العرب والغرب: تاريخ من العلاقات المشوّهة
العرب والغرب: تاريخ من العلاقات المشوّهة
كشفت الأزمة الأخيرة عن نقص فادح في ثقافة أصحاب في السنوات القليلة الماضية, نشرت عشرات الدراسات المعمّقة حول علاقة العرب بالغرب, والمثاقفة والاختلاف الثقافي, وحوار أو صراع الحضارات, ومستقبل الثقافات الوطنية والقومية في عصر العولمة, وغيرها. وبدا من خلال المؤتمرات والندوات العلمية التي عقدت من أجل تلك الغاية أن صورة الغرب التي تبلورت سابقاً لدى العرب من خلال انطباعات الرحّالة, والترجمة التي لم تكن دقيقة في غالب الأحيان, والمقولات المجتزأة عن الفلسفات الغربية, وقضايا الحريات الفردية والعامة, ومشكلات بناء الدولة الحديثة, وكيفية استيعاب العلوم العصرية وتوطين التكنولوجيا ثم تطويرها, وغيرها باتت بحاجة إلى إعادة نظر جذرية في عصر العولمة والنظام العالمي الجديد. لكن اللافت للنظر أن الصورة المتبادلة بين الغرب والعرب, وبشكل خاص في الصحافة, والكتب المدرسية, ووسائل الإعلام, كانت مشوّهة إلى حد بعيد في الدول العربية والغربية معاً. مع ذلك, فقد صدرت في العقد الأخير من القرن العشرين دراسات مهمة جداً حول الشراكة المعرفية بين العرب والغرب, والتعريف بمقولات الحداثة وما بعد الحداثة, التمركز على الذات, وقضايا التفاوت والاختلاف, وحوار الحضارات, ومحاولة تصويب الصور المتخيلة بين الغرب والعالم العربي - الإسلامي في مختلف الحقب التاريخية. وأصر الباحثون المتخصصون لدى الجانبين على ضرورة فتح حوار معمّق بينهما لتقريب وجهات نظرهم حول القضايا الخلافية لكي يكون الحوار بين (الأنا) و(الآخر) مفيداً. كان الحوار الثقافي بين العرب والغرب يسلك سبلاً وعرة للغاية بسبب غياب الندّية أو التكافؤ ما بين كلا الطرفين المتحاورين, وبدا واضحاً أن المجتمعات الغربية قد قطعت أشواطاً بعيدة من التقدم السياسي, والثقافي, والاجتماعي, والاقتصادي, في حين بدت المجتمعات العربية تكرر مقولات النهضة الأولى التي لم يتحقق منها إلا النزر اليسير رغم مرور أكثر من قرن ونصف القرن على إطلاقها, لذا استمر الحوار متعثّراً ولم يتوقف طوال العقود المنصرمة. البحث عن البراءة لكن انفجار 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن أحدث صدمة كبيرة في الأوساط الغربية لدرجة بدا معها كل عربي أو مسلم متهما حتى تثبت براءته الدامغة من (الإرهاب الدولي), علما أن ملايين العرب والمسلمين يعيشون في الدول الغربية منذ عقود طويلة, وهناك عدد كبير منهم نال جنسية البلاد التي يعيش فيها, وقد اكتسب العلوم العصرية والتكنولوجيا المتقدمة من مصادرها, وبلغاتها الأصلية, وبالتالي لا علاقة له لا بالإرهاب ولا بالإرهابيين. لذلك أثارت ردود الفعل الغربية ضد مواطنيهم من العرب والمسلمين استهجاناً شديداً لدى أوساط الرأي العام العالمي, والذي لم يتوقع أن يقتل مواطنون غربيون من أصول إسلامية أو عربية لجرائم لم يرتكبوها, وفي بلدان تدّعي الحضارة. هنا تبرز أسئلة منهجية حول طبيعة ما جرى, نكتفي بالإشارة إلى بعضها: - هل كانت ثقافة الرأي العام الغربي عن العرب والمسلمين ضحلة إلى هذا الحد لدرجة عدم التمييز بين الفرد المتهم بالإرهاب والجماعة التي ينتمي إليها دون أن تكون لها علاقة بما يخطط له أحد أفرادها? ومتى كانت الثقافة الديمقراطية التي يفتخر بها الغرب تحمل الجماعة مسئولية أعمال يقوم بها أفراد منها? - ما الأسباب الحقيقية التي جعلت النظام الأمريكي يصرّ على تبنّي نظرية خاطئة تماماً حول (صراع الحضارات), في حين أن النظرية العلمية السليمة في هذا المجال هي (حوار الحضارات) الذي أثبته تاريخ البشرية منذ نشأتها حتى الآن. فالحضارات تتفاعل أما من يقود الحروب والمعارك فهم الناس وليس الحضارات, ولأسباب سياسية واقتصادية وليس لنشر الحضارة بالقوة المسلحة. - لماذا استخدم الرئيس الأمريكي, عندما زلّ به اللسان, مصطلح (الحروب الصليبية) لوصف حربه ضد الإرهاب القادم من العرب والمسلمين? وهل بدت الإدارة الأمريكية على دراية كافية بالمخاطر الكبيرة التي ستجرّها حربها العسكرية ضد أفغانستان على مصالحها الأساسية في العالمين العربي والإسلامي? - أخيراً, لماذا تأخرت الولايات المتحدة الأمريكية, ومعها بريطانيا, طوال نصف القرن الماضي للاعتراف بضرورة قيام الدولة الفلسطينية العتيدة وذلك في غمرة القصف المدمّر على أفغانستان من جهة, والهجمة الإسرائيلية الشرسة على الشعب الفلسطيني من جهة أخرى? وهل مازال الأمريكيون ينظرون إلى الفكر العربي كفكر ساذج يسهل خداعه, فتقدم وعود كاذبة للعرب كما فعل الإنجليز مع الفلسطينيين حين أصدروا الكتاب الأبيض لعام 1939 بهدف ضرب الثورة الفلسطينية عام 1939 بعد أن عجزوا عن ضربها عسكرياً طوال ثلاث سنوات? أليس منتظراً عندما تنتهي الولايات المتحدة من حربها ضد أفغانستان أن تعود فتتجاهل وعودها الراهنة كما تجاهلت عشرات الاتفاقيات التي وقّعتها إلى جانب الإسرائيليين والفلسطينيين ولم ينفذ أيّ بند من بنودها? أليست هي التي تقدم النصح اليومي بوقف القتال فتساوي بين الجلاد الإسرائيلي والفلسطيني الضحية? مأزق العلاقات الثقافية ليس من شك في أن انفجارات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية كشفت عن مأزق العلاقة الثقافية بين العرب والأمريكيين, وبدا واضحاً أن الرأي الأمريكي, ومعه الغالبية الساحقة من كبار المسئولين في الإدارة الأمريكية لا يعرفون الحد الأدنى عن الثقافات العربية والإسلامية, ولا يميّزون بين مبادئ الدين الإسلامي وقوى سياسية تستخدم الدين الإسلامي استخداماً خاطئاً وتوظّفه لأغراض سياسية مدانة أساساً من العرب والمسلمين قبل أن تكون مدانة من الأمريكيين بشكل خاص والعالم الغربي بشكل عام, دليلنا على ذلك أن المتهم الرئيسي بتفجيرات نيويورك وواشنطن, أي أسامة بن لادن, مطرود من موطنه الأصلي السعودية, وقد انتزعت منه جنسيته السعودية في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة الأمريكية تستخدمه مع جماعته في (تنظيم القاعدة) في الجهاد ضد الوجود العسكري السوفييتي في أفغانستان. لقد كشفت توجهات الإدارة الأمريكية في الرد على (الإرهاب الدولي) عن منحى خطير في العلاقة بين الدول والجماعات الدينية والقومية. فهناك نقص فادح في ثقافة أصحاب القرار الأمريكي حول تاريخ الشعوب العربية والإسلامية, وثقافاتها, وحضاراتها, هذا إذا كنا من أصحاب النوايا الحسنة في هذا المجال, علماً أن الدراسات العلمية في الولايات المتحدة الأمريكية حول العرب والمسلمين لا تكاد تحصى, وهناك مؤتمر سنوي يضم غالبية الباحثين الأمريكيين والمقيمين في أمريكا حول تطور بلدان الشرق الأوسط مما يعني وجود نوايا خبيثة, وتجاهلاً وليس جهلاً لدى أصحاب القرار الأمريكي مما قد ينعكس بشكل أزمات متلاحقة بين العرب والأمريكيين بسبب التوجهات الخاطئة لتلك الإدارة في سعيها للقبض على (الإرهابيين) بعد أن تصنفهم جميعاً من العرب والمسلمين. تجدر الإشارة هنا إلى أن الشعوب الغربية أنتجت عشرات المنظمات الإرهابية, كالنازيين الجدد, والفاشيين الجدد, وجماعة الجيش الأحمر الياباني, وجماعة الألوية الحمراء, وجماعة الباسك, والمافيات الأمريكية, والإيطالية, والروسية وغيرها, فلماذا الإصرار على إلصاق تهمة الإرهاب بالعرب والمسلمين دون سواهم? وذلك يتطلب تحليلاً معمّقاً لأهمية البعد الثقافي في تصويب العلاقات المستقبلية بين العرب والغرب, وبشكل خاص الولايات المتحدة. التباس صورة الغرب إن علاقة المجتمعات العربية بالغرب تحتاج مجدداً إلى تضافر جهود جميع الباحثين لدى الطرفين, مرد ذلك أن آخر المقولات الغربية في عصر العولمة تجلّت بشكل خاص في مقولتي فوكوياما حول: (نهاية التاريخ والإنسان الأخير), وصموئيل هنتنغتون حول: (صدام الحضارات), وفسر العرب هاتين المقولتين الأيديولوجيتين أيضاً بشكل أيديولوجي انتهى إلى القول باحتمال توجيه معركة الغرب ضد العرب والمسلمين, وجاءت حرب أفغانسان لتقدم الدليل القاطع على أن خوف العرب والمسلمين كان مشروعاً حيث صنّفوا جميعاً في خانة الإرهاب الدولي. وتناست الإدارة الأمريكية أن الغالبية الساحقة من الأنظمة العربية, إن لم نقل جميعها, تدين بأهمية الصداقة للأمريكيين للأمريكيين, وهي تشتري السلاح من الغرب, وترسل أبناءها للتعلم في مدارسه وجامعاته, وتشتري سلعاً غربية بمليارات الدولارات سنويا, وتودع مالها في بنوكهم والذي يذهب غالبيته لشراء أسلحة لا تستخدم في المعارك, فلماذا يتهم العرب إذن بالإرهاب الدولي ويؤخذون بجريرة قوى أدانوها قبل سواهم واستنكروا عملها الإجرامي في قتل أبرياء في نيويورك وواشنطن بطريقة تحظرها تعاليم الدين الإسلامي ويرفضها كل إنسان يؤمن بحرية الروح البشرية التي لا يجوز التفريط بها كما لا يجوز قتل البريء, أو الاعتداء عليه لأي سبب كان? علماً أن الغرب نفسه, الأوربي ومن ثم الأمريكي, قد ساهم فعلاً في حماية القوى التسلطية والأنظمة الديكتاتورية على امتداد الوطن العربي, وهذا ما جعل صورة الغرب ملتبسة جداً في الندوات والدراسات العربية التي ميّزت بين كلام الغرب عن الديمقراطية, ودعم نقيضها في العالم العربي والإسلامي. لم تعد صورة الغرب تجسد أفكار الثورات التحررية الأوربية والأمريكية حول حقوق الإنسان, والعدالة, والإخاء, والمساواة, بل حملت بصمات السيطرة الاستعمارية على الدول العربية والتي كان آخر تجلياتها قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين, ومرابطة القوات الامركية في المنطقة العربية بالاضافة إلى عشرات القواعد العسكرية, وعدد لا يحصى من قطع الأساطيل الأمريكية التي تجوب جميع البحار المحيطة بالأراضي العربية. وأدرك العرب أن الحداثة هي أولا نتاج مقولات يصوغها المثقفون العرب لتعبر عما يريده العرب لأنفسهم حتى يلحقوا بركب الحضارة العالمية من موقع الفاعل فيها, وليست اقتباسا سهلا لمقولات يصوغها الفكر الغربي لإلحاق العرب بالعولمة الغربية من موقع التابع لها. وهذا ما عبر عنه هشام شرابي بقوله: (إن علاقتنا بالغرب, وخاصة بأمريكا, مازالت علاقة تضاد واختلاف. الغرب اليوم وأكثر من أي وقت سابق, ما زال يريد لنا غير ما نريده لأنفسنا. نحن نريد الحداثة, وهو يريد لنا التحديث. نحن نريد السيادة والاستقلال وهو يجبرنا على التبعية. نحن نصبو إلى التحرر والوحدة, وهو يدعم الأنظمة التي تقف في وجه التحرر والديمقراطية وتمنع الوحدة). تجدر الإشارة هنا إلى أن كثيراً من الباحثين الغربيين يعتبرون أن الجانب الديني أو الغيبي هو المكون الأساسي للتراث العربي, وفي ذلك ظلم وتشويه لهذا التراث في مختلف حقبه. فهناك كوكبة كبيرة من المفكرين العرب كانوا على درجة عالية جدا من العقلانية, ولم تستطع آلة القمع السلطوية الحد من تأثيرهم في الفكر العربي والإسلامي. يكفي التذكير بأن دعاة العقلانية يشكلون تراثا عربيا على درجة عالية من التكامل ولا يجوز وصفه بالتمرد على التراث السائد فحسب بل باعتباره التراث المضيء والأكثر رسوخا, والأكثر تأثيرا في تطور الفكر العربي. أما عدم استفادة القوى السياسية من هذا التراث وتوظيفه لبناء دول عربية عصرية فمسألة أخرى تسأل عنها القوى الاستبدادية التسلطية في العالم العربي ولا يسأل عنها دعاة التراث العربي العقلاني. ولا تستقيم مسيرة النظم السياسية في الدول العربية على قاعدة العدالة والحرية والمساواة إلا إذا وضع التراث العقلاني العربي والإسلامي في موقعه الطبيعي الذي يستحق, أي بتحويله إلى تراث حي, وقادر على تثقيف العرب والمسلمين, حكاماً وشعوباً, بثقافة عقلانية أصيلة هي من نتاج مفكريهم الكبار الذين اختزنوا في أعمالهم أفضل ما في التراث الإنساني من مقولات عقلانية, تأثروا بها وطوروها. أهمية الحوار الثقافي رغم الأحداث الأليمة التي تشهدها الآن الساحة الدولية, وانعدام الثقة في العلاقات العربية ـ الأمريكية بشكل خاص والعلاقات العربية مع الدول الغربية بشكل عام, لا بد من حوار ثقافي مسئول وطويل الأمد لإعادة الاعتبار للحوار بين الثقافات والحضارات وليس للصراع في ما بينها لكي يعيد الثقة المفقودة بين الجانبين. فالغرب ليس واحداً وليس مطلقاً بل يمتاز بالتنوع والتناقضات والصراعات. كما أن المجتمعات العربية بدورها ليست واحدة بل تمتاز أيضاً بالتنوع الثقافي والديني والاجتماعي. وبالتالي, فقد آن الأوان لمراجعة معارفنا عن الغرب ولإعادة النظر في المسلمات الراسخة في أذهاننا عنه وبناء صور جديدة تساعد على تقديم معرفة عقلانية وليس عاطفية أو انفعالية عن صورة المجتمعات العربية في الغرب. فالسائد لدى العرب هي صورة الغرب الاستعماري البشع الذي أشاع مناخاً من الصدام والمواجهة مع الشرق. وصورة الغرب هي دوماً صورة الغرب المنتصر كما عبّر عنها فوكوياما وهنتنغتون. فهو انتصار الأقوى سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ومعرفياً. لكن على المثقفين العرب نقد مقولتي (صراع الحضارات) و(ما بعد الحداثة) وغيرهما لأنها تعبر عن جديد أيديولوجيا العولمة الأمريكية, دون أن تحمل أي تجديد ثقافي. إن صورة (الآخر) ليست حقيقة إذ لا يظهر الشرق على حقيقته ولا الغرب على حقيقته بل صورة كل منهما معكوسة في مخيلة الطرف الآخر. صحيح أن الغرب اخترع شرقه, ولكن من الصحيح كذلك أن الشرق اخترع غربه: كل من موقعه, وكل بطريقته وآلياته. وإذا كانت السمة الغالبة في الخطاب العربي المعاصر هي رفض الصورة التي يحملها الغرب, تحديدا, عن العربي والمسلم, مع البحث لها عن سياقات ودوافع, فإن هذا الرفض لا يوازيه تساؤل عن الصورة التي يبنيها العربي عن الغرب وعن علاقتها بواقع هذا الغرب. إنه يتشكى من تشويه الغرب لصورته, لكنه لا يتنبه إلى أن صورة الغرب ليست أقل تشويها لديه. إن تبادل صور التعارف المتخيلة بين الغرب من جهة والعالم الاسلامي من جهة أخرى هي وليدة تاريخ طويل من المجموعة التخيلية من الأفكار. فثمة عوامل سلبية كثيرة لدى الجانبين تقود إلى فهم خاطئ للآخر. كما أن سؤال العلاقة بين الحضارات سؤال تاريخي, ولا ينبع إلا من واقع سيرورة التاريخ. أما الاختلاف الثقافي, فليس سببا للنزاع بين الدول لكن من الممكن استغلاله لتأجيج نزاع محتدم لأسباب غير ثقافية, بل اقتصادية في معظم الأحيان. والمطلوب تطوير الحوار البناء حول علاقة المجتمعات العربية بالغرب بمقدار تطوير هذا الحوار مع الباحثين الغربيين حول الموضوع عينه. علاقة الأنا بالآخر أما علاقة الأنا بالآخر, أي علاقة العربي بالغربي عبر ما يوصف في الأدبيات الراهنة بالمثاقفة فتحمل في طياتها سمات إيجابية وسلبية معا. لكن أحداث التاريخ ليست سببا وحيد الجانب لفهم علاقة العرب بالغرب بل لا بد من البحث عن مظاهر التفاعل بينهما عن طريق رصد المشكلات ذات الطابع الإيجابي أو السلبي, لقبول حضارة الآخر أو رفضها, والاقتباس عنها أو الانكفاء على الذات تحت ستار الحفاظ على الأصالة ومحاربة التغريب. ورأى بعض الباحثين أن ثنائية القبول التام أو الرفض المطلق ما زالت سائدة في كثير من الدراسات العربية حول الغرب, وهي عاجزة عن توليد معرفة دقيقة بالمشكلات القائمة, ودعوا إلى القطع المعرفي مع مقولة حب الغرب أو كرهه, ومد جسور علمية للتعاطي الواقعي معه. فالآخر ليس مجردعنصر للحوار وإنما هو عنصر تكويني من عناصر الذات. كما أن دمج مفهوم الحداثة بمفهوم الغرب لا يمكن أن يقود إلى دراسات علمية معمقة. هناك إذن واقع ملتبس في علاقة العرب بالغرب الذي يثير فيهم مشاعر متناقضة من الحرية والقمع, من الديمقراطية والديكتاتورية, من العلوم العصرية والعنصرية القاتلة. ولا بد من قراءات نقدية مستمرة لعلاقة المجتمعات العربية بالغرب, مع سعي حثيث لتجاوز المقولات الاستشراقية السائدة عنه. (فبعد أن تلاقى الشرق مع الغرب لن يفترقا أبدا), هذا ما توقعه الشاعر الألماني الكبير غوته. لذا, بات عليهما أن يتحاورا ليتفاعلا بعمق. وأفضل حوار هو ما كان من موقع الندية لحماية المصالح المشتركة في جميع المجالات, وبناء نظام عالمي جديد بعيد كل البعد عن نزعات الهيمنة الثقافية, والتسلط العسكري, والشوفينية أو الاستعلاء العنصري. يشعر العرب اليوم, ومعهم جميع دول الأطراف, بأنهم يتعرضون للتهميش المتزايد على المستويات كافة يوما بعد يوم, ويحس المواطن العربي باغتراب شبه تام عن الواقع الذي يعيش فيه. وزاد في مأزق العرب في المرحلة الراهنة للعولمة المنتصرة ماظهر جلياً طوال العقود المنصرمة من تجاهل ملحوظ للثقافة العربية, وللغة العربية, ولمراكز البحث العلمي شبه الغائبة أو المغيبة عن الفعل الثقافي على امتداد العالم العربي. دليلنا على ذلك هزال الإنتاج الثقافي المنشور باللغة العربية لدرجة بات معها التداول اليومي بالتراث العربي شبه معدوم على المستوى العالمي. هذا في وقت يتحول فيه العرب إلى كتلة بشرية تقاس بالتراكم الكمي الذي يزداد بالملايين عاما بعد عام. هكذا بدا وكأن العرب خرجوا نهائيا من تاريخ الحاضر والفعل فيه على المستوى الكوني ليرتموا واهمين في أحضان تاريخهم القديم مبتعدين بشكل إرادي عن مواجهة مشكلات الحاضر ومتطلبات بناء غد أفضل يعيد للعرب دورهم في الحضارة الكونية الشاملة من موقع الفاعل فيها وليس من موقع المستهلك لثقافات الغير. إن الحوار المسئول, واحترام الرأي والرأي الآخر, والدعوة إلى تطبيق القوانين والقرارات الدولية تطبيقاً موحداً وغير منحاز شروط لا غنى عنها لبناء غد أفضل تنعدم فيه الرغبة في حل المنازعات بالقوة العسكرية الدولية, أو عن طريق إشعال حروب ومنازعات أهلية تدمر شعوباً وجماعات بشرية بكاملها. فالحوار الثقافي هو النقيض العملي لنبذ ثقافة العنف الذي يهدف إلى تغليب مصلحة دولة أو جماعة على مصالح باقي الدول والجماعات أخرى. والتاريخ مليء بالدروس والعبر التي تؤكد على عجز الحرب عن حل أي من المشكلات الكبرى بل تزيدها تأزما. أخيراً, إذا ما استمرت الولايات المتحدة بتنفيذ مخططها في (الحرب ضد الإرهاب) في إطار مقولة (صراع الحضارات), فقد تمنى بهزيمة ثقافية كبرى قبل أن تصاب بهزيمة عسكرية, وإفلاس اقتصادي. وهذا ما يتيح الفرصة أمام العرب لاستعادة دورهم من طريق تطبيق سياسة الممانعة وعدم المشاركة في حرب ليست حربهم الوطنية ولا القومية. ناهيك بأن الأمريكيين لا يخفون نواياها المبيتة بأن العرب والمســـلمين هــم من سيـــدفع الثــمن الأكبر لتلك الحرب. كما أن ســـياسة الممــانعة يمكن أن تجبر الأمريكيين وحلفاءهم على فتــــح حوار ثقـــــافي بين الحضارات وقطع الطريق على حقـــبة طويلة من الحروب الدامية المتنقلة من فلسطين إلى الخــــليج العربي, ويوغـــسلافيا, والشــيشان, وإفريقيا, وأفغانستان, وكشمير وغيرها.
|