ثروة من الألحان الأصيلة

ثروة من الألحان الأصيلة

لقد تحول هذا المارد الموسيقي إلى تراث وهو حي يرزق، وساهم مساهمة عملاقة في نهضة الموسيقى العربية بعد الشيخ سيد درويش في جميع القوالب والأشكال الغنائية والموسيقية. فقد لحن في المسرح الغنائي، ولحن القصيدة والطقطوقة والنشيد والمونولوج والأغنية الوطنية والدينية والصوفية والمعزوفات، وارتبط اسمه بشمس الغناء العربي أم كلثوم، كأهم ملحن لها، وقد غنت له مائة وسبع أغنيات من أصل 629 أغنية لحّنها.

ولإلقاء الضوء على أهمية هذا الفنان العملاق، ودوره في تطوير الموسيقى العربية المعاصرة في القرن العشرين، سنعرض في هذا المبحث القوالب والأشكال الموسيقية الغنائية،التي عمل فيها رياض السنباطي على قرابة نصف قرن من الزمان.

وُلد رياض محمد السنباطي في 30 نوفمبر 1906 في بلدة فارسكور - الدقهلية للمغني والملحن محمد السنباطي بعد ثماني بنات. وانتقلت العائلة بعد مولد «محمد رياض» إلى مدينة المنصورة. وتفتحت أذنا الولد رياض على صوت والده وهو يغني على عوده الأدوار والموشحات المعروفة في ذلك الوقت، كما كان يلازم والده في أثناء تدريبه للمطربين على ألحانه. والتحق رياض بكُتّاب الشيخ علي مرسي الموافي في المنصورة ليحفظ القرآن الكريم، ولكنه كان يتخلّف عن الذهاب إلى الكُتّاب ليذهب إلى محل لصناعة الآلات الموسيقية قرب الكُتّاب مستمعًا إلى صاحب المحل وهو يغني. واكتشف السنباطي الأب موهبة ابنه الصغير عندما سمعه يردد إحدى أغنياته، وبدأ يعلمه الموشحات والأدوار، ثم سلّمه إلى أحد مدرّسي الموسيقى في المنصورة الأستاذ محمد شعبان ليعلّمه أصول العزف على العود.

وعندما اشتد عود الفتى رياض عزفًا وغناءً أخذ الوالد يصحبه إلى ليالي الطرب، التي كان يحييها، وكان يغني معه الأدوار والموشحات حتى اشتهر وذاع صيته، ولقّب بـ«بلبل المنصورة».

وذات يوم من سنة 1922 وعلى محطة درين، وعقب إحياء إحدى الحفلات، التقى الأب وابنه بالشيخ إبراهيم البلتاجي وابنته أم كلثوم العائدين من إحياء حفلة. وكان هذا أول لقاء لاثنين قدّر لهما لاحقًا أن يغيرا مجرى الغناء العربي.

وعندما زار الشيخ سيد درويش المنصورة سنة 1922 (سنة واحدة قبل وفاته) استمع إلى رياض وهو يغني دوره «ضيعت مستقبل حياتي»، فأعجب به وعرض على الأب أن يتبنى ابنه فنيًا.ولكن حاجة الأب لابنه في إحياء الحفلات، جعلته يرفض هذا الطلب من مؤسس الموسيقى العربية المعاصرة سيد درويش.

وفي 1928 انتقل رياض السنباطي إلى القاهرة، وأقام في بيت عمه أحمد السنباطي المغني وعازف العود وقدمه للالتحاق بالمعهد الموسيقي كطالب، ولكن وبعد ما سمعت للجنة الفاحصة عزفه على العود، عينته أستاذًا لمادة العزف لمهارته فيه. وهكذا بدأت الرحلة الفنية لواحد من أعظم من أنجبتهم الأمة العربية في فن التلحين والغناء والعزف على العود.

قوالب موسيقية

وسوف نستعرض الآن القوالب الموسيقية، التي سكب فيها رياض السنباطي عبقريته اللحنية.

1 - الطقطوقة: من الشائع إطلاق اسم «طقطوقة» على أي أغنية سخيفة خفيفة بلا مضامين موسيقية أو شعرية. ولكن هذا المفهوم خاطئ جدًا، فالطقطوقة هو اسم يطلق على قالب من أهم القوالب الغنائية في تاريخ الموسيقى العربية. اتخذت الطقطوقة هذه الأهمية من الحرية الإبداعية الفنية، التي يعطيها شكلها للملحن داخل المقاطع، التي يتخللها المذهب. وبهذا يعتبر هذا القالب المرادف العربي الموسيقي لقالب «الروندو» في الموسيقى الأوربية الكلاسيكية. وقد أعطى رياض السنباطي في هذا القالب اتجاهات متعددة جدًا، إذ نرى الطابع الشعبي والعودة إلى شكل الطقطوقة البدائي في أغنية «على بلد المحبوب»، حيث قالب الطقطوقة في بداية تكوينه: المذهب والأغصان (المقاطع) على اللحن نفسه. واستعمال قالب الطقطوقة على هذا الشكل مقصود ومتعمّد هنا، وذلك للتقرب من أسلوب التلحين الشعبي البسيط البعيد كل البعد عن أي تعقيد في البناء الموسيقي، حتى أنك لتشم رائحة طمي النيل صادرة من هذا اللحن وإيقاعه الفلاحي. أما طقطوقة «مين يشتري الورد مني» التي غنتها ليلى مراد في فيلم «ليلى»، فهي تنضح بالشفافية والبهجة والرشاقة والنضارة وحب الحياة، إن كان في عزف الأوركسترا أو اللحن، أم في غناء المطربة، وهي من أنضر ما لحّن رياض السنباطي. أما طقطوقة - تانجو الحبيب، التي غنتها ليلى مراد في الفيلم نفسه، فيصل اللحن فيها إلى أبعاد درامية مأساوية نادرة، ويصل التفكير الموسيقي فيها إلى قلب الجدلية الفكرية الموسيقية: فقد يرى البعض تناقضًا بين المضمون الدرامي المأساوي والإيقاع الراقص الذي يرد على إيقاع التانجو. ولكن لو تمعّنا في السياق الدرامي الذي ترد فيه الأغنية في فيلم «ليلى» المقتبس من مسرحية «غادة الكاميليا» لألكسندر ديما الابن «العمل الأدبي الوحيد الذي اشتهر به»، لرأينا أن لا تناقض بين هذين العنصرين، بل إنهما يكملان بعضهما بعضًا بطريقة جدلية فريدة: فالتانجو هو تصوير للحياة السابقة لليلى، وهي حياة الليل لغانية كانت تعيش عالة على هدايا عشاقها ومحبّيها.

أما الجو المأساوي، فجاء بعد قرارها ترك حبيبها ابن الباشا الذي أحبها، وقرر انتشالها من حياة الليل والمرض، ولكنها رفضته بعدما جاء والده يرجوها أن تتركه إنقاذًا لسمعة العائلة، فتستسلم ليلى يائسة لحياتها السابقة حاكمة بذلك على نفسها بالموت البطيء. أما السعادة والبهجة، فنجدها في أغنية «ليلى جميلة يا محلاها - اللي في قلبه حاجة يسألني - وفالس احنا الاثنين، ويارب تم الهنا «ليلى مراد»، وياريت كل الناس فرحانة - ويا أوتومومبيل «نور الهدى» وفاضل يومين التي غناها السنباطي نفسه في فيلم «حبيب قلبي»». وقد تكون أعظم هذه الطقاطيق طقطوقة «على عودي» التي يرتقي فيها التفكير في التأليف الموسيقي إلى مستوى القصيدة والمونولوج.

فن السرد الموسيقي

2 - المونولوج: وهو فن السرد الموسيقي الذي لا يسمح بتكرار جمل موسيقية سبق استعمالها، ويمتاز أيضًا بالأبعاد الموسيقية الكبيرة، وكان هذا الفن نتيجة تأثر الموسيقى العربية بوجود دار الأوبرا المصرية في القاهرة «تأسست سنة 1869»، وتأثيرها في الملحنين الشباب آنذاك «سيد درويش - محمد القصبجي - محمد عبدالوهاب»، ولم يفلت من تأثيرها إلا زكريا أحمد. إن وجود هذا الصرح الموسيقي العظيم في القاهرة لم يكن ليمر مرور الكرام على تطور ومسار الموسيقى العربية في مصر. فقد برز هذا التأثر واضحًا في التفاعل بين الموسيقى العربية وممثليها الشباب مع الموسيقى الأوبرالية «خاصة الإيطالية» الذي أدى إلى ظهور قالب المونولوج المستلهم من قالب الأريا الأوبرالي. وترجع بداية هذا الفن في تاريخ الموسيقى العربية إلى مونولوج «إن كنت أسامح وأنسى الأسيّة «ألحان محمد القصبجي» - غنته أم كلثوم سنة 1928» كأول مونولوج متكامل العناصر من سرد موسيقي إلى أبعاد موسيقية جديدة ومضمون جديد. ولكن مثل هذا العمل المتكامل لا يمكن أن يأتي بهذا الشكل فجأة ومن دون إرهاصات سبقته. فقد سبقه محاولات كثيرة لغير القصبجي أدت بهذا القالب إلى الكمال الفني في الشكل والمضمون الذي نجده في «إن كنت أسامح»، ومنها: «والله تستاهل يا قلبي» لسيد درويش 1920 وهو أول محاولة في بناء المونولوج، ومجموعة ألحان لمحمد عبدالوهاب، نذكر منها «كثير يا قلبي 1927»، «اللي يحب الجمال 1927»، «بالله يا ليل تجينا 1928»، «الليل يطوّل علي 1927». ولقد بدأ السنباطي بتلحين المونولوج على خطى القصبجي، وهذا لا يضيره إطلاقًا لأنه كملحن جديد في هذا الفن، لم يقلد ملحنًا عابرًا، بل سار على خطى أعظم ملحن في هذا المضمار، وواحد من أعظم المجددين في الموسيقى العربية. وكونه استطاع أن يصل إلى هذا المستوى من الكمال الفني في أول مونولوج يلحنه، فهذا يعني أنه استطاع بكل جدارة أن يرتفع إلى مستوى العملاق القصبجي. وقد اعترف السنباطي بهذا التأثر، كما اعترف يوهان برامز بتأثره ببيتهوفن في تأليفه للسيمفونيات، حتى أن النقاد الموسيقيين الغربيين يسمّون سيمفونيته الأولى: السيمفونية العاشرة لبيتهوفن (علما بأن هذا الأخير قد ألف تسع سيمفونيات فقط).

النبض الداخلي

3 - القصيدة: انطلاقاً من أن معرفتنا بموسيقى الأعمال الغنائية التراثية الموغلة في القدم، قد بدأت في بداية عصر الأسطوانة في مصر 1903، فإننا نستطيع القول بأن القصيدة بدأت في العصر الحديث مع قصيدة عبده الحامولي (توفي سنة 1901) «أراك عصي الدمع»، التي ظل المؤرخون يعتبرونها لأبي العلا محمد، لكونه هو الذي لقنها لأم كلثوم، حتى أن أم كلثوم ظلت تظنها من ألحان أبي العلا محمد إلى أن أقنعها المؤرخ محمود كامل بواسطة أسطوانة - كوب من القرن التاسع عشر، بأنها لعبده الحامولي، إذ ظهر في التسجيل صوت أحدهم يصرخ: هالله هالله يا سي عبده. ومن أهم مَن لحّن وغنى القصائد في بداية القرن العشرين الشيخ سلامة حجازي (1861 - 1917)، وكان العنصر الأساسي في قصائده الطابع المرسل للغناء من دون آلات إيقاع، والمتأثر جدًا بالتجويد القرآني «وهو الشيخ الذي بدأ حياته بإنشاد الأذكار الصوفية». بعده جاء الشيخ أبو العلا محمد، واستعمل الإيقاع مدخلا بذلك الهيكل العظمي على جسم القصيدة. فقد أعطى الإيقاع «الوحدة الكبيرة» القصيدة نبضها الداخلي الذي ارتبط مع وقع الكلمة والبحر الشعري في القصيدة. واستلم محمد عبدالوهاب الراية من أبي العلا محمد بتلحينه ابتداء من 1927 «سنة وفاة أبي العلا» لغاية 1933، اثنتي عشرة قصيدة جاءت كلها على منوال أبي العلا. ثم كسر عبدالوهاب هذا المنوال سنة 1935 بقصيدة «أعجبت بي» لمهيار الديلمي، وبدأ بذلك التطوير الكبير للقصيدة الذي ألغى فيه استفراد الوحدة الكبيرة بالإيقاع كإيقاع وحيد من أول القصيدة لآخرها، وأدخل الغناء المرسل ثانية في غناء القصيدة مركبًا بذلك أسلوب أبي العلا محمد (الموقع) على أسلوب سلامة حجازي (المرسل).

وجاء السنباطي بأول قصائده «كيف مرت على هواك القلوب» «أحمد رامي - موسم 1936» حسب «سلسلة بريزم للموسيقى - التاريخ الفني للموسيقار رياض السنباطي»، وبهذا وإن صحت نسبة القصيدة لسنة 1936، تبدأ في هذه السنة رحلة السنباطي مع القصيدة، التي احتلت حيّزًا كبيرًا من تراثه: فمن أصل 629 أغنية لحنها السنباطي نحصي «حسب سلسلة بريزم» مائتين وخمس قصائد، أي أن حوالي ثلث تراثه الغنائي لحنه السنباطي بقالب القصيدة. وأهم طابع في قصائد السنباطي هو تقارب نسبة التلحين الموقّع «مع إيقاع» إلى التلحين المرسل «من غير إيقاع القريب من الموال والتجويد القرآني»، مستعملاً بذلك الأسلوب التركيبي بين أسلوب أبي العلا محمد وسلامة حجازي الذي ابتكره محمد عبدالوهاب في «أعجبت بي».

وقد عرفت قصيدة السنباطي كل الاتجاهات اللحنية. فإذا صنّفناها نجدها كالتالي:

أ- القصيدة الدينية الصوفية: «نهج البردة - أحمد شوقي - 1946»، «سلوا قلبي - أحمد شوقي - 1946»، «حديث الروح - محمد إقبال - 1967»، «أقبل الليل - عاطفية صوفية - أحمد رامي - 1969»، «سلوا كئوس الطلا - عاطفية صوفية - أحمد شوقي - 1949». ولعل أعظم قصائد السنباطي على الإطلاق رائعته العاطفية الصوفية الفلسفية «رباعيات الخيام - أحمد رامي - 1949»، التي وصل فيها السنباطي إلى أعماق فلسفية إنسانية صوفية تأملية ووجدانية ما يجعلها من أعظم إنجازات الحضارة العربية المعاصرة. ويجب ألا ننسى صوفياته الرائعة في «رابعة العدوية»: على عيني بكت عيني - يا صحبة الراح - عرفت الهوى «طاهر أبو فاشا - 1955» وغيرها وغيرها.

ب - القصيدة العاطفية: قصة الأمس «أنا لن أعود إليك - أحمد رامي - 1958»، «اذكريني - أحمد رامي - 1939»، «أغار من نسمة الجنوب - أحمد رامي - 1954»، «قالوا أحب القس سلامة - أحمد علي باكثير - 1944 - فيلم سلامة»، «ذكريات - أحمد رامي - 1956»، «الأطلال - إبراهيم ناجي - 1966»، وغيرها. وتتسم القصيدة العاطفية بصفة مهمة جدًا، وهي تغلب نسبة الغناء المرسل على نسبة الغناء الموقع وبالصفة التأملية.

ج- القصيدة الوطنية : مصر تتحدث عن نفسها «وقف الخلق - حافظ إبراهيم - 1951»، «صوت الوطن - مصر التي في خاطري - أحمد رامي - 1952»، وغيرها. وتمتاز بغياب الغناء المرسل وبالنبض الداخلي الشديد الصرامة. ومن أجمل قصائده الوطنية قصيدة «القدس - وعادت الطيور في المساء، أو قومي إلى الصلاة - محمود حسن إسماعيل - 1967»، وقد لحنها عقب النكسة، فجاءت من أجمل الأغنيات التحريضية على الجهاد، وقد أدتها سعاد محمد بأعظم ما يمكن من أداء.

د- القصيدة الرومانسية الوجدانية:

«فجر - أحمد فتحي - 1944»، «أين حبي - نغم ساحر - روّعوه - أنا وحدي»، «صالح جودت - من فيلم أنا وحدي». غنتها سعاد محمد. وقصيدته الرائعة، التي غنتها المطربة الكبيرة نجاح سلام ثم غناها بصوته: «من سحر عينيك - فاروق جويدة»، التي تمتاز بالقفلة الثلاثية ضمن القفلة العامة للمذهب.

ولعل الثلاثية المقدسة «صالح جودت 1967»، هي القصيدة التي جمعت جميع اتجاهات السنباطي في تلحين القصيدة. فقد جاءت في بناء كالقصور الشامخة، جمعت الغناء الموقع مع المرسل. واتسمت بالعمق الدرامي والفلسفي والتأملي والتحريضي والانفعالي والوجداني العميق. ومن أعظم عناصر البناء في هذه القصيدة، إبراز اللحن التراثي «طلع البدر علينا» في سياق لحني من عنده، يظهر فيها هذا اللحن التراثي الرائع جزءًا لا يتجزأ من السياق اللحني، وكأنه من تلحين رياض السنباطي نفسه.

هـ - القصيدة المأساوية: ونرى هذا اللون في تحفته الرثائية لأسمهان «أيها النائم - أحمد رامي - 1944 - فيلم غرام وانتقام»، وهي من القصائد النادرة جدًا، حيث لا إيقاع نهائيًا: عودة كاملة لأسلوب سلامة حجازي. وقد حاكى فيها أسلوب محمد عبدالوهاب في قصيدته المأساوية الرثائية «أيها الراقدون تحت التراب - أحمد رامي - 1935 - فيلم دموع الحب».

وكانت العودة للملحن لهذا الأسلوب المرسل من التلحين في هذه القصيدة بالذات في منتهى العبقرية في تفهّمه للموقع الدرامي للأغنية في السياق الدرامي للفيلم: فهي تصف الحالة النفسية المأساوية العميقة المدمّرة لبطلة الفيلم ومؤدية الأغنية لسبب مقتل حبيبها وخطيبها، فيجسد الملحن شللها النفسي وذهولها الوجداني والإنساني والعاطفي بإلغاء الإيقاع نهائيًا من أول القصيدة لآخرها.

4 - النشيد: إن كانت بداية السنباطي في تلحين المونولوج على خطى محمد القصبجي، فإن بدايته في تلحين النشيد كانت على خطى محمد عبدالوهاب، ففي أول نشيد لحنّه «نشيد الجامعة - أحمد رامي - فيلم نشيد الأمل - 1937»، سار السنباطي على خطى نشيد تحية العلم «أيها الخفاق»، الذي غناه محمد عبدالوهاب في فيلم «دموع الحب - أحمد رامي - 1935». ولكن شخصية السنباطي الفنية القوية تنطلق بسرعة، فيتحفنا بنشيد الأسرة العلوية «أنا بنت النيل - أخت الهرم - أحمد رامي - فيلم غرام وانتقام - 1944» فيجمع فيه طابع الأغنية الوطنية إلى طابع النشد المعروف بالصرامة اللحنية والإيقاعية، إلى جانب الطابع السردي الموجود في المقاطع، التي تتغنّى بأقطاب الأسرة العلوية من محمد علي إلى الملك فاروق، وأخيرًا استعمال عنصر الطقطوقة الرئيسي: المذهب الذي يشكّل هنا الدعائم التي تتخلل النشيد بين المقاطع، والتي يقوم عليها بناء النشيد من أوله إلى آخره. كل هذا يجعل من هذا النشيد «إلى جانب غناء أسمهان العبقري»، أحد أعظم الأناشيد في تاريخ الموسيقى العربية. ولا يجوز أن ننسى نشيده العظيم بصوت المطربة الكبيرة نجاح سلام: «أنا النيل مقبرة للغزاة - محمود حسن إسماعيل - 1956»، الذي جمع فيه بكل عبقرية مرارة الحدث - الاعتداء الثلاثي» باستعمال مقام النهاوند مع صرامة التصميم على دحر العدوان المتمثل في صرامة اللحن واستعماله إيقاع النشيد الحماسي من أول النشيد لآخره. وتصويره الحسي لبعض المقاطع الشعرية كتلحينه لعبارة «تصب العدم» في بيت: يد الله في يد مصر القسم / على كل عاد تصب العدم». جاعلاً عندها اللحن يتجه إلى أسفل على السلم الموسيقي مصورًا بذلك العدم المنساب إلى تحت الماء عند حبه.ونرى التصوير الحسي نفسه عند عبارة «تصب الهلاك على المعتدين». في الغصن الأول.

ألحان صوفية

5 - الأغنية الصوفية عند رياض السنباطي

من أعظم صفات أسلوب السنباطي التلحينية، التي نستطيع نسبه ابتكارها إليه من دون أي تردد أو شك هو الأسلوب الصوفي الذي استعمله في أغنياته الدينية والعاطفية الصوفية، ونذكر من هذه الأعمال لنجاة الصغيرة «إلهي ما أعظمك»، «يا حبيب الله غناها أحمد عبدالقادر»، أغنياته لأم كلثوم إلى عرفات الله - أحمد شوقي - 1965»، «تائب تجري دموعي ندما - عبدالفتاح مصطفى - 1962»، رائعة بيرم التونسي الصوفية «القلب يعشق كل جميل - 1972»، «سلوا كئوس الطلا - أحمد شوقي - 1946»، أغنيات رابعة العدوية، التي ورد ذكرها في باب القصيدة الدينية الصوفية «نهج البُرْدة - أحمد شوقي - 1946»، «ولد الهدى - شوقي - 1946»، «سلوا قلبي - شوقي - 1946»، إلى جانب ما ذكر في باب القصيدة الدينية الصوفية، وإلى جانب الأغاني الصوفية، التي غناها بنفسه: «إله الكون - ربي سبحانك دومًا»...وغيرها. ويمتاز أسلوب السنباطي الصوفي بصفات واضحة مهمة:

أ- استعمال الكورال في الرد على المغني المتفرّد بآهات كما في «ربي سبحانك دومًا»، و«إله الكون» وأغنيته لنجاة الصغيرة «إلهي ما أعظمك»، وذلك لإحياء أجواء حلقات الذكر والتواشيح الدينية.

ب- استعماله لازمة موسيقية شديدة الانفعالية يكررها بين المقاطع، مذكرًا بحلقات الذكر والتواشيح الدينية والموالد.

ج- استعماله في هذه الأعمال مقام البياتي «مقام التجويد القرآني»، أو مقام الهزام المقام الرئيسي الأساسي في الإنشاد الديني، والتواشيح الصوفية الدينية، وهو مقام شديد الانفعالية.

د- استعمال الإيقاعات القوية المستعملة عادة في حلقات الذكر والموالد والتواشيح الدينية الصوفية، وهي شديدة الانفعالية.

6 - رياض السنباطي غير الكلثومي: ارتبط اسم رياض السنباطي بصوت أم كلثوم لدرجة الاعتقاد بأنه قدم لها معظم ألحانه. ولكننا ندهش حين نعلم أنه ومن أصل 629 أغنية، لحنها رياض السنباطي لم تغنّ أم كلثوم سوى مائة وسبع أغنيات، وتوزعت الأغنيات الباقية، وعددها 522 أغنية عليه، وعلى 63 مطرب ومطربة، أي على كل الأصوات، التي كانت على الساحة الغنائية في مصر، مصرية كانت أم غير مصرية، ونذكر بعض هذه الأصوات مع عدد الأغنيات، التي غنتها من ألحان السنباطي: إبراهيم حمودة - 8 أغنيات، أحمد السنباطي - ابنه - 10»، أحمد عبدالقادر - 18، أسمهان - 5، حياة محمد - 4، رجاء عبده - 6، رياض السنباطي نفسه - 80، غير أغنيات أم كلثوم التي أعاد غناءها وتسجيلها على عوده - سعاد محمد - 25، عبدالحليم حافظ - 2، شادية - 3، شهرزاد - 10، صباح - 9، عبدالغني السيد - 27، فتحية أحمد - 8، فايزة أحمد - 8، فايدة كامل - 10، كارم محمود - 3، ليلى حلمي - 2، ليلى مراد - 40، محمد قنديل - 3، محمد عبدالمطلب - 4، نجاح سلام - 9، نجاة الصغيرة - 12، وردة الجزائرية - 11 وغيرهم وغيرهم.

ونتساءل بحسرة موجعة: أين كل هذه الأغنيات في خضم السقوط الموسيقي المريع الذي نعيشه؟ أين موقعها في وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية المسموعة والمرئية؟

7 - الديالوج: «من اليونانية القديمة ديا - اثنان - لوجوس كلام»، وهو أداء تمثيلي أو غنائي يشارك فيه مؤديان. في الفيلم الوحيد الذي مثله رياض السنباطي أتحفنا بثلاثة ديالوجات غناها مع هدى سلطان وهي: «عندي سؤال - اشمعنى يا ناس - بتبكي ليه يا نغم».

ويمتاز الديالوج الأول «عندي سؤال» بالطابع التأملي الهادئ، فهو مناجاة هادئة بين الحبيبين. ويتغير هذا الطابع، وينقلب إلى المرارة والدراما الخفيفة عند الحبيب.- المغني في الديالوج الثاني «اشمعنى يا ناس» بينما يظل هذا الطابع مرحًا عند المغنية لقرب زواجها ممن ظننت أنه يحبها، ليصل إلى الطابع الدرامي - المأساوي في «بتبكي ليه يا نغم»، ولا عجب أن هذه الديالوجات تأتي في الفيلم بهذا التسلسل وفقًا للتدرجات الدرامية، التي تحتويها من الطابع الهادئ - إلى المرارة الدراما إلى الدراما المأساوية.

وتعتبر هذه الديالوجات من أجمل ما في هذا الفن الذي أبدعه سيد درويش في ديالوج «على قد الليل ما يطوّل - مسرحية العشرة الطيبة - 1921»، وأكمله محمد عبدالوهاب في ديالوجات «محلى الحبيب» مع نجاة علي «فيلم دموع الحب - 1935»، ويادي النعيم»، وطال انتظاري مع ليلى مراد «فيلم يحيا الحب - 1937»، وفي أوبريت قيس وليلى مع أسمهان «فيلم يوم سعيد - 1939».

8 - المعزوفات: ونصل هنا إلى المأساة المروّعة التي تغرق فيها موسيقانا العربية المعاصرة، وهي ضياع تراثنا حتى في أثناء حياة ملحنينا الذين أبدعوه. فمن 38 معزوفة معروفة بالاسم لحنها رياض السنباطي، لم يبق إلا اثنتان هما: لونجا رياض، ورقصة شنجهاي. وسبب ضياع معزوفات السنباطي وغيره كـ«محمد القصبجي»، أن هذه المعزوفات كانت تعزف في دور السينما قبل البدء في عرض الفيلم أو عزفها على الهواء في الإذاعة المصرية «تأسست سنة 1934»، وبذلك لم تُسجل. وتمتاز لونجا رياض بجمالها اللحني الأخّاذ، وبطابعها ومضمونها العربي الصرف، بالرغم من قالب اللونجا التركي الذي سكبت فيه.

9 - رياض السنباطي المطرب:

يقول محمد عبدالوهاب: «لو لم يغنّ السنباطي غير قصيدة أشواق لحقّ له أن يعد مطربًا كبيرًا». ولكن السنباطي لم يغنّ فقط رائعته «أشواق» بل غنى إلى جانبها ثمانين أغنية كما ذكرنا سابقًا. منها قصيدته الرومانسية الرائعة «فجر - أحمد فتحي - 1944»، والديالوجات الرائعة مع هدى سلطان ورائعته «على عودي»، و«روّعوه» و«من سحر عينيك الأمان» و«أين حبي» و«ربي سبحانك دومًا» و«إله الكون» و«نغم ساحر» و«يا حبيبي لا تقل لي» و«قصيدة أين حبي» ومطلعها ذات يوم يا حبيبي، و«دورين» لسيد درويش، «أنا هويت» و«ضيعت مستقبلي».

ويمتاز صوت رياض السنباطي بجمال خامته وتملكه المطلق في المقامات والإيقاع وحساسيته، وإحساسه المرهف وعربه الجميلة الرائعة، وقدرته على إبراز أبعاد اللحن الدرامية والفكرية والتأملية والإنسانية والانفعالية، ولا ننسى صفته الصوفية العميقة، وقدرة صوته على الخشوع في تصوير هذه الأعماق في أغانيه الصوفية «ربي سبحانك» و«إله الكون».

10 - عازف العود: قد لا نبالغ ولا نغالي إذا قلنا إن رياض السنباطي من أنبغ من عزف على العود، إن لم يكن أنبغهم، بالرغم من الآراء الكثيرة، التي تفضل غيره.

ويمتاز عزف رياض السنباطي بالتقنية المطلقة لليدين، أي تملكه المطلق للريشة باليد اليمنى، واستعمالها بشكل مذهل في جميع تقنياتها وسيطرته التامة على الأوتار باليد اليسرى والتناسق المطلق بين اليدين في العزف للوصول إلى التعبير من أعمق أعماق النفس البشرية، وتصوير كل حالاتها النفسية والوجدانية والفكرية.

الصفة الثانية، التي لا يجاريه أحد فيها هي صفة التأمل الصوفي الفلسفي، وهي الصفة الأساسية، التي تشكل فكره الموسيقي إلى جانب العمق الإنساني والوجداني. وأخيرًا نورد رأي السنباطي في مستوى الغناء والتلحين الذي كان سائدًا قبيل وفاته (1981)، وقد ورد هذا الرأي في حديثه للتلفزة الكويتية في شهر يوليو 1980. قال واصفًا الأصوات والألحان، مستعملاً روح النكتة المصرية المعروفة: «تبصّ على المغنين والملحنين تلاقيهم راكبين عربيات بويك وكاديلاك. تسمع أصواتهم وألحانهم ما هيّاش من الماركة دي خالص».

ماذا كان سيقول رياض السنباطي عن الأصوات والألحان لو بقى حيّا لغاية اليوم؟

وهل يسعنا في ذكراه إلا أن نقول: وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر؟.

 

سليم سحاب