شاعر يحاور الطبيعة

شاعر يحاور الطبيعة

جالس على صخرة أتمتع بالنظر إلى الأمواج. تركض عيناي وراءها. تأتي من بعيد. تتكسّر على الصخور وتبعثر رذاذها في الأجواء. تحاول الصعود إلى السحاب التي ملأت السماء وغطّتها ببياض ناصع ذكّرتني بها. كانت بيضاء كالياسمين.. عطرة كعطر جسدها. تذكّرتها وأنا أركض وراء الأمواج التي أخذتني إلى البعيد، إلى الأيام التي كان الحب يزيّنها. هل كان حبًا أو عشقًا . اسأل نفسي ومن لي لأسأله غير نفسي. أحاور الأمواج والسحاب وأغاني البحر. ألوّن أحلامي بزرقته.. هل كان حبًا؟ أتساءل عن الشعور الذي جعلني أعود إلى ذكريات أنا بعيد عنها. بعيد عن كل شيء. فوق رأسي طيور تحوم حولي. عادت ذكراها الآن. كيف أذكرها ولا أزداد بهجة وشوقًا إليها. حديقة «اللكسمبورغ» في قلب باريس وفي قلب العاشقين، تحت تمثال «فينوس» لم نختر المكان.. هي الصدفة.. كأن التمثال ينادي العاشقين.. هي الأمواج، أتيت لأحاورها، الماضي تغلّب على الحاضر، الحاضر الذي يعيش الماضي ولا يحمل سوى ذكرياته.. هل هي السنوات التي تخلق الذكريات؟.. النهار يمتزج لونه بألوان الليل، فيخلق لونًا لا اسم له، تلك الأيام، الألوان لم تكن تحمل اسمًا.. وهل الإحساس له لون أو نغم؟.. أسأل «موزارت» كيف استطاعت ألحانه أن تعبّر عن العاطفة والحب، اسأل «بتهوفن» الذي جعلته موسيقاه أصم وكيف ألّف أجمل موسيقى تحكي عن الصداقة والحب بمرافقة شعر صديقه الشاعر «شيلر» وأذناه في صمم؟ وهل تعلم الطيور لمَ تزقزق وتنشد.. اسأل وهل لكل سؤال جواب؟

***

يا أيتها الأمواج هل تحملين لي قبلات من الماضي؟ من شواطئ بعيدة من إسبانيا، من شواطئها والأندلس.. من باريس ومرسيليا، اسم يذكّرني بشاطئ عين المريسة حيث أنا الآن أراقب الأمواج الحاملة معها قُبل الشواطئ.

***

كان وجهها كالقمر في عزّ لياليه.. محاط بسواد الليل شعرها، عطرها من عطر ياسمين حدائق «غرناطة».. ذكراها لن تفارقني.. هي الأمواج التي أتت لي بها. كل موجة ترتمي على صخرتي تقول لي شيئًا.. ماذا تقول الأمواج، الطبيعة أنا، والشجر والصخر والطيور والزهور، ماذا تقول الطبيعة. وما سرّ صمتها؟ وهل أجمل من الصمت المعبّر عن الجمال، ثم أعود أراني أتساءل ماذا تقول الطبيعة؟ هل الطيور تنطق بلسانها بكلماتها بهمساتها، وحفيف أوراق الشجر، وأمواج البحر تأتي وترتمي بين أحضان الشاطئ، ماذا تقول له، تعود وتبتعد ثم تعود وتأتي هامسة للرمال والصخر ويعلو رذاذها، مالئة الأجواء بنقط منها تلتصق بالسّحاب وتلتحم بها. أغمض عينيّ لأرى البحر، لأرى الأزرق والأخضر وبياض الأمواج، ولأسمع نشيدها الأبدي، ولكن... ولكن.. هل أنا على الصخرة وحيدًا؟ أتيت إليها والذكريات ترافق وحدتي المحاطة بمن أحببت وأحبّ.. أبعد عن حالي لأجد نفسي وقصص الماضي.. هل أعيش اليوم.. أم أن الماضي هو الذي يحيا بأيّامه الغابرة السعيدة.

***

أنا أعلم أن الأمواج لا تتكلم، والعصافير لها لغتها، الطبيعة وصخورها وجبالها وأشجارها وينابيعها وكل ما فيها، تتحاور مع بعضها.

أنا لست سوى مخلوق، كالشجرة والطير والزهرة، لم أعد أؤمن بأني اخترت لأن أكون أفضل المخلوقات، أصبحت أتقرّب من الحيوان رفيقًا لي، أدوس على الأرض متمهّلاً لئلا أزعج الأزهار، هي تتنفس كالأشجار، هي مخلوقة مثلي، الزهرة لم تختر أن تكون زهرة أو شجرة، وأنا مثلها، خُلقنا هكذا، الرابط بيننا هو الحب، حب الحياة التي أُرسلنا إليها، والحب يخلق من الإنسان شاعرًا فنانًا، غذاؤه روعة الموسيقى وجمال الألوان البهيّة، هي الحياة، أعطيت لنا، وهي أقدس عطية.
------------------------------
* فنان تشكيلي وناقد من لبنان.

 

أمين الباشا