الغرب وأزمة البحث عن عدو?

الغرب وأزمة البحث عن عدو?

صدام الـحضارات
متى تحين لـحظة الـحوار?

علاقتنا ـ كعرب ـ بالغرب علاقة حرجة, فلم تكن بيننا معركة فاصلة يذهب بعدها كل واحد منا إلى حال سبيله كما حدث مع الأمم الأخرى, ولم يكن ما بيننا مجرد خلاف عارض في الرأي أو المصلحة, ولكن كان ما بيننا علاقات متشابكة وصراعات أزكتها عوامل التاريخ والجغرافيا, لم تتعارض فيها المصالح بيننا فقط ولكن تقاطعت المصائر أيضا, توالت المعركة الواحدة إلى عدد من المعارك, وكلها لم تكن فاصلة ولا نهائية.لقد سك الغرب اخيرا تعبير صراع الحضارات واختار حضارتنا الإسلامية لكي يضعها في مقدمة المتصارعين معه, ولم نكن نحن الذين قمنا بسك الشعار ولا اختيار العدو, فقد بح صوتنا في سبيل أن نستبدل بسيف الحرب المشرع بديلاً أكثر تحضرا هو الحوار, أن يتوقف العدوان على الأرض والعرض في فلسطين, وأن يدرك الغرب أننا شركاء في عالم واحد يهمنا فيه الأمن والاستقرار بشرط أن يرتكز ذلك على العدل والمساواة, من أجل هذا كله تطرح العربي ملفها حول صدام الحضارات لعلها ترصد من خلاله جذور تلك العلاقة المشوهة التي تربطنا بالغرب وتفتح من خلال النقاش كوة من الأمل لحوار صريح وفعال بيننا وبين الحضارة الغربية.

ونظراً لأهمية الموضوع, وتقديرا للكتاب والمفكرين الذين لبوا دعوتنا للإدلاء بدلوهم حوله, ارتأت العربي أن تنشر مقالات الملف على عددين, وبذلك لا نثقل على القارئ, وفي الوقت ذاته, حتى يتاح لنا نشر الآراء المختلفة التي وردتنا دون اجتزاء.

وسيكون ضيوف الملف في عدد شهر فبراير المقبل د. أنور عبدالملك ود. جورج قرم, ود. فهــمي جـدعان ود. وجيه كوثراني.

العربي

الغرب هو الذي يخلق الأعداء من خلال نظرته لاستعلائية
ومعاييره المزدوجة التي تولد الغضب والعنف.

الإسلام والغرب, تقابل مفتعل يحل المشكلة قبل تشخيصها, ويثبتها قبل أن ينفيها.

وهو تقابل خاطئ, بين دين وحضارة وثقافة من ناحية وهو الإسلام, ومنطقة جغرافية تحولت إلى صورة أو رمز أو مثال من ناحية أخرى وهو الغرب. الإسلام حضارة يعيش فيها النصارى واليهود كأحد روافدها والمكونين لها, ساهم فيها العرب والعجم والروم والهنود والصينيون والآسيويون قديما كما ساهم فيها الغربيون والأمريكيون والأفارقة حديثا.

ومن الخطأ أيضاً وضع هذا التقابل (الإسلام والغرب). فالإسلام في الشرق وفي الغرب, في آسيا وأوروبا, في اليابان وأمريكا. والغرب كنموذج ومثال موجود في الغرب والشرق, في أمريكا واليابان, في الشمال والجنوب. فهو تقابل غير صحيح نظرا للتداخل الحضاري والجغرافي بين الاثنين, الإسلام والغرب. وهو تداخل سكاني وعمراني وثقافي في آن واحد. فالإسلام هو الدين الثاني في الغرب بعد المسيحية. ونصارى الشرق هم الذين وضعوا النصرانية قبل أن يضعها المسيحيون في الغرب, مسيحية الغرب. والكنيسة الشرقية أكثر امتداداً في التاريخ من الكنيسة الغربية. ويفوق عدد المساجد في الغرب عدد الكنائس في الشرق. والمهاجرون المسلمون في الغرب بالملايين في حين أن المهاجرين الغربيين في الشرق بالآلاف.

لم يكن (الإسلام والغرب) على التقابل أو التناقض عبر التاريخ. فقد انتشر الإسلام غرباً وشرقاً, من الأندلس حتى خراسان. ووردت الحضارات القديمة غرباً عند اليونان والرومان وشرقاً من فارس والهند. ونقل الفلسفة اليونانية وشرحها ولخصها وعرضها وألف فيها وزاد عليها. (فابن رشد) مسلم وذو ثقافة يونانية. ثم نقلها الغرب عنها إبان العصر الوسيط الأوربي, في العصر المدرسي. فكانت وراء نشأة العقلانية والتجريبية والإنسانية قبيل العصور الحديثة في الغرب في علوم الرياضة والطبيعة. و(سيجر البرابنتي) أوربي ذو ثقافة إسلامية. بدأ النقل من شمال البحر الأبيض المتوسط إلى جنوبه أولاً, ثم من جنوبه إلى شماله ثانياً. كما بدأت في العصور الحديثة من الشمال إلى الجنوب أولاً. وقد تبدأ من الجنوب إلى الشمال في المستقبل القريب أو البعيد ثانياً. و(الطهطاوي) عربي مسلم ذو ثقافة أوربية, و(آن ماري شيميل) ألمانية ذات ثقافة إسلامية.

التحدي والصراع

إنما يدل هذا التقابل (الإسلام والغرب) على مستوى آخر من التحدي والصراع, مسكوت عنه مرة, ومعلن عنه مرة أخرى حتى أصبح البحر الأبيض المتوسط بشاطئيه في الشمال والجنوب أقرب إلى فارسين متبارزين عبر التاريخ, فقد احتل اليونان والرومان المنطقة العربية في نزاعهما مع الفرس. ثم فتح الإسلام هذه البلدان, وورث الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية غرباً بل والفارسية والهندية شرقاً. ورث (السلام الإسلامي) (السلام الرومي). وانتشرت اللغة والثقافة العربية حول البحر الأبيض المتوسط شمالاً وجنوباً. وأقام حوار الحضارات الذي ازدهر واكتمل في الأندلس, في غرناطة وقرطبة وأشبيلية وطليطلة, وفي صقلية وجنوب إيطاليا وشمالها في جامعة بادو, بالإضافة إلى مدارس القيروان والقاهرة وبغداد والبصرة والكوفة, وبلخ ونيسابور وسمرقند.

ثم عاد (السلام الروماني) للغزو من جديد إبان الحروب الصليبية من الشمال للاستيلاء على جنوب البحر الأبيض المتوسط, ومن الغرب, فرنسا وإنجلترا إلى الشرق للاستيلاء على قلب العالم الإسلامي في فلسطين, والقدس تحت ذريعة تحرير الأراضي المقدسة بالرغم من عهد عمر وأمان النصارى. أتى الغرب غازياً وعاد متحضرا. هزم عسكرياً وتعلم حضاريا علم المسلمين وثقافتهم. وانتصر المسلمون عسكريا ولكن الدورة الحضارية كانت قد أوشكت على النهاية. فبعد أن قضى الغزالي على العلوم العقلية, وكفر المعارضة, ودعا للسلطان, وشرع سلطته بالشوكة وليس بالبيعة, واختار الأشعرية في العقيدة, والشافعية في الفقه, وأبرز حديث الفرقة الناجية, فرقة السلطان, والفرق الهالكة الضالة, فرق المعارضة من المعتزلة والخوارج والشيعة استتب الأمر للسلاجقة وللأتراك. وبدأ عصر السلطنة العثمانية على مدى أربعة قرون او يزيد. انغلقت في الداخل وغزت في الخارج. ضعفت في الداخل وقويت في الخارج. وأعادت الحرب مع فارس, وفتحت البلقان, ووصلت جيوشها حتى أبواب فيينا. فظهرت صورة أخرى للإسلام التركي في الثقافة الأوربية, للمتعصب الوحشي للجاهل المتخلف القاسي, إسلام الحريم والجواري والسراي في الأدب والشعر والموسيقى الغربية والذي حوله الاستشراق إلى موضوع للدراسة وكما صور مونتسكيو في (رسائل فارسية) وكما وضح ذلك إدوارد سعيد في رائعته الأولى (الاستشراق).

وبعد أن قوي الغرب بالعلوم الإسلامية وانتشر خارج حدوده فيما يسمى بالكشوف الجغرافية استولى العالم الحديث على العالم القديم. وعبر الغرب البحار غرباً إلى الأمريكتين, واستأصل شعوبهما الأصلية. ثم عبر البحار شرقاً حول جنوب أفريقيا إلى جنوب شرقي آسيا. ونجح في الغزو البحري عبر المحيطات بعد أن فشل في غزوه البري في فلسطين. وبدأت مرحلة صدام الحضارات, القضاء على هويات الشعوب المستعمرة المتمثلة في ثقافاتها ولغاتها وعاداتها وتقاليدها باسم الحداثة والثقافة العالمية الواحدة.

وتكلمت الأمريكتان الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية.وقضت بريطانيا على إمبراطورية المغول الإسلامية, وجعلت اللغة الإنجليزية لغة التخاطب بين القوميات الهندية. وانقسمت إفريقيا إلى أنجلوفونية وفرانكفونية. وحاولت فرنسا محو اللغة العربية والثقافة الإسلامية في الجزائر. ولم يستعص الأمر إلا على آسيا التي حافظت على هوياتها اليابانية والكورية أو البوذية والكنفوشوسية, أو العربية الإسلامية.

تاريخ الصدام

لم يعرف الغرب على مدى عشرين قرنا حوار الحضارات منذ اليونان قديما حتى أمريكا حديثاً. كان هم الإسكندر تحويل العالم كله إلى أرض يونانية, لغة وثقافة ونظما وأثرا باسم (التنوير). وامتدت غزواته من الغرب إلى الشرق عبر مصر حتى الهند وأواسط آسيا. وورثه قياصرة الرومان. بل لقد ورثت الثقافة الرومانية الثقافة اليونانية كما ورثت إسبارطة أثينا. وانتشر الرومان غرباً قدر انتشار اليونان شرقاً. وتحول البحر الأبيض المتوسط بضفتيه الشمالية في أوربا والجنوبية في إفريقيا, وبقطبية الغربي الأطلنطي عند مغارة هرقل والشرقي في آسيا في فلسطين إلى بحيرة رومانية لغة وثقافة وحصونا وحاميات وتجارة. وقاومت إفريقيا الهيمنة الرومانية فيماعرف باسم الصراع بين روما وقرطاجنة. وقاوم (دوناتوس) الراهب الإفريقي الذي كان مسيحيا وطنيا يفرق بين مسيحية روما واستعمارها. ولم ينعم بحوار الحضارات إلا بفضل الحضارة العربية الإسلامية حيث أقام أسقف طليطلة ديواناً للترجمة من العربية إلى اللاتينية مباشرة أو عبر العبرية, وفي بلاط فردريك الثاني ملك صقلية في حواراته مع ابن سبعين. وظلت طليطلة تتكلم العربية, لغة العلم والثقافة على مدى قرنين بعد سقوطها في أيدي القشتاليين. وكانت لغة البلاط عند فردريك الثاني. وعلى أساس الخرائط العربية رحل كولومبوس عبر الغرب الأطلنطي. وبفضل الملاحين العرب اكتشفت أوربا الشرق ابتداء من خليج عمان.

وفي العصور الحديثة في الغرب بدأ إعلان عن حضارة العقل والعلم وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والعقد الاجتماعي منذ القرن السابع عشر. وتحققت في الثورة الفرنسية ومثلها في الحرية والإخاء والمساواة في القرن الثامن عشر. ولما بلغ العنفوان الأوربي الذروة في القرن التاسع عشر وسيطر على البر والبحر, بان المعيار المزدوج, البناء في داخل الغرب, والهدم خارج الغرب, العقل والعلم والحرية والديمقراطية في الداخل, والأسطورة والخرافة والتسلط والقهر في الخارج. فتحطمت القيم الغربية على حدود الجغرافيا.وأصبحت أدوات للسيطرة والتبشير والإلهاء والخداع, وشق الصف الوطني, وخلق طبقة منبهرة بالغرب باسم العلمانية والتنوير والحداثة والعقلانية والعلم ضد الأصولية والسلفية والظلامية والتخلف والتعصب والعنف والانغلاق. فينشأ صراع بين الأقلية في الحكم والأغلبية في المعارضة, ويتم الاستبعاد المتبادل بين الطرفين, تكفير الأغلبية للأقلية, وتخوين الأقلية للأغلبية. وقد يصل الصراع إلى حد الاقتتال الدموي بين الإخوة الأعداء كما هو الحال في الجزائر, وكقنبلة موقوتة في مصر وتونس وليبيا وسوريا والعراق.

الحاجة إلى عدو

ثم أعلن هنتنغتون منذ عدة سنوات المسكوت عنه في (صدام الحضارات) مشرعاً لما تمت ممارسته من قبل على استحياء ومواربة, وإنكار واستنكار. فقد انتهت الحرب الباردة. وأصبحت الرأسمالية نهاية التاريخ. وتربعت الدول الصناعية الثماني على عرش الاقتصاد العالمي. وبدأ عصر العولمة, أحد أشكال الهيمنة الغربية المعاصرة وليست الوحيدة منذ كان الاستعمار أعلى مرحلة من مراحل الرأسمالية بتعبير لينين الشهير.

فالحضارة اليهودية المسيحية في طرف, والحضارة الإسلامية البوذية ـ الكونفوشوسية في (طرف آخر) تأكيداً على التقابل الشهير بين حضارة الغرب وحضارة الشرق, وتكراراً لمقولة الاستعمار التقليدية عند كبلنج, (الغرب غرب, والشرق شرق, ولن يلتقيا).

وبعد سقوط المعسكر الاشتراكي, ونهاية خطر الشيوعية احتاج الغرب إلى عدو جديد كي يوحد قواه, ويشحذ همته, ويسيطر عليه. فوجده في الأصولية الإسلامية في الوطن العربي وفي العالم الإسلامي, بل وفي قلب الغرب والولايات المتحدة الأمريكية.

فهي كلية شمولية تمارس العنف, وتتحدى القيم الغربية, وتعادي الغرب, وتجند الجماهير, وتقلب النظم السياسية الصديقة للغرب والتابعة له. فتتم محاصرته في العراق وليبيا أو تهديده في السودان وإيران وجنوب لبنان وسوريا واليمن أو الاعتداء عليه في أفغانستان.

فالعالم الإسلامي هو الوحيد المرشح لأن يكون قطباًً ثانيا في مواجهة القطب الأوحد الذي تتربع أمريكا على عرشه وتستخدم الأحلاف العسكرية والمنظمات الدولية لتنفيذ أغراضه مثل ضرب يوغسلافيا. فهو العالم الحي بتراثه الذي يزخر بتساؤلاته حول القديم والجديد, التراث والحداثة, الأصالة والمعاصرة. لم يقطع مع الماضي كما فعل الغرب في بداية العصور الحديثة. يمتد في التاريخ, إبداع حضارة ما زالت حية في القلوب, وتثير الإعجاب والفخر لما قدمته للبشرية من علوم وفنون. وقام بحركات التحرر الوطني, وقادها, وفك إساره من الغرب. وأنشأ الدول الحديثة, وأقام صرحاً صناعياً في ماليزيا وإندونيسيا ومصر. وما زال يقوم بدور المعارضة للهيمنة الغربية في الأمم المتحدة رافضاً الدخول في بيت الطاعة الأمريكي. وهنا يبرز التقابل بين الإسلام والغرب.

أما أمريكا اللاتينية فقد قضى الغرب فيها على شعوبها الأصلية, لغاتهاوثقافتها. وجيفارا مات ولم يبعث من جديد. تئن تحت القهر والفقر والمخدرات والجريمة المنظمة. وخفت (لاهوت التحرير). وغامت نظريات الاستقلال التي ناهضت التبعية. وإفريقيا مطحونة بالمرض والتصحر والحروب الأهلية والصراعات العرقية والخلافات الحدودية من إرث الاستعمار, والعنف والانقلابات والنظم العسكرية والديون. بقيت آسيا بما فيها من حضارات عريقة في الصين والهند وما فيها من كتلة سكانية, أربعة أخماس العالم, ومن قوة إسلامية ظهير الوطن العربي. لذلك, يتم القفز عليها عبر أوربا والمحيط الهندي والخليج العربي لمحاصرة الصين من الجنوب, والهند من الشمال, ولإجهاض الحركات الإسلامية في الوسط, وحصار العراق وتركيا من الشرق, وإحكام الحلقة حول الثورة الإسلامية في إيران من الغرب. وتحت غطاء محاربة الإرهاب يتم الاستيلاء على نفط بحر قزوين, وفتح أسواق جديدة للشركات متعددة الجنسيات, ومصادر النهضة الصناعية في اليابان وكوريا وهونج كونج وسنغافورة وتايوان وماليزيا وإندونيسيا, وتفتيت الدول في قوميات عرقية لتقضي على التكتلات الكبرى القادرة على مواجهة العولمة, وتجزئة العالم الإسلامي في إندونيسيا وماليزيا وإيران وباكستان والهند, بل وشرذمة الوطن العربي بين سني وشيعي, عربي وكردي وبربري, ومسلم وقبطي حتى تبقى إسرائيل الدولة الطائفية العرقية الكبرى في المنطقة جسراً دائماً إلى آسيا.

الأصولية في كل حضارة

والأصولية ليست مقصورة على الحضارة الإسلامية وحدها, بل هي ظاهرة طبيعية في كل حضارة تصل في مسارها التاريخي إلى مرحلة التأزم, فقد سارت الحضارة الغربية منذ عصورها الحديثة في الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر. والنهضة في القرن السادس عشر, والعقلانية في السابع عشر, والتنوير في الثامن عشر, والثورة الصناعية في التاسع عشر, ثم تأزمت في القرن العشرين, حربان عالميتان طاحنتان, عنصرية وقومية, وبدأت تهدم ما بنت, فظهرت الاتجاهات اللاعقلانية واللاعلمية واللاإنسانية والنسبية والشكية واللاأدرية والعدمية, تنقض القانون والنظام والنسق, وتقول بالتناقض واللامعنى باسم ما بعد الحداثة.

وكما ظهرت الثقافات المضادة في الستينيات أثناء حرب فيتنام ورفض قيم المجتمع الاستهلاكي, وظهر مفكرون وفلاسفة ينظرون لثورات الشباب وحركات المعارضة الجديدة مثل (ماركوز) استمرت الثقافات المضادة في عصر العولمة في تظاهرات سياتل وبراج ولندن وباريس ودافوس وجنوة, ترفض البون الشاسع بين الأغنياء والفقراء, والهيمنة باسم ثورة الاتصالات, والعولمة باسم العالم قرية واحدة, وحمل لواء المعارضة الأصوليات اليسارية واليمينية, العلمانية والدينية, الجماعات المنظمة والفوضوية, والأقليات العرقية والطائفية, وتنوّعت جماعات الرفض السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

وتشكّلت جماعات جديدة وديانات جديدة في المجتمعات الصناعية المتقدمة, تجمعات مغلقة ترفض الدولة الفيدرالية, وهيمنة الأغلبية البيضاء على الأقليات الملوّنة عوداً إلى الثقافات التقليدية, ثقافات الجلد, ضد تكنولوجيا المعلومات واتصالات الفضاء وأخبار البورصات وأسواق النقد العالمية, وتبنى بعضها ديانات الشرق مثل جماعة راداكرشنا, يحلقون الرءوس, ويلبسون المسوح, ويضربون الأجراس, وينشدون الترانيم, وانتشرت الطرق الصوفية الإسلامية والمسيحية واليهودية والبوذية والهندوكية في قلب المجتمعات الصناعية المتقدمة, والبعض رد الاعتبار للدين والمؤسسة الدينية, وغرق في السحر والخرافة والأساطير, فكل تطرّف يؤدي إلى تطرّف مضاد, من ما بعد الحداثة إلى ما قبل الحداثة, ومن المعقول إلى اللامعقول, ومن العلم إلى الخرافة, ومن العلمانية إلى الدين, ومن النظام إلى الفوضى, ومن الحرية إلى العبودية, ومن الديمقراطية إلى الطغيان, ومن المجتمع الديني إلى المجتمع الصناعي العسكري, ومن التقدم إلى العود إلى عبق التاريخ, وباختصار من الوجود إلى العدم, ومن البداية إلى النهاية.

أصوليات متعددة

والأصولية ليست فقط دينية, بل هناك أصوليات متعددة, الدينية إحداها, هناك أصولية علمانية أيضاً ترفض أي تعامل مع الدين في الحياة العامة, وأصولية اقتصادية لا ترى إلا الربح والسوق والمنافسة, وأصولية اجتماعية لا ترى إلا المجتمع المدني وحقوق الإنسان, وحقوق المرأة, والعقد الاجتماعي, وحقوق الأقليات دون حقوق الشعوب, وأصولية سياسية ترفض أي استقلال سياسي للدولة, وتأبى إلا التحالف مع الدول الكبرى في نظام واحد للعالم, وأصولية ثقافية تتمسك بالهوية ومظاهرها التقليدية, وتقع في الأشكال والرسوم بصرف النظر عن المضمون.

هناك أصولية مسيحية تدافع عن حقيقة المسيحية, ولا تعترف بكل التراث النقدي التنويري للدين, وتنسق مع الأصولية اليهودية لتأكيد العهد وأرض الميعاد وتحقيق الوعد الإلهي والاصطفاء لبني إسرائيل, تلتقي مع الأصولية الإسلامية في رفض مظاهر الحداثة الغربية وفي مقاومة تحديد النسل وحق الإجهاض والشذوذ الجنسي في مؤتمر السكان وفي ضرورة العودة إلى الإيمان وأن الدين هو الحل, وقد مثلت الرومانسية في الغرب هذا الشكل الأول من العودة إلى الأصول, والدخول إلى الأرحام, واسترداد الروح بعد اغترابها في العالم.

إن حوادث العنف الأخيرة, العنف والعنف المضاد, تدمير مركز التجارة العالمي وجزء من البنتاجون والعدوان على الشعب الأفغاني بالرغم من الضحايا الأبرياء من الطرفين فإنها صدمة لكل الأطراف وربما نقطة تحول في تاريخ العالم, إنها الحرب العالمية الثالثة في أول القرن الواحد والعشرين في صيغ جديدة تتجاوز الجبهات التقليدية بين الجيوش والدول والمعسكرات بين عدوين معروفين, يختلط فيها الواقع بالخيال, وتمتزج فيها الحقائق بالأشباح, ويخلق العدو من الوهم, ويصنع بالخبل.

العدو من أين?

ظنت الولايات المتحدة أن العدو من الخارج, واستعدت له بحرب النجوم ودرع الصواريخ العابرة للقارات, وحشدت أضخم ترسانة عسكرية لصالح المجمع الصناعي العسكري, فجاء العدو بخيال سياسي أوسع, وإبداع نضالي أخصب, طائرات مدنية عملاقة مخطوفة تضرب رموز القوة والعظمة في الاقتصاد والسياسة لتحطيم صورة التفوق, والدوران حول العملاق من الخلف, فلا يوجد قوي إلا ويوجد من هو أقوى منه. ونهاية التكبر والتسلط والتأله هي مسار طبيعي للتاريخ, القوة بلا عدل ظلم مطلق وجبروت وطغيان, ينتج موسى في مواجهة فرعون, قد تدرك الولايات المتحدة الأمريكية أن سلطانها محدود, وأنه لا حدود للمقاومة, وأن التوحد لله وحده, وأن الحركات المعادية لها على حق, ومن ثم وجب تغيير سياستها تجاه قضايا الشعوب التي تجمّعت في دوربان, ولم تطلب أكثر من الاعتذار عن خطف أربعين مليوناً من إفريقيا, عبيداً إلى العالم الجديد لبنائه لصالح الرجل الأبيض, ومساواة الصهيونية بالعنصرية لما تقترفه من جريمة في فلسطين منذ تأسيس الكيان الصهيوني على التطهير العرقي والطائفي حتى انتفاضة الاستقلال, قد تدرك أن الاقتصاد ليس كل شيء, وأن حقوق الشعوب وكرامتها أغلى عليها من القمح, فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان, وأن دور الدول العظمى قد انتهى في عالم يقوم على التعددية في النظر والممارسة, فالحق ليس من طرف واحد, وأن ما دعا إليه وليم جيمس في (عالم متعدد) ليس فقط دعاية للنظم الليبرالية ولكنه أيضاً يمارس في التطبيق وإلا تحوّلت أمريكا إلى دولة أصولية, الفرقة الناجية وكل الفرق الأخرى هالكة, وبالتالي تشرع لوجود الأصوليات, أصولية إسلامية في مواجهة أصولية أمريكية, عنف في مواجهة عنف, وعدم اعتراف في مواجهة عدم اعتراف, ورفض برفض,

قد تتعلم أمريكا التواضع, والاعتراف بغير الأمريكي, وتجاوز سياسة العصا والجزرة إلى الاحترام المتبادل.
قد تتعلم أوربا أنه لا يمكن التفريط في استقلالها, وأن تبعيتها الجزئية مثل ألمانيا وإيطاليا أو الكلية مثل بريطانيا تضر بمصالح الغرب, وأن تقوم أوربا بدور المرشد والعقل الذي يكبح جماح القوة والهوى, وأن الاستقلال الثقافي الذي تدافع عنه فرنسا ما هو إلا مقدمة للاستقلال السياسي, فالحليف لا يعني بالضرورة أن يكون تابعاً, وصديقك من صدَقَك القول لا ما صدّقك, وأوربا والوطن العربي متجاوران, في شمال وجنوب البحر الأبيض المتوسط, ومصالحهما المشتركة. وتاريخهما المشترك والهجرات وتبادل الخبرات, والحوار العربي ـ الأوربي, والمفاوضات على دخول الوحدة الأوربية, كل ذلك يجعل المسافة بين أوربا والعرب أقرب بكثير من المسافة بين أوربا وأمريكا أو بين العرب وأمريكا, تستطيع أوربا أن تدخل في حوار مع العرب متكافئ الأطراف واستئناف النموذج الأندلسي, والمساهمة في صنع إنسانية واحدة, متحدة في الأهداف ومتنوعة في المداخل, متفقة في الغايات, ومتعددة في الأطر النظرية, تساهم في صنع حضارة إنسانية واحدة مع تنوّع الثقافات.

الإسلام.. قلب آسيا

وقد تتغير آسيا عندما تدرك أهمية وحدتها بين وسطها في الجمهوريات الإسلامية, وجنوبها في إيران والهند, وجنوب شرقها في الملايو وإندونيسيا وشرقها في الصين, وشمالها في روسيا وغربها في تركيا, وحدة آسيا هي الكفيل بالمحافظة عليها ضد أي غزو غربي وقتي أو دائم, وضد إقامة قواعد أمريكية ثابتة فيها تكون منطلقاً للعدوان على أطرافها وتهدد الجميع.

والمسلمون هم قلب آسيا, منتشرون في الهند والفلبين والصين وروسيا, والحضارة الإسلامية والبوذية والهندوكية تعايشت على مر العصور في تناغم وتآلف طبقاً للنموذج الآسيوي, تتعلم آسيا أن وحدتها خير ضمان لاستقلالها, وأن الخلافات بين دولها, بين الهند وباكستان أو إيران وأفغانستان أو تركيا والعراق أو دول الخليج وإيران أو إيران والعراق أو بين أذربيجان وأرمينيا أو بين الهند والصين تمثل خطراً على وحدة آسيا, وتسمح للنفوذ الغربي بالدخول إلى آسيا للاستفادة من التناقض بين دولها, تنحاز مرة إلى أحد الطرفين حتى تأخذ منه ما تريده ثم تنحاز مرة أخرى إلى الطرف الآخر وتأخذ ما تريد كالقط الذي يحكم بين فأرين على اقتسام قطعة الجبن في قطعتين غير متساويتين, فيقضم الكبيرة لتصبح صغيرة فتصغر أكثر, ثم يقضم الأخرى لتصبح صغيرة فتصغر أكثر وتكبر الأولى حتى يأتي على القطعتين معاً.

إن آسيا باتساعها وأسواقها, وشعوبها, وكتلتها السكانية, أربعة أخماس العالم, وقواها البشرية, وموادها الأولية, وعقولها العلمية, وتاريخها العريق لقادرة على أن تمثل تكتلاً يضم أربعة أخماس سكان العالم, وأن تكون اليابان في صلبه آسيوية لا غربية, وأن تتعرض لتآمر أسواق المال العالمية كلها, فريح الشرق تهب الآن من الغرب على آسيا كما هبت ريح الغرب في العصور الحديثة على آسيا, فقد سارت روح التاريخ قديماً من الشرق إلى الغرب والآن تعود الى الشرق من جديد.

وتتعلم افريقيا أن الدور ربما آت عليها من أجل استمرار نهب موادها الأولية واسواقها وعمالتها وتاريخها. فقد ارتبطت إفريقيا بآسيا عبر العصور, عبر مصر من خلال سيناء بغزوات الفرس في مصر القديمة او بالفتوحات الإسلامية بعد خروج العرب والمسلمين الأوائل إلى إفريقيا لفتح مصر والمغرب حتى الأندلس, وكان بين عرب شبه الجزيرة العربية ومصر القبطية صلات تجارة ورحم. وتزوج الرسول منها, وأوصى بأقباط مصر خيراً, وأثنى على جندها خير اجناد الأرض وعلى شعبها المرابط إلى يوم القيامة, كما توطدت العلاقة بين آسيا وإفريقيا من القرن الإفريقي عبر التاريخ حول زنجبار, وبين جنوب إفريقيا والهند والملايو أثناء الاستعمار الأوربي الحديث, وأثناء حركات التحرر الوطني انضمت آسيا وإفريقيا إلى باندونج ونشأت منظمة تضامن شعوب آسيا وإفريقيا.

المقاومة أفضل من الصمت

ويتعلم العرب أن الإحباط يولد الانفجار, وأن العجز يؤدي إلى العنف, وأن الصمت ينتهي إلى الصراخ, وأن حوادث سبتمبر الأخيرة إنما كانت رد فعل على الصمت الغربي على ما يحدث في فلسطين بعد عام من انتفاضة الاستقلال, وقتل الأطفال والنساء والشيوخ, وتصفية القادة, وتجريف الأراضي, وهدم المنازل, وتأييد أمريكا لما تفعله إسرائيل بالإعلان أو الصمت, ووصف المقاومة الفلسطينية بأنها إرهاب. يتعلم العرب أن المقاومة أفضل من الصمت, وأن العمل خير من السكون. فالعدوان الصهيوني على فلسطين نتيجة طبيعية للعجز العربي والصمت العربي, واستجداء الولايات المتحدة الأمريكية والرأي العام الدولي والمنظمات الدولية

لقد وضح للجميع أن المعيار المزدوج الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية على نحو مطلق وأوربا على نحو نسبي إنما يولد العداء للغرب ولأمريكا. ومن ثم فإن الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس هو الطريق لنزع جذور العنف وأعمال اليأس فالشهيد ليس لديه ما يخسره في الدنيا. لا أرض ولا وطن, لا حاضر ولا مستقبل, لا عون ولا تأييد, فيستبدل الموت بالحياة, والآخرة بالدنيا, ونعيم الجنة بدار الأرض.

وتعود القضية الفلسطينية إلى مسارها الصحيح بعد ان رأى العالم كله آثار الإرهاب الصهيوني عليها, وعرف الفرق بين إرهاب الأفراد وإرهاب الدول, بين الإرهاب كفعل, والإرهاب المضاد كرد فعل, بين الإرهاب القاهر والإرهاب المحرر.

لقد استعمل لفظ (الإرهاب) في القرآن الكريم ثماني مرات, خمس منها بمعنى الرهبة من الله والخوف منه مثل وإياي فارهبون . هم لربهم يرهبون, ويدعوننا رغباً ورهباً , ومرتان إرهاب المسلمين للعدو وهو إرهاب ايجابي وتخويف له ليس عن طريق العنف الفعلي بل عن طريق الايحاء بالقوة والتلويح بها ترهبون به عدو الله وعدوكم, ومن لا يخاف الله يخيفه المؤمنون لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله. ومرة واحدة إرهاب القوة للمسلمين مثل إرهاب سحرة فرعون للمؤمنين واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم, وهو ما حدث بالضبط بعد حوادث سبتمبر الأخيرة. إذ دخل الرعب في قلوب الأمريكيين من التفجيرات المحتملة والجمرة الخبيثة لعلهم يكونون أكثر عدلاً, واستمرار المقاومة والاستشهاد ضد الاحتلال الصهيوني الفلسطيني لعلهم يرهبون.

 

حسن حنفي