نحن في (علاقة مشوّهة) ... مع النفس!

نحن في (علاقة مشوّهة) ... مع النفس!

هي إذن قبل كل شيء لحظة المواجهة مع النفس قبل المواجهة مع الغرب أو الشرق رغم شراسة الهجمة المعادية, وذلك تصحيحاً لهذه (العلاقة المشوهة) التي طالت وتطاولت, رغم أنها من المسكوت عنه في معظم الخطاب العربي الحديث والمعاصر.

أستميحكم العذر. أود تعديل السؤال إلى ما هو أعمق من العلاقة مع غرب أو شرق. إن سؤال ملف (العربي) بصيغته المحددة سؤال مطروح وملح, لكن الأكثر إلحاحا هو إشكالية (العلاقة المشوهة مع النفس). نعم إنها (علاقة مشوهة) ـ والتعبير دقيق ونافذ ـ لكن خطورتها الأشد أنها مع النفس لذلك فهي تنعكس على العلاقة مع (الآخر).

هي إذن قبل كل شيء لحظة المواجهة مع النفس أولا, المواجهة مع النفس, من أجل المصالحة مع النفس, بكل أبعادها الجمعية والفردية, التاريخية والحضارية, المجتمعية والسياسية, وذلك ما حاول كاتب هذه السطور التنبيه إليه في كتاباته منذ عقود.

إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..., لنكن قادرين على الاعتراف بأننا نعيش (علاقة مشوهة) مع أنفسنا قبل أن نعيشها مع الغرب, إننا نعيش الصراع الحضاري الذاتي مع الموروثات المتعارضة المتراكمة عبر عصور تاريخنا المزدهر والمنحدر على السواء ضمن خليط من النقائض والأضداد في صميم تكويننا المجتمعي والحضاري, دون حسم, ودون أن نجرؤ على ترك ما هو تاريخ للتاريخ, وإبقاء ما هو حاضر ومستقبل للحاضر والمستقبل. إننا نعيش اليوم خليطا نشازا من عصور المماليك والعصور الحديثة وشخصيتنا الجماعية المعاصرة متحف متحرك لكل المعروضات بلا تمييز أو هوية.

لماذا وصل الآخرون من هند وصين ويابان في قارتنا الآسيوية وفي شرقنا الواسع إلى ما وصلوا إليه ولم نصل نحن... بعد? سؤال طرحه أستاذ التاريخ العربي المرحوم شاكر مصطفى في ندوة أزمة التطور الحضاري العربي التي عقدت بالكويت عام 1974 وما زال من الأسئلة التي تتحدى قدرتنا على الإجابة.

إن البيت المنقسم على نفسه لا يمكن أن يواجه الآخرين. نحن (نعظ) الغرب ليكون إنسانيا عادلا, و(نناشد) إسرائيل لتكون قوة مسالمة... ولكن ماذا فعلنا لأنفسنا? وماذا أعددنا لهم من (قوة)... ليستمعوا إلينا بالفعل.

أعني القوة اللازمة لهذا العصر بأبعادها الشاملة, غير شجاعة الانتحار الذاتي, المعبرة عن منتهى الاستعداد للتضحية, بلا ريب, لكن المعبرة في الوقت ذاته عن بالغ اليأس.

من اليأس إلى الفعل

كيف نتجاوز هذا اليأس إلى الفعل... الفعل الحضاري والتاريخي في هذا العصر, بمنطق العصر, وبكل أدوات العصر ذات الفعالية الدائمة... التي تمكننا من الانتصار بدل الانتحار... وتجعلنا شركاء حضارة في واقع العالم. لا مجرد ضحايا إثارة على شاشاته.

أمريكا قوة إمبريالية? إسرائيل قوة عدوانية? بطبيعة الحال...ولكن لماذا معظم جهدنا الذهني والخطابي متركز في أن نفسر الماء, بعد الجهد, بالماء, ونراوح في نقطة الصفر? خطاب فكري وشعبوي كهذا إلى أين يقود الأمة?! هل أمريكا وإسرائيل جمعيات خيرية? لا توجدقوى زاهدة ورعة وقوى طامعة شريرة في العالم. كل القوى ذات مصالح ولا تفهم غير لغة القوة... فلماذا نحن, أعني العرب والمسلمين المعاصرين, رغم كل التضحيات, لم نعرف بعد كيف نسلك الطريق إلى مثل هذه (القوة) الرادعة والفاعلة... المنصوص عليها في كتابنا القويم الذي علمنا أيضاً ألا نلقي بأنفسنا إلى التهلكة.

إن القدرة على التضحية بالنفس إذا لم تصحبها القدرة على إعادة بناء النفس ستبقى مجرد حالة انتحارية إلى ما لا نهاية,وهذا ما يريد عدونا أن يدفعنا إليه كي نبقى محاصرين في خنادق اليأس ومتمسكين بذلك النوع من المقاومة التي لا تعبر إلا عن اليأس... لا يجوز أن يتحول عالمنا الإسلامي الواسع, بموقعه المنفتح, بحضارته وتراثه, بشعوبه الحية وبوعود المستقبل المتاحة أمامه إلى (غيتو) آخر, إلى قلعة (مسادا) محاصرة, فهذا ما تريده إسرائيل لنفسها, فلنتجنب عدواها القاتلة, ولنقاوم استنساخها المشوه.

علينا أن نحول القدرة على الاستشهاد - وأمتنا تملك الكثير الكثير منها - إلى قدرة على إعادة البناء... وقدرة على الحياة المنتجة الفاعلة المؤثرة في عالمها كما تعامل المسلمون الأوائل في صدر الإسلام مع عالمهم فكانوا شركاء فاعلين في صنعه, بل كانوا سادته بالإبداع العلمي, والتفكير العقلي, والتسامح الديني والانفتاح الحضاري.

اليابان وبناء الذات

اللافت أن قدرة أمتنا على التضحية بالأنفس عظيمة, لكن ماذا عن قدرتها على البناء في معركة الحضارة التي عليها المعول في نهاية المطاف?أليس لافتا أن اليابانيين لجأوا إلى المقاومة الانتحارية (الكاميكاز) ضد الأميركيين عندما تيقنوا من الهزيمة ووصلوا إلى يأس الاستسلام, فلم يجدوا أمامهم إلا هذا الخيار اليائس والبائس?

غير أنهم عندما حسموا أمرهم من جديد وقرروا أن يبنوا اليابان القوية المعاصرة, يابان المعجزة الاقتصادية التكنولوجية, كفوا عن عادة التضحية الانتحارية, رغم عمقها في تراثهم, ورغم شجاعتهم المؤكدة, واتجهوا إلى تضحية من نوع آخر... تضحية النَفَس الطويل, تضحية العمل المنتظم والإنتاج المنتظم وإعادة البناء الشامل, رغم المحرقة النووية التي أصرت أمريكا على عقابهم بها, أطفالا ونساء وشيوخا, وهم في لحظة الهزيمة المتحققة, لم يكن من الضروري إطلاقا تدمير اليابان بالقنبلة النووية فقد كان استسلامها مؤكدا. لكن أريد عقابها و(الثأر) مما فعلته في بيرل هاربر, وتقديم الدرس للقوة الروسية السوفييتية الصاعدة حينئذ. واللافت أن ألمانيا النازية التي بدأت الحرب لم تعاقب بذلك واقتصر العقاب على جنس آخر, وعرق آخر... في آسيا!

لكن اليابانيين لم يخطفوا طائرات... لم يقتلوا مدنيين بل واصلوا العمل المنتج على مدى عقود... وتحملوا عار الاحتلال من أجل إعادة البناء إلى أن ثأروا منه بأن أصبحوا (شركاء) في الإنتاج والحضارة لا يستغني عنهم عدوهم... بل ينافسونه بإنتاجهم المتقدم في عقر داره... وها هو ذا (عدوهم) يطلب مساندتهم العسكرية له بما يتعدى كل القيود المجحفة التي فرضها عليهم ليرسلوا سفنهم الحربية من جديد إلى بحار آسيا حيث دُمرت سفنه في معارك الأمس على يد آبائهم وأجدادهم المحاربين.

إذا صح أن الفاعلين في أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانوا عربا, أليس مؤلما أن يقارن المرء بين (الحضور) الياباني في الولايات المتحدة, والغرب بعامة المتمثل في التقنيات المتقدمة وأجهزة الكمبيوتر ومختلف الأجهزة الصناعية المتقنة, وهذا (الحضور) المنسوب للعرب والمسلمين? صحيح أن ثمة ظلما واقعا من الغرب على العرب والمسلمين, ولكن أليس ضرب اليابان بأول قنبلة نووية في التاريخ وقتل المدنيين الأبرياء فيها جريمة لا تغتفر? المحك والاختبار الحقيقي ليس كيف (تنفعل) ولكن كيف (تفعل) وحان الوقت ليخرج العرب والمسلمون من مهاوي الانفعال إلى مستوى الفعل.

عندما شاهدت قبل سنوات متحف الدمار النووي الأمريكي في هيروشيما وما ألحقه من إهلاك للحرث والنسل تملكتني حالة من الغضب وسألت مرافقي الياباني: كيف تشعرون أنتم حيال هذه البشاعة? ابتسم مرافقي ابتسامة يابانية ولم يجب, لكنها كانت كافية.

لقد (ثأرت) اليابان بإعادة بناء نفسها إلى أن احتلت المكانة التي أرادتها... أما نحن فنثأر لا بإعادة بناء النفس... ولكن بتدميرها!

ألا نكرر في خطابنا, ومن تراثنا, أن الغاية لا تبرر الوسيلة. وأن الغاية الشريفة تحتم الوسيلة اللائقة بها? فهل تدمير النفس مع آلاف النفوس البريئة الأخرى هو الوسيلة اللائقة بغاياتنا النضالية الشريفة وبشرف قضيتنا العادلة? وإلى أين نريد أن نصل من خلال منطق (عليّ وعلى أعدائي)? ماذا بعد? وما الإنجاز الكبير الملموس الذي حققناه لأنفسنا?

موقفنا من التراث

من الغريب أن الداعين إلى إحياء التراث في عالمنا الإسلامي يقتصرون على مذهبهم الجزئي الضيق في هذا التراث الشامل وينكرون عناصره ومكوناته ومدارسه الأخرى برغم ترديدهم اللفظي لصفة (الشمول) في الإسلام. بل إن بعض الثورات الإسلامية المعاصرة فرضت في دستورها مذهبها الخاص بها في وقت تتجه فيه جهود الإصلاح في مجتمعات إسلامية أخرى كانت تعاني من هذا الفرز المذهبي لإشراك جميع المسلمين في الحياة السياسية والحياة العامة وتجاوز ترسبات العصور الماضية في تقسيم أهل القبلة الواحدة وأهل الوطن الواحد إلى طوائف ومذاهب.

لا يجوز أن يتأسس مسلم معاصر تربويا وثقافيا على إنكار وازدراء ما في التراث الإسلامي من مدارس وتفاسير واجتهادات عدا مذهبه الموروث في نصوصه الحرفية الضيقة التي انتهى إليها. هذا ما يعاني منه المسلمون على جانبي التفرقة المذهبية هنا... وهذا ما يجب أن يتجاوزوه... لأنه من أسباب هذا التشويه للإسلام في سلوك بعض المسلمين ومن أسباب هذه العلاقة المشوهة التي يعيشها أكثر المسلمين مع النفس?

بين المسلمين اليوم كثرة تعادي نتاج العقل الإسلامي المفكر المؤمن في عصور ازدهارنا الحضاري كما تعادي أي فكرة وثنية مادية.

وبين المسلمين اليوم من يعادي مدارس الاجتهاد في الفقه الإسلامي كما يعادي الصهيونية والشيوعية... فأي إحياء لتراثنا الحضاري هذا الذي يدعوننا إليه والحظر مفروض على أجمل ما في تراثنا من فكر واجتهاد? أي علاقة صحية وطبيعية يمكن للمسلم أن يقيمها مع تراثه الإسلامي ووعاظ الغوغاء (نعم هناك اليوم وعاظ للغوغاء إلى جانب وعاظ السلاطين!) يشنون حربهم الشعواء في المدارس والجامعات والمساجد والاجتماعات والفضائيات على أرقى عطاءات للعقل أنتجها العقل المسلم المؤمن عبر العصور.

من يقرأ كتاب (معالم في الطريق) للمرحوم سيد قطب يهوله هذا العداء لدور العقل الإسلامي في الحضارة الإسلامية... وإذا علمنا أن هذا الكتاب أسس لجيل الرفض في حاضرنا فيجب ألا نندهش أو نفاجأ بطبيعة (الطريق) الذي انتهينا اليوم إليه.

من أجل حوار جديد

قبل محاورة الغرب أو الشرق علينا أن نؤسس لحوار جديد ومختلف مع أنفسنا على الأسس التالية:

أولا : تربية العربي المسلم على تقبّل العربي المسلم الآخر. وكذلك مواطنه الآخر غير العربي أو غير المسلم. إن تقبّل (الغير) من المواطنين في الوطن ـ تعايشاً وتحاوراً وتسامحاً ـ هو الشرط الأول لأي مشروع حوار حضاري أو سياسي مع الغرب أو الشرق. ومن يلغ أويضطهد مواطنه (الآخر) فكيف يمكنه أن يحاور ويعايش الآخر المنتمي إلى قوميات وديانات وحضارات أخرى?

إن العصبيات والمذهبيات والطوائف والإثنيات لا يمكن أن تكون (القاعدة) والمرجعية لأي مجتمع يواجه تحديات العصر الحديث. وإذا بقيت هي المرجعية في التعامل الوطني فلا منجى من (خيارين) أحلاهما مر: إما استبداد عصبية على غيرها بالقوة لبعض الوقت, وإما الحرب الأهلية في النهاية بين مختلف العصبيات وتحلل الدولة والوطن. فلا مفر إذن من التعايش مع الآخر في الوطن, قبل التوجه لمحاورة الآخرين في العالم الكبير, وإلا فإن حوار الحضارات الذي أصبح صيحة العصر سيبقى بلا مضمون بل سيكون نفاقاً وتضليلاً للنفس... وسيظل من الباعث للسخرية تحاور بعض المسلمين مع رجال (الفاتيكان) وإخفاقهم في محاورة (النجف) أو (الأزهر) أو (قم).

ثانيا : أن تضع السياسات التربوية في المجتمعات العربية في مقدمة أهدافها تقديم مقررات في الثقافة العامة تشرح مختلف عناصر التراث الإسلامي والحضارة الإسلامية بصورة موضوعية رصينة ومسئولة إلى الأجيال الجديدة. أعني تحديداً أن يعرف السنّة عن الشيعة والشيعة عن السنة والزيود عن الشوافع, والشوافع عن الزيود... إلخ, ثم كل هؤلاء عن المعتزلة والأشعرية والمتصوفة... إلخ, ما يوفر أساساً علمياً حقيقياً للفهم والتفاهم بمنأى عن التفسيق والتكفير بين الفرق والمذاهب.

فالناس أعداء ما جهلوا كما قال الإمام علي بن أبي طالب, ولا بد أن يتعارفوا ليتعايشوا. وإذا كان الله سبحانه ـ كما في محكم التنزيل ـ قد خلق الشعوب والقبائل لتتعارف, أليس جديراً بأهل القبلة الواحدة أن يعرفوا أنفسهم?

ومن قديم قيل في الفلسفة: (اعرف نفسك) وتساءل السيد المسيح: ما فائدة أن تكسب العالم وتخسرنفسك?!

فكيف يمكن للعرب والمسلمين أن يعرفوا أنفسهم ـ بالمعنى العميق للذات الجماعية والهوية الحضارية ـ إذا ظلوا يقطعون أوصال هذه الذات والهوية بين فرق ومذاهب لا ترى إلا تقزّمها, وتلغي أو تقصي وجوهها الجدلية الأخرى في صيرورة التاريخ والواقع?

أستغرب من دعاة (إحياء التراث) الذين لا يتقبلون إلا فرعاً مذهبياً منه هو ما ورثوه ونشأوا عليه, مع إصرارهم على (إماتة) وقطع كل ما عداه من أعضاء وشرايين الكائن التراثي المتكامل ذاته... فأي تقطيع وتشويه... للنفس الكبرى!

لن يتجاوز العرب والمسلمون مذهبياتهم وعصبياتها ويعودوا إلى أصالة الذات وجوهرها إلا إدا رأوا تلك المذهبيات والعصبيات ـ علمياً ـ في ضوء الحقيقة التاريخية كما نشأت وتطورت بلا تضخيم وأوهام وخرافات أفرزتها القوقعة المذهبية العصبوية الضيقة حول نفسها في معركة بقائها مع القوقعات الأخرى في مستنقع التاريخ ووحل الانحطاط.

ثالثا : التنوير الثقافي العام بشأن المعطيات الحضارية الإنسانية المختلفة التي صبت في كيان الحضارة العربية الإسلامية سواء من حضارات الشرق الأدنى القديم من بابلية وسومرية ومصرية قديمة... الخ, أو من الحضارات الفارسية واليونانية والهندية والصينية التي اقتبس منها العرب والمسلمون باختيارهم ومن موقع القوة والثقة بالنفس.

ثم يبقى الاختبار الأكبر, فكرياً, للعرب والمسلمين المعاصرين بتجاوز مرأى الغرب الاستعماري الطامع وغير المنصف, لاستيعاب ما لديه من عناصر القوة الحضارية اللازمة للبقاء في هذا العصر.فالاخفاق المستمر في هذا الاختبار القائم والمتصل هو الذي يفرز باستمرار النسيج العنكبوتي لهذه (العلاقة المشوهة) مع الغرب ويتسبب في خسارتنا للمواجهات الحضارية والسياسية معه, إذا أردنا العودة إلى الصيغة المحددة لسؤال (الملف).

***

تلك هي (اختراقات) معرفية ونفسية لا بد لنا من اجتراحها لنقيم علاق صحية مع النفس تساعدنا على مواجهة الآخرين ومحاورتهم بما يتعدى العلاقة المشوهة سواء مع النفس أو مع الآخر, وبما يمكننا أيضاً من إدارة الصراع السياسي مع الغرب أو الشرق بأسلحة العصر ولغته دون الاضطرار للانتحار بديلا عن الحوار!

 

محمد جابر الأنصاري