خالد سعود الزيد: رحـلــة بـحــث ومـعــانــاة طــريــق

خالد سعود الزيد: رحـلــة بـحــث ومـعــانــاة طــريــق

رواد الفكر والثقافة
لم يكن مجرد شاعر عادي, ولكنه رائد أنهك جسده ونفسه من أجل أن يكون للكلمة موقعها الرفيع الذي يتمنى ويحب أن يكون لها.

في مطلع يوم من الأيام الأولى من عام 1964, تهاتف اثنان ودار حديث بين خالد سعود الزيد ذي السبعة والعشرين عاماً, وعلم من أعلام العصر آنذاك - المرحوم أحمد زكي - مؤسس وأول رئيس تحرير لمجلة العربي, كان حديثاً أدبياً شائقاً تناول قصيدة (الزبداني), حوار رفيع المستوى يتحرك بين التحية لهذا النص الجميل, وما أثاره من أسئلة أراد العالم الكبير المدقق أن يسمع رأي الشاعر ووجهة نظره في هذه التساؤلات.

ونشرت القصيدة في مجلة العربي في مايو 1964, وكان الشاعر الكويتي الثاني - بعد الأستاذ أحمد السقاف - الذي تجد قصائده طريقها إلى هذه المجلة التي كان يتجاور على صفحاتها النخبة المتميزة من كتاب العربية.

جاء الصدى طيباً, ودخل خالد سعود الزيد الشاعر الساحة العربية بقوة من بوابة لها مكانها الخاص.

كان خالد سعود, في الوقت نفسه, مشغولاً بتشكيل مقالة أخرى عن علم من أعلام الثقافة في الكويت, هو سميه خالد الفرج, الشاعر القومي النزعة والذي كان همّه السياسي جارفاً شغله شعراً وكتابة ومشاركة, وقد وجدت مقالته طريقها إلى مجلة العربي أيضاً فنشرت فيها, بعد شهور قليلة, (يناير 1965).

وهكذا برز خالد سعود باحثاً له كلمته المحترمة والمقدرة في الدراسة الأدبية, ومؤرخاً موثقاً للحركة الفكرية والأدبية في الكويت.

وفي الفترة الزمنية نفسها (1964-1965) كان يتقدم بخطواته القوية لينضم إلى رابطة الأدباء في الكويت, وهي في سنة تأسيسها الجديد, ليكون يداً قوية تحسن وضع الأسس للمؤسسات الثقافية, وليصبح قطباً أساسياً, بل إنه أبرز الأقطاب فيها, حيث كان أحد أعمدة إنشاء المؤسسات الثقافية في كويت الستينيات, كانت كل البدايات الجيدة تتشكل, وتأخذ طريقها إلى الانطلاق بعد إنجاز الاستقلال, ثلاثة مواقف, وثلاثة أنواع من الجهود, تجاور بروزها زمناً, وكان فيها إشارات إلى الأسس والركائز التي سيتجلى بها دور خالد سعود الزيد, هذا العلم الذي فقدته الكويت والثقافة العربية في يوم الجمعة 12/10/2001.

الجذور

لم يكن خالد سعود حينئذ جديداً على الساحة الأدبية, باعتباره شاعراً ومؤلفاً, فقد كان معروفاً في وسطه, أصدر كتابه الأول: (من الأمثال العامية), وما هذه الوقفات المتجاورة إلا تنبيه على تلك اللحظات التي تأخذ أحياناً تجاوراً يفضي إلى دلالات مفيدة ومعبّرة.

قبل عشر سنوات من هذا التاريخ, في عام 1954, كان, وهو لايزال طالباً في الثانوية, رسخ اسمه في الأذهان, فقد سجل في مقدمة ديوانه (صلوات في معبد مهجور), تلك اللحظة التي ضجّت فيها أكبر قاعة احتفالات في الكويت بالتصفيق للشاعر الشاب الذي كان يلقي قصيدته احتفالاً بالمولد النبوي:

نور بمكة قد أضاء وأشرقا وأبان للناس الهداية والتقى

وعندما وصل إلى المقطع الذي تصف كلماته اندحار أبرهة الحبشي:

فدهته داهية وليست فيلقا ولكن طير الله أمسى فيلقا

دوى التصفيق يؤذن بميلاد شاعر ستألفه وتتلقاه المنابر باحترام.

ونعود سنة إلى الوراء أيضاً لنتوقف عند إشارة أخرى ذات دلالة غاية في الأهمية, فقد أشار في حديثه إلى أبيات حددت اتجاهه العام الذي تحدد بقوله المبكر:

يا سائلا عن مذهبي
إن العروبة مبدئي ومعادي



في هذا البيت إشارتان تستوقفان الناظر وتهديانه إلى المسار, الأولى ظاهرة واضحة قالها وحققها بوضوح منذ سنواته الأولى, فجل شعره وتوجهاته في الخمسينيات وهو طالب, وما أعقبها من سنوات ستصب في هذا المجرى الخصب, مجرى الوطنية والقومية, ونتكئ على عبارته التي يقول فيها: (كانت قصائد البداية بلا استثناء ذات اتجاه قومي خالص, ونزعة عربية خالصة, وكم ليلة بتها باكياً حينما يمس العرب حادث مفجع, أو تشجيهم داهية حطوم...).

وقد تأكد هذا من خلال واقع المشاركة نفسها, فقد قال شعراً في مأساة فلسطين, وفي تأميم القناة, وثورة الجزائر, وكل المناسبات الوطنية والقومية.

ونعود لنذكر أن هذا البيت القديم تضمن ملمحاً تشدّنا إليه مفردتا المبدأ والمعاد, فقد حملتا في داخلهما عالماً ذا نكهة خاصة, سيكون له موقعه في تجربة حياة خالد سعود الزيد الذي كان هذا مبتدأه ثم ستحط رحاله عند تخوم المعاد الروحي.

سنوات الانزواء

عندما هجر الدراسة المنتظمة فانزوى, موظفا في معمل للطابوق الرملي, لم ينقطع عن المشاركة الثقافية, فوجدنا اسمه يتكرر في المتوافر من صحف السنوات الأخيرة من الخمسينيات والسنوات الأولى من الستينيات, ولم تكن الصحف آنذاك تحظى بالاستمرار, فكثيراً ما تتعرض للتوقف القهري بحكم الإجراءات الرسمية أو الظروف المهنية, ومع ذلك وجدناه يناقش كتاباً للمرحوم عبدالصمد تركي (لكي لا تنفخوا في رماد) (1958), وينشر عدداً من المقالات ذات الطابع الأدبي, ولكن جهده كان منصبّاً على القراءة المتعمّقة والمتصلة التي لا يقطع تسلسلها شيء, ناظراً باحثاً, فقاده ذلك الشعور المتأصل في داخله, شعور المواطنة القوي الذي سيجعله أهم كاتب ومؤرخ للحياة الأدبية في الكويت, وشعوره القومي الجارف المتصل بتراث الأمة وتاريخها المعاصر, إلى النظر في النقطة الجامعة بين الاثنين, فوجدها في الأمثال التي تسجل خلجات وحسّ الشعب, وروح الأمة, فجمع في قبضة يديه أمرين: الثقافة العربية القومية, ورديفها المحلي الوطني, فالأمثال الشعبية العربية, قديمها وحديثها هي تلك الثقافة الأخرى الصادقة والتي تحررت من سيطرة الثقافة الرسمية المبرمجة المقننة والسائدة, وسعت إلى تركيز التجارب التي يحملها قول مجمل أو حكاية أو موقف أو زفرة معبّرة أو تعليق ناقد.

لقد انتبه خالد سعود إلى هذا الجانب المهم, فعكف على متابعته - فجاءت الثمرة كتابه الأول (من الأمثال العامية).

إن القارئ لهذا الكتاب لن يجد ذلك الكتاب الذي يكتفي بتسجيل المثل, أو شرحه, ولكنه سيلمح أن المؤلف كانت له أهداف أشمل أشار إلى بعضها في مقدمته, منها أنه يريد أن يربط المثل بالتشكيل الثقافي العام, ومن ثم سيكون تعامله مع المثل تعاملاً مرناً متسع التناول, لذلك كان دقيقاً في عنوانه (من الأمثال...) وليس الأمثال العامية, وهذا يعني أمرين, أولهما أنه ليس البحث في المثل هدفاً استقصائياً, يبحث عن كل الممكن من الأمثال, وإن جاء كتابه شاملاً وقريباً من الاستقصاء المتيسّر في ذلك الزمن المبكر, وتجربة أولية في هذا الميدان في المنطقة.
الأمر الآخر انطلاق الأمثال إلى الثقافة العامة المجاورة لها, أو المتفاعلة معها, لذلك وجدنا أنه جمع في كتابه المثل وبجواره الآية القرآنية الكريمة والمثل العربي الفصيح والشعر فصيحاً كان أم شعبياً, القصة أو الحكاية المرافقة أو المشابهة, الظرف التاريخي, المقامات التي قيل فيها هذا المثل.

ونشر هذا الكتاب سنة 1961 فتلقاه الناس قبولاً حسناً, وعرفوا من خلاله الباحث خالد سعود الزيد بعد أن عرفوه شاعراً.

نفحة الشعر

عندما عكف خالد سعود الزيد في زاويته الوظيفية يقرأ ويبحث ويتأمل, لم يهجر الشعر, فقد بقيت خلجات, تستيقظ في نفسه لمعات شعرية يطلقها دون تسجيل أو يسجلها دون نشر, إلا قليلاً, يرددها الشاعر بينه وبين نفسه وخلصائه, فقد وجدناه ينشر إطلالة عابرة مثل قصيدته: (كلنا عنك يا كويت الفدا) (مارس 1963), وقد سبقتها (ألحان وأقداح) (1958) التي لم ينشرها إلا في سنة 1964, حتى جاءت قصيدة الزبداني, التي سبق ذكرها, وكان لها ظرفها الخاص الذي سجله في حديثه المركز في مقدمة ديوانه الأول, وفيه تحدث عن مسيرته الشعرية وعزوفه عن الكتابة نثراً وشعراً حتى جاءت لحظة التفجّر, ونقول معه بتعبيره: (وقد انبلج فجر قصيدة الزبداني, ومنها انشقت قصيدة (عودة قلب) لتدخل حظيرة روح القدس من عالم الشعر).

ومع هذه العودة, جلس متوثباً في قلب الساحة الشعرية في الكويت, قطباً من أقطاب التحريك والتحفيز, أخذت شاعرية الشاعر موقعها مع هذه القصيدة, وأثبتت وجودها في موقع يصعب أن يتميز به أحد, فعندما تأتي إلى شكل وطريقة وأساليب راسخة يحرسها شعراء متمرّسون أخذوا موقعهم, فإن الدخول والوقوف بجانبهم سيكون صعباً, ولكن الزبداني الذي جاء بناؤها الرزين محتشداً بشاعرية الصورة وتكامل التعبير وتدرّج المواقف, فيها تلال من مخزون تراثي وتفرّد وتميّز واستيعاب لتطوّرات القصيدة العربية التي عرفتها القصيدة العمودية, فشمس الزبداني, وهي تميل في مغيبها, ليست قرصاً دامياً مشعّاً يسير نحو الأفق, ولكنها عند الشاعر جمعت عدداً من المعاني ينطلق إليها من الإطار الخارجي المحيط بها إلى ما وراء هذا كله, أقام تلك العلاقة بين المكان الذي تغادره شمس الزبداني ورحلتها في آخر اليوم تقلب طرفها, وهي متململة تجهش بدم يسير على الربى, وهي من جهة أخرى حورية يجذب النسيم إزارها فلاذت بشامخ, وهذا الجبل الشامخ يلوح:

جبل أقام على الوداد ملوّحاً بيديه رغم تقلّب الحدثان
لم يخش زورات الظلام وبأسه فدنا إليها في ثبات جنان
وتعانقا فجرى اللجين سبائكا
قد ذوّبته حرارة الأشجان



ومن الجبل إلى النهر:

تمهّل الخطوات في جنباته تتلاحم الأغصان بالأغصان
ويداعب الأزهار وهي براعم فتثور فهي شقائق النعمان



وهكذا تتوالى الأبيات, كل بيت هو حجر متفرّد في بناء متكامل للقصيدة التي جمعت توحد الشعور بالبناء:

رسل من البدر التمام تدفقت وسرت تلاطف مهجة الأكوان



ليست هذه القصيدة أميز ما قاله خالد سعود الزيد الشاعر, ولكنها مقدمة لليقظة الفنية التي أعادت الشاعر لتتوالى بعد ذلك القصائد التي سيضمها ديوانه الأول (صلوات في معبد مهجور) (1970) الذي ضم بين دفتيه محاولات متعددة لتنويع القصيدة العربية ضمن تقاليدها العامة, وهو تنويع نراه في (الحب الحزين) وهي قصة شعرية فيها نفس الشاعرية الطويل ومثلها (عودة قلب) (1963), ولكنه سيعتمد في أكثر شعره في هذه المرحلة على اللقطة الصغيرة المركّزة, كما نلاحظ في قصيدته (حبب), وفيها وقفة تصويرية تقدم جوانب جمالية, وتصوير حركي يخفي من ورائه رؤى خاصة, يتجاور فيها الرقص والحرقة, الوثب والاحتضان واللهب, الارتفاع والعطب فالثورة:

فكأن الأرض ثائرة فهي من أعماقها تثب
وكأن الكأس مترعة قد غزت أجواءها الشهب
يتنزّى مثل ذي الم جرحت أعماقه النوب



(صلوات في معبد مهجور ص 81)

في تجربة خالد سعود الزيد قاعدة تراثية راسخة, فهو يمتح من نبع تراثي وهو في أصفى مشاربه وأدقها, يقدم لنا صفاء لغوياً إضافة إلى توثب يتخذ أشكالاً داخلية متنوّعة, وكان في تلك المرحلة يضع ركيزتين أولهما آنية قائمة هي أن شاعراً له صوته الخاص المتولد من رحم تقاليد الشعر العربي, وأخرى غائبة ستأتي بعد سنوات, هي تلك اللمسة الإيمانية, جذوة الإيمان الداخلي الساكنة في زاوية ستتفجّر بعد ست سنوات لتمثل نقلته الثانية, ليس فيها صراحة المذاهب الظاهرية, كما بدا من بعض ملامح القصائد الأولى, ولكن ذلك الجانب الخفيّ المتلائم مع تجربة الشعر الصوفي.

كانت قصيدته (الحقيقة المطلقة) والتي ضمها ديوانه الأول هي النقطة الواصلة بين هذا الديوان وديوانيه الثاني (كلمات من الألواح) والثالث (بين واديك والقرى) الحاملين أبعاد وأصداء هذه الحركة الداخلية ليقدماها للخارج لمسات شعرية دقيقة, كانت تجربة تجاوز خالد سعود الزيد الشاعر القديم إلى الشاعر الجديد, كما تجاوز خالد سعود الإنسان تدين الشكل إلى روحانية الداخل.

جاء الديوانان حاملين في داخلهما قفزة نوعية, ولكنها من ذات تجربة الشاعر الذي انفتح على البعد الصوفي, وكما كانت تجربته الأولى مستوعبة التراثين الإنساني والعربي, فإن تجربته الثانية ستستوعب في الوقت نفسه وتنطلق من البعد الصوفي العربي الإسلامي إلى حركة وتيار الروحانية العالمي.

يعنينا من التصوّف ليس التجربة الخاصة بالشاعر, فهذه داخلية يعرفها ويتذوّقها صاحبها, ولكن المهم هذا الانعكاس الخطير في الكلمة الشعرية, حيث تفجّرت كلمات الصوفية ذات الأبعاد المتعددة, فالكلمة تأويل يقود إلى تأويل وطبقة تحتها طبقة, كل قارئ يقف عند طبقة يرتضيها.

اتجه الزيد إلى الغاية الروحية النائية والتطلع إلى الحقيقة المطلقة, رحلة النفس وعذاب الطريق, أما المعين فهو شوق داخلي جارف, أما الوسيلة, التي هي عنده غاية من الغايات فتتمثل في المعلم الأكبر الذي لا يكون الدخول إلى الرحاب المقدسة إلا من خلاله, أما لغة الخطاب, فتلك الكلمة الشعرية, تلك الألفاظ التي تتجاوز حدود الدلالة القريبة إلى غايات تتوه في احتمالات صياغاتها بحثاً عن تعبير لهذه المعاني الدقيقة.

الحقيقة المطلقة, غير المحددة, قد قيلت بوضوح, وحددت أطيافها كلمات من الألواح:

لقد مات في قلبه الحلم الرائع
توارى الذي بيننا
كأن لم نكن واحداً
وتمتد عبر الدموع العيون الى باطنينا كأن لم نكن واحداً
لقد مزّق الليل أوصالنا
وبدد في الكون أشلاءنا
فلا أنت أنت ولا ذا أنا
ألملم من خلفك الذكريات
وأجمع أطرافها
ولم يبق إلا فتيل السراج
هنا في الضلوع كصارية متعبة

(كلمات من الألواح: ص 21)

القصيدة تسجل اللحظة التي كان فيها الكل واحداً ثم انفصل, لتأتي المجاهدة ثم تأخذ شكليها, برحلة النفس والتطلع إلى الشيخ, المثال المعلم الروحي. ونلتقي بمثل هذه الوقفات المتصلة برحلة الروح, والبحث عن الطريق, والتطلع إلى المعلم المثال, هذه الرحلة للنفس القلقة ستجدها في قصيدتيه (دعها) و (قمم وهمم).

دعها فليس لمسرى عاشق أمد طال السرى وحديث العاشقين غد
.................................
.................................
فكلما قربت من منهل هتفت بها الضلوع لقاص آخر يرد
حتام ينهبها في دربها ولع
وما يلذ لها معنى ولا بلد



(كلمات من الألواح: ص 45 - ص 46)

إذن إطلاق النفس, المسرى, العشق, الأمد, المنهل, الورد, النفس, الشوق, الأحلام, الطريق, الرحلة والراحلة إلى آخر هذه المرتكزات ستكون اللغة السائدة في شعر هذه المرحلة.

ويتقلب بين الشخصيات والرموز الدينية, حيث محمد (صلى الله عليه وسلم) يقف في نقطة الضوء في أكثر من تجربة وعيسى وموسى, وسنرى اللحظة الفريدة في الوادي المقدس طوى, وهو محل وقفة وتأمل, ويأتي الحلاج وحشد رجال الصوفية, يحضرون بنفحاتهم ومفرداتهم اللغوية ذات الدلالات العميقة.

باحث في الذاكرة الأدبية

عندما أشرت في مقدمة هذه المقالة إلى دراسته عن خالد الفرج التي نشرت في مجلة العربي, إنما قصدت توضيح تلك الانطلاقة الجديدة لا البداية, فخالد سعود كان من قبل هذا التاريخ قد دخل مجال الكتابة في تاريخ الأداب ودراسته, فأطل من خلال مشاركات سابقة, أشرت إليها في سطور سابقة, وعندما عادت الصحافة الكويتية إلى نشاطها بعد توقف كان من الأقلام الأولى المبادرة, فكتب في جريدة (الرأي العام) أول جريدة يومية سنة 1961, ثم انضم إلى مجلة (صوت الخليج) الأسبوعية التي نشر فيها عدداً من المقالات الأدبية, وقد أبدى اهتماماً بالشخصيات الأدبية التي لم تأخذ حظها من الكتابة, فكانت له أول دراسة عن المربي والشاعر راشد السيف, ثم تبعتها مقالة خالد الفرج.

ولكن الإسهام المتميز سيأتي مع كتابه الكبير (أدباء الكويت في قرنين), وهو كتاب يحتاج منا إلى وقفة ليس لتحليل مادته, ولكن, قبل هذا, لابد من دراسة الدوافع والأسس التي كانت وراء الكتاب أو الشروع في كتابته والظرف المحيط به, فولادة الكتاب مرهونة بحالة وضع جدير بأن نستحضره ونبعثه من ذاكرة التاريخ ليسكن على الورق.

إن حالة الوضع التي نشير إليه هو أنه في منتصف الستينيات, كانت ثمة حالة سائدة من انقطاع ثقافي وأدبي بين أصول تاريخ أدب المنطقة وتوجهات الشباب, بل والدارسين أيضاً آنذاك, كانت هناك فجوة ونقاط مظلمة تصل إلى حد الجهل أو التجهيل, الأنظار متجهة بل شغوفة بمنابع تيارات الأدب في الخارج, فتشكلت فجوة, بل قطيعة بين جيلين حتى وصل الأمر إلى سؤال باطنه سخرية واستهجان: هل هناك أدب أو أدباء بيننا أو قبل هذه الأيام التي نعيشها, إننا نسمع عن أسماء ونجد أفواها تنفتح على مصراعيها متشدّقة باسم أدباء وشعراء ولكن ليس بين أصابعها من الورق أو تحت أنظارنا شيء من هذا, فأين الأدب في الكويت?

كان سؤالاً مستفزاً, يطلقه دم الشباب بقوة قاسية وتساؤل ساخر, ومحاورات تجمع بين الجهل والتجاهل أو الاستغراب أو الاحتقار.

وهنا تحرّكت همة خالد سعود الزيد, الذي أدرك أن عليه مهمة اختاره التاريخ لها, (انظر إلى الكلمة التي بشّرت بها مجلة البيان بصدور الكتاب).

جاءت كتابة هذا الكتاب بعد جلسة عاصفة شهدتها الرابطة بين مسقط لكل جهد أدبي سابق, وآخر يدافع, بل دعني أقل إن واحداً فقط - هو خالد سعود الزيد - الذي كان يصر على أن ثمة نشاطاً أدبياً قد غُطي عليه, وأن أسماء مهمة تم تجاهلها, ونصوصاً تاهت أو ضاعت عن جامعها, وأن ما يقال عن قلة في نصوص الأدب, إنما هو تقصير وتخلّف في التوثيق أو عدم الاهتمام به, وأن هذه الحماسة المضادة هو شطط من القول وانقطاع عن أصل تماماً كما هي حياتنا العربية السائدة التي تسير نحو الانقطاع عن كل ما يتعلق بماضيها.

وانفض سامر الكلام المسائي, وغادر المغادرون, كل واحد أفرغ شحنته من القول المجاني, وراح ينام هانئاً إلا واحداً راح حاملاً قلقه وإحساسه بالمسئولية وشعوره أن الأوان قد حان ليشمر عن ساعد الجهد, فإن ظلام الجهل أو التجاهل لا تزيله الكلمات العابرة ولكن الهمم العالية, فشمر عن ساعد الجد والقلم, وراح يلملم ما كتبه متفرّقاً من قبل, وينفض التراب عن أوراق كثيرة, وكان سباقه مع الزمن قاسياً, يريد أن يصارع موج الظلام واندفاعه, فما هي إلا شهور قليلة جداً حتى كانت أسنان المطبعة تدور لتطبع الجزء الأول من كتاب (أدباء الكويت في قرنين), والذي وصفته آنذاك بأنه الكلمة الأولى في الأدب الكويتي.

واستقبلته الساحة الأدبية بما يليق به, ولأول مرة تشهد حركة طبع الكتب ظاهرة إعادة طبع كتاب بعد شهرين من صدور طبعته الأولى.

وتوالت الأجزاء حتى وصلت إلى ثلاثة أجزاء, تقارب صفحاتها الألف وأربعمائة صفحة.

أدباء الكويت

ليس هذا فقط, فهناك يقف, إلى جانب كتاب (أدباء الكويت في قرنين), تقف كوكبة من أحد عشر كتاباً, من مؤلفاته التي تجاوزت العشرين كتاباً, فيها دراسات تاريخية وتراجم وتحليل وتوثيق, تمثل في مجموعها عملاً موسوعياً متكاملاً لا يجد أي باحث في ثقافة الكويت بدا من أن يبدأ بها, فهي الحرف الأول من خط الكتابة في تاريخ الأدب في الكويت.

في الجزء الأول من كتاب أدباء الكويت سنلحظ, في بعض التراجم, ذلك المنهج الطموح الذي أراده خالد سعود الزيد لكتابه في خطته الأولى, عندما كان يتفرّغ لكل ترجمة ويتوقف متأنياً يجمع المادة ويوثقها, ثم يقوم بدراستها دراسة تاريخية نقدية ثم فنية يبين فيها توجهات المترجَم له, وإنتاجه نقداً وتحليلاً, مناقشاً وموضحاً سماته الأساسية ثم المختار من هذا الإنتاج, ولكنه عندما أدرك أن هناك غياباً للنصوص الأساسية - تجاوز عن هذا المنهج وتوجه إلى عنصر الجمع والتوثيق والحرص على نشر كل ما تيسر له خاصة بالنسبة للأدباء الذين لم يجمع شمل أدبهم - وهم أكثرية - فتناثر إنتاجهم بين الصحف والمجلات أو الأوراق الخاصة أو على شفاه الأصدقاء والمريدين, بالإضافة إلى التعريف بالمترجَم له مع الدراسة المركزة.

كان في سباق مع الزمن, كي يحفظ تراثاً يوشك أن يغرق في عالم النسيان, فاستطاع أن يفعل الكثير, فحق له أن يكون شيخ شيوخ مؤرخي الأدب في الكويت, استعارة منه لوصف فهد الدويري حينما جمع إنتاجه وسمّاه شيخ القصّاصين الكويتيين.

نشاط ثقافي

إن الحديث عن خالد سعود الزيد الشاعر والأديب يجب ألا يغطي جهود خالد سعود الزيد المؤسس, الذي كان ركناً أساسياً من أركان النهضة الحديثة, فدخل حلبة النشاط الثقافي دخول العاملين المشاركين, فأرسى قواعد المؤسسات الثقافية المختلفة, فعندما انضم إلى رابطة الأدباء في سنة تأسيسها الأولى سنة 1965, لم يكن عضوا يضاف إلى القائمة, ولكنه كان عنصراً متوثبا ممتلئا حيوية, ينتظره الدور المتميز في إرساء قواعدها ودفع نشاطها إلى الأمام, فبعد سنة واحدة (1966) اختير عضواً في مجلس إدارتها, وبعد شهور, في السنة نفسها, دفعه أعضاؤها لتولي الرئاسة أميناً للرابطة (1966-1972) ثم أسندت إليه أمانة السر (1971-1983). هذه الأعباء الجسيمة التي ينوء بها كاهل أديب وشاعر يريد أن يتفرّغ لإبداعه قبلها خالد سعود الزيد مضحياً, لا تدفعه رغبة التصدر ولكن إلحاح من حوله وإحساسه بمسئولية الروّاد أمثاله, تحمل أعباء الإدارة فيها, فكان من أميز أمنائها, تولى أمرها في أحلك الظروف وأصعب السنوات, سنوات التأسيس, وعلى يديه استوت مجلة البيان, فكان عضواً في هيئة تحريرها ثم سكرتيراً فرئيسا للتحرير, وفي عهده نشطت الندوات والمحاضرات, وتكثّفت مشاركة الكويت في المؤتمرات واللقاءات الفكرية والثقافية, ساهم بجهده محاضراً وخطيباً وشاعراً.

ويرفد هذه المشاركات الإيجابية ذلك الحضور الدائم في كل مناسبة جادّة, كان وجهاً حاضراً وساعداً مشاركاً في كل الأنشطة, فكان عضواً في عدد من المجالس في مقدمتها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, والمجلس الاستشاري للإعلام, وتطول قائمة المشاركات الإيجابية التي تذكّرنا برجل أنهك جسده ونفسه في سبيل أن يكون للكلمة موقعها الرفيع الذي يتمنى ويحب أن يكون لها, فسجل اسمه في سجل الرجال الذين يمرون في هذه الدنيا, فلا يغادرونها حتى يتركوا أثراً باقياً يشهد لرجال عرفوا كيف يبذرون بذرة خير تنمو وتفيض معرفة وفناً وجمالاً.

خالد سعود الزيد (1937-2001)

- شاعر وباحث كويتي مرموق.

- ولد في الكويت وتعلم في مدارسها حتى المرحلة الثانوية ثم دخل الحياة العملية.

- عرف شاعراً وباحثاً منذ الستينيات, انضم إلى رابطة الأدباء فكان أميناً لها للأعوام (1966-1972) وتولى أمانة السر فيها حتى عام 1983.

- شارك في تأسيس مجلة البيان الأدبية التي تصدرها الرابطة وتولى رئاسة تحريرها.

- اختير عضواً في مجالس كثيرة منها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, والمجلس الاستشاري للإعلام, ورئيساً للجنة تشجيع المؤلفات بالمجلس الوطني للثقافة, وعضواً في لجنة إجازة نصوص الأغاني.

- شارك في عدد كبير من المهرجانات الأدبية والثقافية, ومثل الكويت في عدد من المؤتمرات وخاصة مؤتمرات اتحاد الكتّاب العرب ومهرجانات الشعر.

- كرّم وحصل على عدد من الجوائز المهمة منها فوز كتابه (أدباء الكويت في قرنين) بجائزة معرض الكتاب الثامن سنة 1982, وفاز كتابه (فهد الدويري شيخ القصّاصين الكويتيين) كأحسن كتاب في معرض الكتاب في رابطة الأدباء في الكويت.

- حصل على جائزة الكويت للتقدم العلمي عام 1984 في الآداب والفنون.

- حصل على الجائزة التقديرية من دولة الكويت عام 2000 التي يمنحها المجلس الوطني للثقافة.

- له ثلاثة دواوين شعرية هي: (صلوات في معبد مهجور) (1970).

(كلمات من الألواح) (1985).

(بين واديك والقرى) (1992).

- ألف عشرين كتاباً في الأدب والتاريخ من أهمها:

(من الأمثال العامية) (1961).

(أدباء الكويت في قرنين) (3 أجزاء) (1967 - 1980 - 1982).

(خالد الفرج حياته وشعره) (1969).

(الكويت في دليل الخليج) (1982).

(مسرحيات يتيمة) (1982).

(مقالات ووثائق عن المسرح الكويتي) (1983).

(فهد الدويري شيخ القصّاصين الكويتيين) (1984).

(الشاعر ملا حسين حياته وآثاره) (1997).

 

 

سليمان الشطي

 
 




الشاعر في حديقة منزلة (1990).





في إحدى الندوات التي حضرها سعود الزيد في ليبيا عام 1975





الشاعر مع صاحب السمو- حفظه الله - في عقد قران ولده (1990)





حصل الشاعر الراحل على العديد من الجوائز وشهد الكثير من مناسبات التكريم





الشاعر الراحل وهو في مكتبته، المكان الذي كان يفضله دوماً (1999)





الشاعر مع الشيخ صباح الأحمد أثناء زفاف ولده





جلسة تأمل وسط الخضرة وهو في أيامه الأخيرة