناصري) مقابل شراء تفاصيل قصته الفاجعة. وحكاية ميرهان الحقيقية غريبة وحزينة وهي بحكم (طبيعتها السينمائية الواقعية) مما يصعب تصور وقوعه في عالم اليوم، بل إن مجرد حدوثها في العالم الغربي الحر يشكل وخزة للضمير الإنساني ككل. ولنا أن نرى هذا المعنى في تفاصيل سردها الملخص عبر الصحافة الفنية العالمية، لا كما تمت معالجته سينمائيا بنفس كوميدي ورومانسي ساخر.

غادر ميرهان وطنه الإيراني إلى بريطانيا عام 1974 لإكمال دراسته العليا وهو في التاسعة والعشرين من عمره. وقد اضطرته ظروف شخصية صعبة للعودة إلى إيران عام 1977، في حين قادته ظروف أخرى للمشاركة في مظاهرة شعبية ضد نظام الشاه، ألقي القبض عليه خلالها ليفرج عنه لاحقا مقابل شرط مغادرته أرض إيران، لتبدأ حكاية اغترابه ومنفاه القسري في مكان آخر. فبعد بضع جولات شاقة في دول أوربية عدة منحته مفوضية اللاجئين الأممية حق اللجوء في بلجيكا. إلا أن حلم السفر إلى بريطانيا والحصول على الجنسية البريطانية بقي يراوده دائما، خاصة وأن أمه من أصل إنجليزي. لكن قدرا آخر كان ينتظره في محطة قطار فرنسية سيحوّل مسار حياته بالكامل نحو الاغتراب الحقيقي غير المتوقع هذه المرة وإلى الأبد، حيث سرقت كل أوراقه التي تثبت كونه يحمل صفة لاجئ مقيم في بلجيكا. وبعد وصوله إلى مطار هيثرو في لندن لم تسمح له السلطات بدخول البلاد وقررت إعادته من حيث أتى، أي إلى مطار شارل ديجول في باريس عام 1988. هكذا تتعقد قضية ميرهان حينما ترفض الحكومة الفرنسية منحه حق الدخول إلى أراضيها من غير تأشيرة دخول قانونية، ولا تعرف إلى أين يمكن أن تعيده في الوقت نفسه. وبصورة سريالية يجد (ميرهان) نفسه وقد تحول إلى مواطن عالمي سلبي، مرفوض من قبل الجميع، ولا يكترث أحد لمأساته، فيقرر البقاء في المطار الذي أصبح بيته الحقيقي منذ 18 عاما خلت. لكن في العام 1995 وافقت بلجيكا على استقباله المشروط بعد مفاوضات ومداولات مع الجانب الفرنسي، إلا أن السيد ميرهان رفض هذا العرض واعتبره مهينا وتعسفيا، وربما فقد أساسا رغبته في مغادرة عالمه الخاص، خشية من مجهولية العالم الخارجي وقسوته.

القبعة الذهبية

لا شك أن هناك العديد من الممثلين ممن عملوا مع المخرج ستيفن سبيلبرج واعترفوا بموهبته وخياله السينمائي الذي جعله إلى يومنا هذا ممسكا بلقب فتى هوليوود الذهبي كما يطيب لجمهوره السينمائي أن يراه فيه. ونذكر هنا أن السير أنتوني هوبكنز - وهو الممثل السينمائي القدير - لخص يوما ما إعجابه بالمخرج ستيفن سبيلبرج بالقول: أشد ما يعجبني به هو قبعته الرياضية (سبورت) وحركته الدائمة بين طاقم الفيلم . كان هوبكنز يتكلم وفي ذهنه تجربة (امستاد) الفيلم الرصين الذي جمعه مع سبيلبرج ولم ينل نصيبا كافيا من الاهتمام لا في مواسم عرضه ولا في المهرجانات السينمائية التي رشح لها.

ربما يفكر أحدهم أن تعبيرا آخر سيرتسم على وجه السير هوبكنز حينما يشاهد فيلم سبيلبرج المعروف بـ (Terminal )، فيما سيجد المتلقي السينمائي بدوره مبررا محتملا أيضا لتخيل المخرج الموهوب مقيدا إلى كرسيه الخشبي الصغير فاقدا حيويته وقدراته المعهودة. إذ كان يمكن لهذا الفيلم أن يكون حدثا سينمائيا ناجحا لو أن المخرج استوعب حجم قصته الأصلية، خاصة بالنسبة لغير الأمريكيين وقدمها بمعالجة أكثر إقناعا. ولن يكون سبيلبرج فاقدا للحيلة لو أنه أراد حقا بلوغ تلك الغاية، مثلما أجاد في صناعة روائعه السينمائية ذائعة الذكر: إي تي، لقاء غريب من النوع الثالث، إمبراطورية الشمس، اللون القرمزي، لائحة شندلر، إنقاذ الجندي رايان، حرب العوالم، وغيرها.

خيال سينمائي

بحسب الفيلم فإن الرجل العادي المدعو (فكتور نافورسكي) والقادم من دول أوربا الشرقية في زيارة لمدينة نيويورك، يجد نفسه عالقا في مطارها، بسبب وقوع انقلاب عسكري في بلده بشكل مفاجئ، كان قد تلقى أخباره من على شاشة التلفزيون، وهو ما جعل أوراق سفره غير معتمدة رسميا عقب تبدل النظام السياسي، وأصبح في مأزق قانوني لا يسمح له بدخول الولايات المتحدة ولا الخروج من المطار إلى أي دولة أخرى، ولا يمكنه حتى العودة لبلده لأن جواز سفره غير معترف به بعد التغيير الذي حدث.

بغض النظر عن طبيعة التغيير السياسي الذي وقع في بلد (نافورسكي) والذي لا ينشغل سبيلبرج به مطلقا، تتسبب هذه الورطة في خلق أزمة وجودية للبطل المسافر، وتحدد حركته بشكل نهائي في بقعة صغيرة حيادية، إذ تصبح صالة الانتظار في المطار هي بيته ومأواه الآمن وربما محطته الأخيرة. وبشكل تدريجي معتاد يألفه أغلب موظفي المطار وعماله ويتعاطفون مع قضيته الإنسانية بصورة تخلق مواقف طريفة تشير ضمنيا إلى إدانة أخلاقية لقوانين الدول وتشريعاتها التعسفية بحق الناس. خلال ذلك وبتصاعد أحداث الفيلم يتعرف (نافورسكي) على المضيفة الحسناء (كاترين زيتا جونز) التي تحاول كالآخرين أن تتفهم أزمته من دون أن تقدم له حلا ناجعا.

إن المسألة الأساسية التي يصعب إغفالها هنا - وقد كانت سمة ملحوظة أساءت إلى بناء دراما الفيلم - هي أن الإطار المصطنع للأحداث لم يجعله غير مقنع فحسب، بل إنه جعل الفيلم ملهاويا ومتصنعا، يسهل تصنيفه تحت لائحة أفلام الصيف الترفيهية، لاسيما في النصف الثاني منه والذي يتحول فيه (نافورسكي) فجأة إلى إنسان غير عادي في تصرفاته الساذجة التي تناقض واقع أزمته النفسية وطبيعة محنته، ليصبح بهذه الصورة شخصا مسليا بلا قضية يعتاش على هموم صغيرة تكسبه ود الناس المحيطين به ولا تعنيه بشيء حقيقي. وربما تعد الحكاية العاطفية بين الشخصيتين الرئيسيتين هي المسار الآخر غير الموفق في فيلم سبيلبرج حتى وإن قام (نافورسكي) بمفاجأة المرأة التي يحبها ببناء نافورة مياه لها في المطار على غرار ما فعل نابليون لحبيبته الشهيرة جوزفين! من المرجح أن المخرج أراد بذلك التمهيد لما سيظهر لاحقا في حياة بطله وهو يكشف في اللقطات الأخيرة للفيلم عن مهمة بطولية جاء من أجلها إلى نيويورك تتعلق بحياة والده.

تلك الأحداث الهوليوودية المفتعلة هي التي أفقدت القصة الأصلية إطارها المؤثر ومغزاها الإنساني العميق من دون أن يتمكن المخرج فيها من كسب الرهان على نجومية ممثليه الذين لم يكونوا معه بأفضل أدوارهم على الشاشة. وربما تشير المفارقة اللافتة في فيلم ستيفن سبيلبرج إلى أن الوقائع الحقيقية للمسافر الإيراني التي اعتمدها المخرج منطلقا أساسيا لفيلمه تبدو أشد غرابة ودلالة من الحكاية السينمائية المتخيلة، وهو ما يعزز افتراضا يذهب إلى أن في الواقع قدرا من الخيال والفنتازيا يتفوق أحيانا على الخيال الفنتازي ذاته. وبالرغم من ذلك لن يتنازل عشاق سينما سبيلبرج عن انتظار جديده ومتابعة عوالمه السينمائية المشوقة، فموهبته الكبيرة في صناعة الأفلام هي وحدها التي يراهن الجميع على قدرتها في الإتيان بطائرة ساحرة تنتشل المخرج وممثليه محلقة في سماء رحبة.

 

أحمد ثامر جهاد 





 





 





 





اوليفرستون وهو يوجه الممثلين أثناء تصوير فيلم «قتلة بالغريزه»





المخرج مايكل مان وهو يقوم بتوجيه الكاميرا أثناء تصويره فيلم «العليم»





المخرج ستيفن سبيلبرج أثناء تصويره لفيلمه الشهير «أي . تي»