تصاعد الإرهاب... وصدام الـحضارات

تصاعد الإرهاب... وصدام الـحضارات

إن نظرية صدام الحضارات لا تعني سوى تصاعد وتيرة الإرهاب, فهي تضع خطاً فاصلاً بين حضارتين لابد أن يتم التصادم بينهما.

لقد كان سقوط حائط برلين (1989), ثم انهيار الاتحاد السوفييتي (1991), هو بداية النهاية (للنظام العالمي الثنائي القطبية).

الحدث جلل... وصفه مفكر أمريكي, فرانسيس فوكوياما, بـ (نهاية التاريخ), غير أن الصراعات استمرت, وتعذّر بالتالي القول بأن التاريخ قد (انتهى), وبعد سنوات معدودة من ظهور نظرية فوكوياما, ظهرت نظرية صامويل ب. هنتنغتون عن (صدام الحضارات), بديلاً عن نظرية فوكوياما عن نهاية الصراعات, وعن النظرية الماركسية عن (صراع الطبقات) في مقال أثار ضجة كبيرة بمجلة (شئون خارجية) الأمريكية عام 1993, تلاه كتاب بالعنوان ذاته نشر عام 1996.

يقول هنتنغتون: (العالم منقسم إلى قطاعين: قطاع غربي, وقطاع يضم أطرافاً كثيرة أخرى غير غربية), أي, إلى جانب الحضارة الغربية, هناك حضارات عدة حددها هو بالتالية: حضارة أمريكا اللاتينية, وإفريقيا, والإسلام, والحضارة الصينية, والهندية, والأرثوذكسية, والبوذية, واليابانية... (لماذا تلك بالذات دون سواها? سؤال لم يجب عنه هنتنغتون بطريقة شافية).

ويستدرك قائلاً: (أن يوافق أتباع هذه الحضارات على بعض أنماط الاستهلاك الشعبي الغربي والاقتصاد الرأسمالي لا يعني أن هؤلاء يحترمون القيم الغربية), فإن ألد المنافسين للرجل الأبيض, في رأي هنتينغتون, هم أتباع الثقافات الآسيوية والإسلامية), ويصف هانتينجتون هذا التحدي الثقافي بأنه (خطير)... يقول: (إننا بصدد دخول حقبة جديدة من الهمجية), سببها المافيا, والحروب, ونفي قيم الغرب (لا يورد كأسباب لها الفقر, ولا افتقار النظام الدولي إلى العدالة الاجتماعية, والتمادي في عدم المساواة الذي يولده النموذج الاقتصادي الغربي الممعن في الليبرالية).

والإسلام يقلق هنتنغتون بوجه خاص, لدى المسلمين, على حد قوله, معدلات نمو سكاني مرتفعة جدا, ويذكر هنتنغتون, كصفات أخرى مميزة لعالم الإسلام في رأيه, (الإرهاب, والأصولية, والهجرة, والتمرد), علاوة على سعي الأنظمة الإسلامية للحصول على أسلحة نووية, هذا كتبه هنتنغتون في عام 1993, وأوحى ما كتبه في هذا الصدد بأن النظرية قد تكون صحيحة, على الأقل في نظر الغرب, وبالذات في ضوء الأحداث الإرهابية التي هزت أمريكا في 11 سبتمبر الماضي, لقد بدا أن هنتينغتون قد تنبأ بهذه الأحداث سلفا, الأمر الذي قد يعطي لنظريته, في نظر غربيين كثيرين, قدرا من المصداقية... (علما بأن نظرية ما من الممكن أن تبدو صحيحة في مرحلة تاريخية معينة, وفي ظل ملابسات معينة, ثم تأتي شواهد على عدم صحتها في تطور لاحق).

حول تعريف الحضارة

الحضارة كلمة هلامية, إنها في تعريف هنتنغتون تتسع لتشمل (اللغة, والتاريخ, والدين, والعادات, والمؤسسات, ومسائل الهوية (كيف يعرّف الإنسان نفسه)), إنها مجموعة عوامل متداخلة ومتفاعلة, يصعب التنبؤ سلفاً بمحصلتها النهائية, ذلك أن الوزن النسبي لمكونات الحضارة يختلف من حضارة إلى أخرى, وبالتالي فإن الحكم على حضارة معينة, عن طريق مقارنتها بأخرى, عملية فيها الكثير من المجازفة.

إن اتخاذ (الحضارة) بدلاً من (القومية) أو من (الدين), كأساس لتقييم مجتمع معين هو تصوّر حديث نسبياً, إنه البديل العلماني لاتخاذ (الدين) أساساً للقياس, كان الدين هو المرجع لدى المؤرخين الأوربيين طوال القرون الوسطى, وحتى القرن الثامن عشر, كانت الأحداث تقاس بإرجاعها إلى ما قبل أو ما بعد ميلاد المسيح, ولم يكن هناك التفات إلى ما يتعلق بأديان وثقافات أخرى, إلا بصفتها أموراً مثيرة للفضول, أو لتيسير مهام المبشرين.

أما عن النظرة القومية, فلقد بدأت مع عصر النهضة في القرن السادس عشر, وقد كان لها مفكّروها, من أكثرهم تميّزاً المفكر الإيطالي نيكولو ماكيافيلي, الذي ركّز دراساته على دور الدولة في المجتمع.

أصبح هناك اهتمام بالثقافات الأخرى ابتداء من عصر التنوير (في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تحديداً) لقد برز اتجاه لمتابعة التطور التاريخي من وجهة نظر علمانية مبنية على مبادئ النقد العقلاني, وهكذا تجاوز المفكر والأديب الفرنسي فولتير (ومعه زميله الفيلسوف والفقيه القانوني مونتسكيو) النظرة إلى التاريخ من وجهة نظر مجتمع بعينه, إلى نظرة تنطلق من تاريخ الجنس البشري ككل, لقد أرادت هذه النظرة ألا تكون مقصورة على تاريخ مجتمع بعينه, غير أنها ظلت مع ذلك مشبعة بثقافة هذا المجتمع.

أما في القرن التاسع عشر, فكانت الحركة الرومانتيكية مدعاة لإبراز ما يميّز كل حضارة على حدة, بدلاً من الانطلاق من افتراض مفكري القرن الثامن عشر أن المجتمعات جميعاً تخضع لنسق واحد, وأن الجنس البشري بالتالي قد تميّز في كل مكان وزمان بتماثل في الصفات والخواص, لقد ركز الفيلسوفان الألمانيان جوهان فون هردير وجورج فيلهيلم فردريك هيجل على الفروق البارزة في فكر وسلوكيات أبناء الحضارات المختلفة, وهكذا أرسيا أسس الدراسة المقارنة للحضارات.

ثم ترتب على اكتشاف آثار للحضارات القديمة الإدراك بأن الحضارة ليست تقدما يجري كخط مستقيم من الماضي إلى المستقبل, وإنما هي عرضة لمنعرجات وانتكاسات, وهكذا أصبح الحديث عن الحضارة, ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر, بصيغة الجمع... سُلم بأن الثقافات والحضارات متعددة, ومع ذلك استمرت الفرضية أن الحضارة, بوجه عام, تتقدم ولو تدريجياً, وتحدث لويس هنري مورجان عن ثلاث مراحل أساسية في تاريخ البشرية: مرحلة الهمجية SAVAGERY, فمرحلة البربرية BARBARISM فمرحلة الحضارة CIVILIZATION.

وقد حرص مؤرخو الحضارات في القرن العشرين على تأكيد أنه من المستحيل كتابة تاريخ متسق للأحداث دون أن يؤخذ بعين الاعتبار السمات الثقافية المميزة لكل مجتمع على حدة, وبهذا المعنى يتعين الاستناد إلى كيان أوسع من (الدولة), أو حتى ربما (الأمة), كأساس لتمييز مجتمع معين, ومن هنا كانت الاستعانة بفكرة (الحضارة) لا (الدولة) كمرجع أساسي, ولكن كيف يتم تعريف الحضارة? أي نهج يجب اتباعه لتكشف ماهيتها?

هل يتعين تبني نهج (تاريخي) لتحديد عتبة معينة من التقدم الاجتماعي والسياسي والديني... إلخ, للقول بأن مرحلة الحضارة قد حلت? أم يتعين انتهاج نهج (الدراسة المقارنة) التي تنطوي على تحليل المكونات المختلفة المشكلة للحضارات? ما المعايير التي يتعين الاستناد إليها لتقرير هل وصل مجتمع معين إلى مرحلة الحضارة? استقر رأي الخبراء على أن أفضل سبل التعريف هو إعمال النهجين معا: (التاريخي) و (المقارن), وحسب العلامة الفرنسي فرنان بروديل, فإن فكرة الحضارة تنطوي على معنيين, إنها تفترض تحقيق مستوى (أخلاقي) معين, وأيضاً إنجازات (مادية) معينة, وقد عرّف العالم البريطاني إدوارد برنيت تيلور الحضارة في كتابه (الحضارة البدائية) (1871) بأنها تشمل (المعارف والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعادات وكل المؤهلات الأخرى التي تمكن الإنسان من أن يكون عضوا في مجتمع معين) الحضارات إذن ظواهر معقدة, تضم مختلف أوجه النشاط الاجتماعي: وسائل الإنتاج, العقائد الدينية, المؤسسات السياسية, الضوابط الأخلاقية, ومما يميز كل مجتمع هو كيفية ترابط وتمفصل هذه العوامل بعضها بالبعض الآخر.

إن بعض الخبراء لا يميّزون بين الحضارة والثقافة, وإن كان أغلبهم ينسبون إلى الثقافة الجوانب الفكرية, وإلى الحضارة الجوانب المادية.. يقولون, مثلا, (الحضارة اليونانية) بينما يقولون (الحضارة الصناعية) وبوجه عام, ينظر إلى الحضارة على أنها أكثر شمولاً من الثقافة.

إن بعض الخبراء الآخرين لا يميّزون بين الحضارة والدين, كانت الحروب الصليبية, في نظر هؤلاء, صراعات دينية وصراعات حضارية في آن واحد, غير أن النضال من أجل الدين, وتحديداً الاستيلاء على بيت المقدس, وقد بديا وقتذاك المحرك وراء هذه الحروب, قد اتخذا تكأة لحروب حركتها في الحقيقة دوافع أخرى غير معلنة, أهمها الحيلولة دون تعرض طرق التوابل الوافدة من الشرق الأقصى للانقطاع, فلقد كانت التوابل سلعة أساسية لحفظها الأطعمة من التعفّن قبل اكتشاف (الثلاجة الكهربائية العصرية)!....

وقد توحي عوامل عدة: نظرية هنتنغتون, فاكتساب الصراع العربي - الصهيوني صفة دينية بكيفية متعاظمة, فملاحقة أمريكا لأسامة بن لادن عقب عمليات 11 سبتمبر الإرهابية ضد نيويورك وواشنطن, بأن الاقتتال باسم الدين قد تجدد من جديد, فهل في ذلك ما يعزز التطابق بين الحضارة والدين, أم ما ينفيه?

الحقيقة أن عوامل كثيرة ذات تأثير في تقرير ما يندرج تحت باب (الحضارة) مع إكسابها صفات تميّزها عن الثقافة والدين, هناك مؤثرات الطقس, ومدى توافر المياه, ونوعية الموارد الطبيعية, هناك كثرة أو ندرة الأيدي العاملة, هناك صور تنظيم العمل الجماعي, ونوعية الآلات والتقنيات المستخدمة.

ثم هناك اللغة وتأثيرها في تحقيق تماسك الحضارات, وبوسع الحضارات المتقدمة أن تجمع حضارات تتحدث بلغات مختلفة, حالة الاتحاد الأوربي مثلاً, هل, أخذ بهذه التجربة, من المتصور مستقبلاً ظهور (حضارة عالمية)?... هل ظاهرة (العولمة) هي تعبير عن خطوة أولى في هذا الاتجاه? ثمة مفكرون يسلمون, شأن المفكر المصري محمود أمين العالم مثلا, بأننا بصدد التوجه صوب (حضارة عالمية واحدة), مع بقاء العالم منقسماً إلى (ثقافات متعددة), هل صح هذا التوجه?

صدام الحضارات

نظرية (صدام الحضارات) تفترض أن الحضارات تتصادم بالضرورة, الأمر الذي يتعارض مع توجهها نحو (حضارة عالمية واحدة), إلا إذا قضت حضارة بعينها على كل الحضارات الأخرى, وأصبحت هي وحدها القائمة على سطح كوكبنا... أي نجحت, دون منازع, في فرض هيمنتها عالمياً, وهذا يتعذر تصوّره دون وقوع كوارث لا يمكن أن تمت إلى (الحضارة) بصلة!...

والحقيقة أن النظرية تنطوي على أوجه تناقض وعدم اتساق متعددة, جدير بنا تأملها بشيء من الإمعان:

إنها تقوم, أولاً, على إحلال فكرة (الحضارة) محل فكرة (الدولة) كمرجعية أساسية, وهذا معناه إحلال مرجع هلامي, غير محدد المعالم, لا يمكن قياسه بدقة, وليس من السهل تفكيكه إلى مكوناته الأصلية, محل مرجع الدولة, المحدد المعالم, والمتسم بخواص تقبل القياس بدقة.

ثم إنها تعني, ثانياً, إضفاء صفتي الثبات والدوام على ظواهر هي أقرب إلى الظواهر الانتقالية, ذلك أنه لو كانت فكرة صدام الحضارات هي الأصل, كان ينبغي لها أن تسود في كل العصور, وليس في عصر غير عصر آخر, وثمة عيب منهجي في افتراض أننا بصدد (صدام الحضارات), واعتبار أن الظاهرة مستقرة في مرحلة تاريخية معينة دون مراحل تاريخية أخرى, إننا إذن بصدد خلل بنيوي يمس النظرية ذاتها.

ثم هناك, ثالثاً, تناقض في افتراض رفض التفاعل بين الحضارات في عصر يوصف بعصر (العولمة), ذلك أن عصر (العولمة) هو في الأساس عصر التفاعلات على نطاق الكوكب كله, بل عصر التخلي عن فكرة (السيادة المطلقة) لكل دولة على حدة, عصر الحديث عن (حق) - وربما أيضاً عن (واجب) - التدخل (الإنساني) في حالات ارتكاب (جرائم حرب), أو (جرائم ضد الإنسانية) تمس (حقوق الإنسان/المواطن) في الصميم, كيف الجمع بين ذلك وبين رفض التفاعلات بين المجتمعات بدعوى صدام الحضارات?

إنها - باختصار - نظرية تعني محاولة التعلق بثوابت لصعوبة ملاحقة التغيير السريع الذي بات يتجاوز القدرة - نفسياً وسيكولوجياً - على الملاحقة.

ثم تقوم النظرية, رابعا, على إهمال الاقتصاد بصفته (المحرك الرئيسي للتاريخ)... (هل من الممكن إغفال التوابل عند الحديث عن الحروب الصليبية, والنفط عند الحديث عن حرب أفغانستان المجاورة لنفط بحر قزوين?), إن النظرية تغلب العوامل (العلوية) (اعتبارات الثقافة والفكر والقانون والدين والحالة النفسية...) على العوامل التحتية (الاقتصاد, الواقع الاجتماعي, والسياسي المعيش...) في تقرير مجريات الأحداث.

ثم إنها, خامساً, نظرية تقوم على قدر لا يستهان به من اللاعقلانية, واللاشفافية, واللاديمقراطية, ذلك أن الحضارات تقوم على عناصر كلية, المفترض فيها أنها منفصلة, ولو بصفة نسبية, بعضها عن البعض الآخر, وأن التفاعلات بينها أقل بكثير من التفاعلات داخلها, إنها بالتالي نظرية تقوم على تمييز قطاعات البشر حسب اختلافاتهم الحضارية, الأمر الذي قد يسفر في بعض الأحوال عن نوع من التمييز العنصري.

إنها, سادساً, وبهذه الصفة, نظرية رجعية, تفترض العودة بنا إلى حتمية المواجهة العدائية, إلى الهمجية, إلى زوال القوانين التاريخية, إلى الفوضى, إنها نظرية تقوم على التمادي في اتجاه عكسي لاتجاه (الجبرية التاريخية), وربما كرد فعل لشيوعها في مرحلة القطبية الثنائية السابقة.

إنها, في النهاية, على حد قول البعض, نتاج تغيرات سياسية وبنيوية في النظام الدولي القائم ذاته, وجدت تعبيرها الأبرز في اتفاقات دايتون والبوسنة, وبشأن كوسوفو ومقدونيا, أي من خلال تعميم التجارب التي كانت البلقان مسرحاً لها في السنوات الأخيرة, إنها ترسيخ لنهوض أمريكا بدور الدولة المقررة لمجريات الأمور عالميا, بدور الشرطي العالمي, بل إنها نظرية محبطة تعني استحالة حل الصراع العربي - الإسرائيلي, نظرية تبرر استمرار الحرب إلى غير أجل, وضرورة أن تسلم الأطراف العربية باستحالة مناهضة إسرائيل في النهاية.

بل جاز لنا القول بأن نظرية صدام الحضارات وثيقة الارتباط بمرحلة تصاعد الإرهاب, وهيمنته على الوضع الدولي, والقول باستمرار القطبية الثنائية في صورة مستحدثة, لا في صورة مواجهة بين الشيوعية والرأسمالية, بين الشرق والغرب, بل بمواجهة بين قطبين أحدهما في إطار (شرعية) النظام تتزعمه أمريكا, وقطب (إرهابي) خارج (شرعية) النظام تتهم أمريكا بن لادن بتزعّمه.

إن الحديث عن صدام الحضارات كأساس, إنما يعني استمرار مرحلة تعاظم شأن الإرهاب إلى غير حد, وهذا بطبيعة الحال غير ممكن وغير صحيح, إن نظرية صدام الحضارات نظرية تبرر وجوب استمرار الإرهاب وظهوره بمظهر الظاهرة الأكثر أهمية على الساحة الدولية, والحقيقة أننا بصدد فريقين في هذا الصدد: فريق بن لادن من جانب الذي يدعي أنه يخوض جهاداً باسم الإسلام, جهاداً لا يتميـز عن الإرهـاب, بل ينطلـق من أن الإرهـاب لا يتعارض مع الجهاد, وفي مواجهة ذلك الفكر المحافظ الغربي الذي ينطلق من أن الإرهاب وثيق الارتباط بالإسلام, وبالتالي فإن الصدام لا مفرّ منه وحتميّ.

حوار الحضارات

أما نحن, فلا نسلم بهذه الحتميات, ولا نسلم - كما يدّعي الفريق المحافظ في الغرب - بأن الإرهاب ذو ارتباط عضوي بالإسلام, بل إن المستقبل لحوار الحضارات, لا لصدام الحضارات, ولا لحتمية استمرار المواجهة بينها, وهذا نؤسسه على ما يلي:

يتميز عالمنا المعاصر بأنه مشكّل من قوى على طرفي نقيض, منها ما يسهم بدور في اتجاه التفاعل والتواصل والتداخل بين الحضارات, ومنها ما يسهم بدور في اتجاه التنافر والتصارع والتضاد بينها, إن الأولى تنهض بدور في طمس الصراعات, والثانية في تأجيجها, والمحصلة النهائية لهذه القوى المتفاعلة أو المتصادمة هي التي تقرر مجريات الأحداث.وثمة أمثلة عن المجموعة الأولى من القوى, وثمة أمثلة عن الثانية.

إن ثورة المعلوماتية على سبيل المثال, أي إنجازات التكنولوجيا في مجال الإلكترونيات (الراديو - التلفزيون - الفاكس - الأقمار الاصطناعية - الموديم - التليفون المحمول - إلخ...) قد أفضت إلى إسقاط الحواجز بين الناس, وإلى الإحساس باختزال المسافات, بل بإلغائها تماماً في أحوال كثيرة, هذا نموذج واضح لدور التكنولوجيا العصرية في التقريب بين البشر.

وربما نهض بأثر مماثل ما جرى خلال مرحلة الحرب الباردة من إنجازات في مجال مختلف نوعياً, هو مجال أسلحة الدمار الشامل, مجال تكنولوجيا التدمير لا تكنولوجيا البناء والتعمير وتوطيد الاتصالات, لقد أوجد سباق التسلح ما عرف بــ(معادلة الرعب النووي) الأمر الذي ألزم الكتلتين الغربية والشرقية, رغم عدائهما, بالسعي إلى استراتيجيات تعايش, تحاشياً للإفناء المتبادل, هذا إنجاز تكنولوجي آخر كان له أثره في الحيلولة دون وقوع صدام, أكثر - ربما - مما كان له أثر في تشجيع الصدام, وبوجه عام جاز القول بأن قوة التكنولوجيا في إحداث أوجه تقارب, كثيراً ما بات أقوى من قوى اليأس في إحداث تفرقة, مجرد بروز ظاهرة (العولمة) بإنجازاتها الكثيرة في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد (بروز الشركات المتعدية الجنسية مثلا, ذات دور في توطيد أركان (العولمة) يفوق قدرات العديد من الدول), وحتى في مجال التسلح, هي تعبير عن بلوغ أوجه التواصل بين البشر حدا تجاوز في أحوال كثيرة عوامل التفرقة والتضاد.

تلك عوامل بات لها دور في تحريك أوجه التقارب, غير أن هناك أيضاً عوامل لها دور في تنشيط أوجه التفرقة والتصارع, منها, على سبيل المثال, أن مواجهة الشيوعية في عصر القطبية الثنائية قد طمست الخلافات بين العالمين الإسلامي والمسيحي - اليهودي, ثم عادت هذه الخلافات لتحتل مقدمة المسرح مع انزواء شبح الشيوعية, هكذا أسفر الصراع العربي - الإسرائيلي عن حقيقة لم تكن في الحسبان, وهي أنه أكثر صموداً في وجه بلوغ تسوية من الصراع بين الشيوعية والرأسمالية! وأنه كفيل باستعادة بعد ديني (المواجهة بين الإسلام واليهودية), أخذ يزاحم بعده السياسي - الأيديولوجي - العلماني (المواجهة بين القومية العربية والصهيونية).

إن ما جرى في أفغانستان نموذج ناطق للعملية برمتها, لقد استعان الغرب بالإسلام الراديكالي ضد السوفييت, ثم تفجّر الإسلام الراديكالي في وجه الغرب.

إن (صدام الحضارات) هو تعبير عن أن عوامل التنافر أقوى من عوامل التقارب والتكامل... و (حوار الحضارات) هو تعبير عن تغلب عناصر التواصل والتكامل على عوامل التنافر والتضاد, إننا, في التحليل الأخير, بصدد قطب (إرهابي) في مواجهة قطب (العولمة), قطب يرمز للعصيان على النظام الدولي القائم في مواجهة قطب - بزعامة أمريكا - ينسب لنفسه فضل إكساب هذا النظام (شرعيته).

وفي الدوائر التي يسود فيها منطق رفض النظام ومحاربته, بلغ اليأس حد المراهنة على لعبة الإفناء والموت, لعبة العمليات الانتحارية - الاستشهادية, بدلاً من لعبة الحياة, إن لسان حال الإرهاب هو: (قدري هو أن أموت جوعاً أو اضطهاداً أو إهمالاً أو تهميشاً, رغم أنني لم أرتكب جرماً, ولذلك فإن سلاحي الأكثر مضاء, سلاحي الذي يكسبني زخماً, هو تعريض أبرياء مثلي لمصيري!), إن تعاظم شأن الإرهاب إنما يعني بلوغ الاقتتال حد عدم الالتزام بقواعد التآخي الإنساني بين البشر, حد عدم الاعتراف بحق الآخر حتى في الوجود الجسدي, وعودتنا إلى مراحل الهمجية والبربرية السابقة على الحضارة.

المراهنة على الحياة

وأصبح السؤال الكبير هو: كيف تكون عوامل التواصل والتكامل أقوى من عوامل التنافر, بل وتردي هذه الأخيرة إلى حد بلوغ عتبة اليأس, وعتبة الإرهاب, والرجوع بالبشرية إلى الهمجية? كيف يتغلب الحوار الحضاري على الصدام والفوضى? كيف يشعر أهل كوكبنا جميعاً بأنه قد توافر لهم جميعاً قدر من العدالة وتكافؤ الفرص, يغني عن الحاجة إلى المراهنة على لعبة الموت والإفناء?

لقد أثبتت أحداث 11 سبتمبر في أمريكا أن موازين القوى الظاهرة كانت مغلوطة, وأن ما أمكن تكشفه من خلال (مشروعية) النظام لم يكن إلا جزءاً من الصورة, إن الصراع المكشوف ممتد في حقيقته إلى صراع خفي يجري خوضه خارج نطاق (مشروعية) النظام, وهو الصراع المنسوب إلى الإرهاب, والإرهاب المضاد من قبل الدولة ضد الإرهاب.

وكخطوط عريضة للإجابة عن السؤال, أطرح العناوين البارزة التالية:

- وقف الحرب, والحيلولة دون زيادة انتشارها, واستخدام التفوق التكنولوجي في مختلف جوانبه, قبل الردع العسكري, سلاحاً رئيسياً في إبطال مفعول الأعمال الإرهابية.

- إصلاح النظام الدولي لإجهاض مبررات اللجوء إلى الإرهاب, ويتطلب ذلك حلا عادلاً لمشاكل عويصة كشفت عن أوجه غبن صارخة, على رأسها القضية الفلسطينية, لقد نجح بن لادن في اختطاف القضية الفلسطينية, أو على الأقل, في الظهور بمظهر من يحرص عليها أكثر من أي طرف دولي آخر داخل إطار (شرعية) النظام, وليس مهما في هذا الصدد أن تعلم القيادات والنخب أن تأييده للقضية الفلسطينية هو لعلمه بأن أمريكا وإسرائيل لا تستطيعان تسوية هذه القضية الفلسطينية, وليس لأنه هو ذاته حريص على تسويتها, بل ربما كان العكس هو الصحيح, إلا أن العملية هي في حقيقتها ابتزاز, هي استغلال نقاط ضعف أصيل في النظام الدولي القائم, ولن يكشف بن لادن في هذا الصدد إلا بعمل حاسم في خدمة هذه القضية, وقد أصبح النظام الدولي مواجهاً بتحد, هو إثبات قدرته على إفساد صور الابتزاز التي لا يتردد الإرهاب في اللجوء إليها.

- نقل كل مكونات الصراع إلى العلنية والشفافية والديمقراطية, وإتاحة فرصة المشاركة في صنع القرار للجميع.

- دعم هيئة الأمم المتحدة بهيئة للمنظمات غير الحكومية, تمثل وجهات نظر المجتمع المدني في القضايا الكبرى المصيرية, لا هيئات المجتمع العالمي ومؤسساته الرسمية فقط, سواء قصد بذلك المؤتمرات الدولية, أو النوعية, أو الإقليمية.

 

محمد سيد أحمد