خزفيات محمد مندور عبق التاريخ وألوان الأرض

خزفيات محمد مندور عبق التاريخ وألوان الأرض

فنان متفرد، درّس الفن لنفسه، وتفتحت موهبته، ليحصد العديد من الجوائز اعترافًا بمهارته في إعادة تشكيل طين الأرض.

بدأت حرفة الخزف مع الإنسان وسيلة تسعفه في قضاء حاجات استعمالية يوميّة، كالأكل والشرب وتخزين المئونة المختلفة، وكانت في البداية، حرفة بسيطة وعفويّة، وبالتدريج تطور تعامل الإنسان معها، فأضاف إليها التحسين الشكلي والتصميمي، وقام بزخرفة الأشياء التي تصنع منها، وتزويقها وتلوينها وتأنيقها، ما جعل الفن والجمال يأويان إلى المشغولات الخزفيّة، ليصل بعضها إلى مصاف التحف الثمينة في قيمتيها الماديّة والفنيّة. وهكذا تماهت القيمة الاستعماليّة المباشرة بالقيمة الفنيّة الجماليّة، في المشغولات الخزفيّة، بل إن بعضها وصل إلى الحد الذي نافس فيه الرائعة الفنيّة صياغةً تشكيليّة، ودلالةً تعبيريّة، وقيمةً ماديّة.

(محمد مندور) خزاف مصري معروف ومجتهد، ولد عام 1950، درس فن الخزف بنفسه، في محترفاته التقليديّة، أقام العديد من المعارض الفردية داخل مصر وخارجها، حصدت أعماله العديد من الجوائز وبراءات التقدير. له تجربة حاضرة بقوة وتمايز على الساحة الفنية المصرية والعربيّة، لما تحمل من إبداع وبساطة وإتقان وخبرة، فهو يعالج خزفياته بفنيّة وتقنية عاليتين، دون التضحية بالقيمة الاستخدامية الأساسية لهذا الفن، معيداً إياه إلى بيته وأصوله التي تاه واغترب عنها شكلاً ومضموناً وهدفاً، على أيدي بعض الخزافين المعاصرين، بعد أن خلصه محمد مندور من الإضافات والفذلكات التي شوهته وأرهقت سطوحه.

جمال البساطة

خزفيات محمد مندور الملفوفة السطوح ببراعة، ورشاقة، وانسيابيّة، وجمال، تجعلها بليغة الحضور في الفراغ بأشكالها وألوانها، سرعان ما تستدعي إلى ذاكرتنا البصريّة الأشكال والألوان التي كانت تسكن بيوتنا الريفيّة، وتُعيد إلى أنوفنا وأحاسيسنا عبق الأمس، ورائحة التاريخ، وعطر التراب بعد مطرة الصيف الأولى. ذلك لأن خزفيات مندور، ناهضة على أصول شعبيّة عريقة، ونظرة سليمة لخواص الخزف وغاياته، التي على الرغم مما لحقها من تطور تقاني وصياغي وفني، لم تتغير أو تتبدل، وهي خدمة الحياة اليوميّة للإنسان، وتسهيل ممارسته لها.

في حوارٍ لنا معه يقول محمد مندور: (على الفنان أن يكون حرفياً جيداً من أجل الخروج بعمل مفهوم، مثله في ذلك مثل الشاعر الذي يجب أن يتمكن من أدوات تعبيره ليقول شعراً صحيحاً. وكذلك الطبيب، فمن دون أن يكون حرفياً جيداً، سيموت المريض بين يديه، هذه مسألة مفروغ منها).

بهذه المباشرية الصريحة والبسيطة، يحدد الخزاف محمد مندور، المنطلقات الأساسية لأية عملية إبداعيّة تطمح لأن تكون ناجحة ومؤثرة في المتلقي، وهي منطلقات سليمة، ومقومات مهمة، لفن الخزف، جسدتها بوضوح أعماله، إن على صعيد الشكل أو اللون أو الوظيفة، أو الحضور الكتلوي البهي في الفراغ.

لقد تاه الخزف عن بيته طويلاً، وعن أشكاله ومهامه، بعد أن غُرّب واغترب شكلاً ومضموناً ووظيفة، على أيدي العابثين بقيمه وأصوله ومقوماته. مع الفنان مندور، عاد فن الخزف إلى بيته وماهيته الحقيقيّة، بعد أن خلصه من الفذلكات التي لحقت به، وأزال عنه ما لا طاقة لسطوحه بحمله من مهام ووظائف وزخارف ونمنمات وقطوعات أقحمت عليه، فأرهقت هذه السطوح وحطمت استداراتها وكتلها الجميلة الملفوفة، وشوّهت حضورها الأنيق في الفراغ، وأعاقت انسياح شلالات الضوء الساحرة فوقها.

مهام متعددة

تتوزع أعمال الفنان محمد مندور على الصحون التزيينيّة المُجهزة للتعليق فوق الجدران، وعلى المجسمات الفراغيّة المُعدة لأن تكون مزهريات، أو قدور، أو مشربيات، وهي في النوعين معالجة بتقنية رفيعة، وخبرة عالية، وصياغة فنيّة لافتة.

والحقيقة أن الفنان محمد مندور لم يُعد الخزف إلى بيته كشكل وقيمة واستعمال فحسب، بل لوناً وشكلاً وتقنيّةً، وهي مقومات مهمة وضرورية لهذا الفن، أوجدها بنفسه، لتنساح من مشغولاته الخزفية، عتاقة إنسانيّة معجونة بالتاريخ، معطرة برائحة الحنطة والتراب والزرع والمطر، ملونة بألوان تشبه ما تتركه عوامل الجو فوق الصخور، وجدران البيوت الطينيّة العتيقة التي كانت عامرة بالعافية، ومفعمة ببكورة الإنسان الأول، ذلك لأن خزفيات هذا الفنان، تنهض على أصول ومرجعيات، تُعيد المتلقي إلى مشغولات خزفية وفخاريّة كانت تسكن البيوت العربيّة الشعبيّة والريفيّة القديمة، ما جعلّ من خزفيات مندور صدىً لها، ورجعاً عذباً لفيض من الأحاسيس الإنسانيّة الدافئة، البسيطة والعفويّة، ذلك لأن هذا الفنان ينفذ أعماله من خلال جملة معطيات أصيلة، واستناداً إلى إرثٍ شعبيٍ مصريٍ موغلٍ في القدم، يتجلى في أشكال من (القلل) الفخاريّة، المستخدمة للشرب، وفي أباريق (السبوع) وشمعدانات الأفراح، وطرز متعددة من القدور الفخاريّة، وهذه المشغولات، ناهضة على أصول عريقة، يتجاوز عمرها سبعة آلاف عام.

والخزف كما يراه الفنان مندور، اصطلاح يُطلق على الخامة والعناصر وليس على الأشكال، ذلك لأن الخامة الخزفيّة تشعبت استخداماتها في عصرنا، فدخلت صناعة الأدوية والأفران، والأجهزة المعقدة والمتطورة وأشياء أخرى كثيرة. لهذا لا بد من التحديد عند الحديث عن الخزف.

المعادلة الصحيحة

تحققت في أعمال مندور، المعادلة الصحيحة لهذا الفن، عندما جمع فيها، بين القيمة الاستعماليّة (وهي الأساس في فن الخزف) والقيمة الجماليّة والتزيينيّة التي لحقت بهذا الفن مع تطور الإنسان ومضيه قدماً في سلم الحضارة.

يستعمل الفنان مندور الدولاب في تنفيذ المرحلة الأولى من أعماله، ثم يقوم بالعمل عليها، فيحذف ويضيف ويحوّر، وفق منظوره الجمالي الناهض على رؤية سليمة لخواص الخزف ومهامه في حياة الإنسان اليوميّة، وفي مقدمتها احترام الشكل (الفورم) المستدير الممتلئ، بحيث ينزلق عليه الضوء دون عوائق، ليوحي بحضور انسيابي بهي في الفراغ. ولأنه اعتمد الألوان الناشفة الهادئة المعتقة، في تزجيج أعماله، ازداد ألق حضور كتلها في الفراغ، واغتنت دلالاتها التعبيريّة. يرى مندور أن الخزف هو شكل الإناء، والجديد في هذا المجال مجرد إضافات في النسبة والتناسب. ويشير إلى أنه شعر بالملل (خلال فترة من تجربته) من السطح الأملس في أعماله، حتى لو كان فخاراً، ما دفعه للبحث عن إضافات جديدة لهذا السطح، تعمق ارتباط هذه الأعمال بالتاريخ القديم لفن الخزف، وقد أفلح في تحقيق هذا الطموح عبر تقنية لونية خاصة أوجدها، عن طريق الصدفة، ثم تابعها بالبحث والتدقيق والتطوير، حتى اكتملت عناصرها التي اكتشفها بنفسه، وهذه التقنية الجديدة جعلت أعماله تبدو كأنها خارجة لتوها من الأرض، بعمر يتجاوز ألف سنة.

لقد وفق الفنان مندور في تلخيصاته لعناصر الآنية أو المشربية أو القدر، فبرزت الكتلة لديه أكثر تماسكاً وحضوراً في الفراغ. ولأنه يستوحي في أعماله التراث العريق لهذا الفن في بلاده، سواء منه المصري القديم، أو القبطي، أو العربي الإسلامي، فقد جاءت مزيجاً متآلفاً وساحراً، من هذه الفنون العريقة مجتمعة، إضافة إلى لمسة معاصرة أنيقة، تكتنز على خبرة محروسة بموهبة حقيقية، وهو يُقر بوجود حرفة عالية في أعماله، وهذه الحرفة يراها ضروريّة لكونها تسعف الفنان في التعامل مع السليم والصحيح من وسائل تعبيره، ونقل فكره وإحساسه إلى المتلقي، بصدق وحميمية وطزاجة، أما التراث، فيراه الأساس الصلب والمتين الذي يجب أن ينهض عليه كل منجز فني معاصر.

يميل الفنان مندور في خزفياته، إلى الفصائل اللونيّة الترابيّة والرصاصيّة الهادئة التي يقوم بتركيبها من عناصر ومواد محلية. أما الألوان الخزفيّة الجاهزة الموجودة في السوق، وذات المصدر الكيميائي، والدرجات الفاقعة، فيراها مُسيئة للعمل الخزفي الفني، حيث تغرقه بالتزيين البارد والفج.

 

محمود شاهين 





يعيد هذا الفن إلى الخزف رونقه الأصيل وأشكاله المستمدة من تراث حضاري عربي وإسلامي طويل





لا يغفل الفنان الوظيفة الفعلية لآنية الخزف مهما أضاف إليها من لمسات جمالية





استيحاء أشكال شعبية قديمة ومتواصلة من أيام الفراعنة





ألوان مختلفة وإحساس جديد بملمس الأسطح لهذه الخامة العتيقة





ألوان مختلفة وإحساس جديد بملمس الأسطح لهذه الخامة العتيقة





ألوان مختلفة وإحساس جديد بملمس الأسطح لهذه الخامة العتيقة