الزراع

الزراع

صانعو الحضارة العربية الإسلامية
الوظيفة وليس الاسم, هذه هي الرؤية التي ينتهجها أستاذنا د. نقولا زيادة لدراسة حضارتنا الإسلامية ونحن في بداية هذا القرن الجديد, فالحضارة هي مجموعة من الأدوار والوظائف المتواصلة التي تسيّر الحياة البشرية, لا تتوقف بتغير الحكام وتوالي الدول, كما أن الانتكاسات السياسية لا تشل من فاعليتها, إنها تصنع نوعاً من الوتيرة الثابتة تحقق في النهاية ذلك التراكم الحضاري الذي أهل الحضارة الإسلامية أن تقوم بدورها وأن تأخذ سمتها.

وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب

رغم جذورهم الصحراوية, أدرك العرب أن سر الحضارة يكمن في الزراعة. لذا اندمجوا مع أهلها وعرفوا منهم أساليب الري والغرس والحصد وطوّروها.

عرفت المنطقة التي فتحها العرب أساليب للري قديمة كانت تتنوع حسب مصادر المياه, فالشادوف يستعمل لحمل ماء النهر إلى ضفافه, وكان معروفاً في مصر والترع التي كانت تحول مياه النهيرات أو المجاري إلى المزارع المجاورة والدلو الذي كان الماء ينتشل به من البئر.

ولكن من أهم ما عرفه العالم القديم (القناة) (الكريز) والمرجح أنها فارسية الأصل, والقناة مسير للماء يحفر على أعماق بعضها كبير, فإذا كانت الأرض مما يمتص الماء وضعت فيها أنابيب من الفخار أو الرصاص, وتنقل المياه فيها مسافات طويلة. وهناك الترع المختلفة الأنواع, واقتضى هذا العمل في سبيل نقل المياه إلى الأرض المزروعة تجميع المياه أولاً - طبعاً ما عدا الأنهار الصغير منها والكبير. فهناك البئر التي تحفر في سبيل العثور على المياه, وهناك الأجاجين والخزانات والبرك التي تجمع فيها المياه المتدفقة من ينابيع جبلية أو من أمطار الشتاء.

لكن هذه على اختلاف أنواعها كانت قد ضعف شأنها وخربت بسبب الاهمال والحروب في أواخر أيام الرومان والبيزنطيين. فلما فتح العرب تلك البلاد كانت أرض الرافدين مثلاً قد تعرضت لطوفان عنيف في القرن السابع الميلادي هدم جميع السدود التي كانت قائمة. وكان وادي النيل قد سبقه مثل هذا الضر في القرن السادس.

تطوير الري

لكن العرب لم يكادوا يستقرون ويقيمون دولتهم حتى اهتموا بقضية الري, وكان أن وصلت إلى المنطقة نباتات جديدة مدارية كانت بحاجة إلى ري مدة أطول مما ألفته نباتات المنطقة الأصلية, وكان لابد من تأمين ذلك إذ كانت زراعة قصب السكر مثلاً يمكن أن تنمو.

من هنا جاءت العناية بجميع وسائل جمع المياه والري, فكان أول ما قام به مهندسو الري - وهم جماعة من أهل الزراعة والمعرفة الهندسية العملية - أن أحيوا ما كان قائما من قبل على نحو ما عرف من شادوف أو حفر بئر حيث يمكن أن يكون ماء (من معرفة سابقة أو اكتشاف جديد) وإقامة السدود وإحياء الترع والاهتمام بالقنوات وإحيائها وإحياء الناعورة ونشرها.

وزاد في الحاجة إلى الماء نمو المدن, كل هذا أهاب بهؤلاء المهندسين أن يبتكروا أساليب جديدة أهم ما فيها جمع وسيلتين للإفادة من المياه, خاصة إذا كانت كمية المياه تسمح بذلك. فقناة حيلان التي كانت توصل الماء إلى حلب من نهر قويْق المجاور نسبياً, كانت تروي البساتين الواقعة على الطريق, والترعة التي كانت تزوّد أغماث في المغرب الأقصى كانت تعطي مياهها لري الأرضين على جانبيها أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء.

ومما يعود إلى المهندس العربي استخدام الأجران (الأجُن - الصهاريج) الطبيعي منها والمحفور في الصخر أو المصنوع من الفخار - لتجميع المياه.

وقد كانت القيروان تتمتع بالكثير منها, ولاتزال موضع زيارة, على ما عرفتها.

التحكم في المياه

وأهم ما أضافه المهندس العربي هو التحكم في القناة أو الترعة بحيث يمكنه أن يجعل الأخيرة خاصة على أكثر من درجة واحدة, فيمكن أن ترفع المياه (أو تخفض) بحيث تكون الإفادة منها تامة ومنوّعة.

كما تفنن في قضية توزيع المياه من خلال القنوات والترع - بحفر قنوات جانبية أو بناء ترع من هذا النوع.

وقد مر بنا أن القناة فارسية الأصل, وقد انتشرت في تلك المنطقة يومها. واتسع انتشارها قبل الإسلام إلى بعض المناطق القريبة مثل غرب أفغانستان وخوزستان (في جنوب إيران الحالية). لكن انتشارها تم بعد قيام الدولة العربية الإسلامية في المنطقة نفسها, وفي الجوار في بلاد الشام واليمن ثم في مصر (وقد كان ثمة قناة واحدة في مصر تعود إلى الأزمنة القديمة) والشمال الإفريقي (إلى حد خط 20 شمال خط الاستواء على ساحل الأطلسي) وبلاد الأندلس.

وقد ترتب على ذلك أن المنطقة التي كانت تحت النفوذ العربي الإسلامي قد زوّدت برقع واسعة من الأرض المروية, إذ وصل الماء إلى نقاط لم تعرفها من قبل. وكانت الموارد المائية تستعمل إلى آخر نقطة منها وعلى أفضل وجه. وهذا يسّر للمدن أن تنال, على وجه العموم حاجتها من الماء, الذي قد يصل إلى المدينة (والأرض التي على طريقها أو حولها) في قنوات قد تبلغ حتى نحو خمسين كيلومتراً. كما أتاح للفواكه والخضراوات والأشجار الخشبية والزهور التي وصلت إلى المنطقة الممتدة إلى الأندلس أن تينع ويحين قطافها - حبوباً نافعة وفواكه طيبة وأزهاراً تملأ الجو والبيوت بطيب الرائحة.

الزراعة محصلة القوت

يقول ابن خلدون: (هذه الصناعة (الفلاحة) ثمرتها اتخاذ الأقوات والحبوب بالقيام على إثارة الأرض لها وازدراعها, وعلاج نباتها, وتعهده بالسقي والتنمية إلى بلوغ غايته, ثم حصاد سنبله واستخراج حبه من غلافه واحكام الأعمال لذلك, وتحصيل أسبابه ودواعيه. وهي أقدم الصنائع لما أنها محصلة للقوت المكمل لحياة الإنسان غالباً, إذ يمكن وجوده من دون جميع الأشياء إلا من القوت). (المقدمة, بيروت, ط 2 1961 ص 723).

عني ابن خلدون بالزراعة من حيث ارتباطها بتحصيل القوت, لكن العمل الزراعي فيه أكثر من ذلك.

فهناك الأشجار غير المثمرة التي تزوّد الناس بالأخشاب للصناعة والحطب للوقود, والرياحين والزهور وما إلى ذلك.

وهذه (الصناعة) معقدة في أساليب الغرس والري والعناية في نواح مختلفة.

وقد ظهرت في المشرق كتب تعنى بالموضوع: ترجمة عن اليونانية والسريانية وتأليفا, لكن الأندلس كانت بالزراعة - أو كما كانت تسمى الفلاحة - أحفل, وبالكتابة عنها اغزر, خاصة في القرنين الخامس والسادس هـ/ الحادي عشر والثاني عشر م. ذلك بأن انحلال الخلافة هناك وقيام دول الطوائف في مطلع القرن الخامس هـ/ الحادي عشر م, أدى إلى وجود دول وبلاطات كانت كل منها تعنى بالأمور الزراعية عناية فائقة.

فمن الجهة الواحدة بدءاً من هذه الفترة فقدت مدن الأندلس تدريجياً موقعها التجاري كوسيط بين البحر المتوسط وغرب أوربا, فأخذت تعنى بالشئون الزراعية. إذ إنه من الجهة الثانية كان غرب أوربا قد ألف الحصول على الكثير من النتاج الزراعي من الأندلس, فعمدت هذه (الممالك) إلى الاهتمام بالزراعة لتزويد تلك الأسواق بحاجتها ولتعوّض عن مصادر الرزق التي خسرتها. فالأشياء التي كانت الأندلس تصدرها إلى غرب أوربا تشمل: العنبر ومواد الصباغة والدباغة مثل الزعفران والقرمز, والزيتون والزيت والفواكه المجففة على اختلاف أنواعها والحبوب والجلود. وكانت المصنوعات الأندلسية تلقى أسواقاً مفتوحة, وفي مقدمتها الورق (الكاغد) والمصنوعات الفخارية, وفي مقدمتها الزلاج, والمعادن من الفضة والزئبق وسواهما.

مهندسو الزراعة

من هنا جاءت العناية بالزراعة تحسيناً للإنتاج وزيادة له. والذي نعرفه أن خمسة من المعنيين بالزراعة كتبوا فيها وهم ابن وافد وابن حجاج وابن بصال وابن العوام ومؤلف مجهول. وفيما وقعنا عليه, فإن كلا من هؤلاء كان ممن يصح أن نسميه مهندساً زراعياً لأنه قام بتجارب متنوعة تتعلق بالأرض والري والزبل والحفاظ على الشجر. فابن وافد كان يدير بستان المأمون من بني ذي النون 429-467هـ/1037-1075م في طليطلة. وابن حجاج ولي شئون حدائق في طليطلة واشبيلية ومثل ذلك يقال عن ابن بصال.

مهندس مجهول

وابن بصال مجهول تاريخ ميلاده, كما أن موته غير معروف زمنه, وكل ما عندنا من أخبار حياته أنه انتقل من طليطلة إلى إشبيلية (أو لعله ذهب إلى قرطبة أولاً) سنة سقوط طليطلة 478هـ/1085م.

وكل ما أمكن الحصول عليه يمكن تلخيصه بما توصل إليه اسين بلاسيوس الذي قال: (كان ابن بصال عارفاً بالفلاحة علماً وعملاً لأنه كان مجرباً خبيراً بالزراعة وبارعاً فيها), ويذكر مؤلف (عمدة الطبيب في معرفة النبات لكل لبيب), وهو المجهول اسماً عن ابن بصال أنه كان عارفاً بالفلاحة علماً وعملاً لأنه كان مجرباً خبيراً بالزراعة وبارعاً فيها وأنه رأى هذا النبات في بستان السلطان وقد زرعه العارف بالزراعة ابن بصّال.

ويضيف المؤلف المجهول: وقد ذكر لي ابن بصال أنه رأى السوسن الأزرق في صقلية والإسكندرية, وأنا رأيت هذا النوع من اسبرج الحدائق في بستان السلطان مما زرعه ابن بصّال. وكل هذه الأنواع من الياسمين تنبت في بلنسية وصقلية والإسكندرية وخراسان. وقد ذكر ذلك غير واحد ومنهم ابن بصّال.

ويبدو, كما استنتج بييكروسا الذي درس كتاب ابن بصال وترجمه إلى الإسبانية الحديثة, أن ابن بصال ساح في بلدان البحر المتوسط, وأنه عني بنباتات البلاد التي زارها, ولعله نقل بعض أصنافها إلى الأندلس.

في طليطلة اهتم ابن بصّال بالزراعة والبستنة, وحصل على أصول علم الفلاحة, لكن دوره الكبير وتجاربه الفلاحية المختلفة حصل عليها لما عهد إليه بأمر بستان (أو جنينة كما كان يسمى) المعتمد بن عبّاد الإشبيلي (461-484هـ/1068-1091م). على أننا لا نعرف سنة وفاة ابن بصال.

وقد اخترنا الحديث عن كتاب ابن بصال (الفلاحة) لأن ما نتحدث عنه هنا هو نتيجة كتابين آخرين الأول صغير والثاني مطول. وقد نقل كتاب (الفلاحة) (هذا إلى الإسبانية في القرن الثالث عشر مع كتاب ابن وافد, وكانا عمدة الفلاحين الإسبان, خاصة كتاب ابن بصال.

وكتاب ابن بصال هو الأقرب إلى المنهج العلمي والناحية العملية التجريبية. ولا يشتط مؤلفه, على عادة كثيرين من الذين كتبوا في الموضوع, فيدخلون فيه الحكايات والأشياء الغريبة. ومن هنا كان اختيارنا للتحدث عن كتاب لمهندس زراعي يمثل الناحية العلمية والعملية في العمل بالأرض وتحسين أحوالها, ليزيد إنتاجها ويجود.

أحوال الأرض

جاء كتاب (الفلاحة) لابن بصّال في ستة عشر باباً موزعة على النحو التالي:

الباب الأول إلى الرابع يتناول فيها المؤلف الأمور الأساسية المتعلقة بالزراعة أصلاً وهي المياه وطبيعة الأرض وأنواعها والسرقين (السماد أو الزبل) واختيار الأرض.

في الباب الخامس إلى التاسع يحدّثنا المؤلف عن الثمار من حيث غرسها وريّها ومواعيد الأمرين, وكيفية ضروب الغراسات والتكابيس وتركيب أشجار الثمار بعضها في بعض وغرائب فن التركيب (التطعيم) وأسراره.

ويخص الباب العاشر بزراعة الحبوب والقطاف, والحادي عشر للبذور التي تستعمل في إصلاح الأطعمة, والثاني عشر للقثاء والبطيخ وما إليهما, والثالث عشر للبقول ذات الأصول (الجذور), والرابع عشر لزراعة خضر البقول, والخامس عشر للرياحين, أما الباب السادس عشر والأخير فهو, على قول ابن بصّال نفسه: (هو باب جامع لمعان غريبة ومنافع جسيمة من معرفة المياه والآبار واختزان الثمار وغير ذلك مما لا يستغني أهل الفلاحة عن معرفتها, إذ هي من تمام أعمالها واستكمال فائدتها).

ففي حديثه عن المياه يقسمها إلى أربعة أنواع هي: ماء المطر ومياه الأنهار ومياه العيون والآبار, ويعين طبيعة كل نوع منها والنباتات التي تناسبها, فعلى سبيل المثال: ماء المطر عذب رطب معتدل, تقبله الأرض قبولاً حسناً, وهو أفضل أنواع المياه وأحمدها ويجود به جميع أنواع النبات.

ويفصّل أنواع التربة في عشرة, مبيناً في صلاحية كل نوع للنبات الخاص بها مع الاهتمام بتفاصيل أنواع السماد اللازم في كل حالة وكمية المياه وعدد مرات السقي. ومثل ذلك يعنى بالزبل المستخرج من الخيل والبغال والغنم والحمام والحمامات والمولد أي المخلوط من التبن والقش وما إلى ذلك.

وهناك تفصيل واف لاختيار الأرض وإعدادها لأنواع النبات التي تصلح لها.

والفصل الذي يتناول فيه التطعيم (التركيب) يدل على خبرة واسعة ودقيقة. وثمة تفاصيل أخرى تدل على أن الرجل كان مولعاً بالتجربة العملية في عمله الزراعي.

ومن ألطف ما عثرت عليه في كتاب ابن بصّال وصفه لطريقتين لإعداد الأرض لزرع بذور القطن, ويسميهما طريقة أهل صقلية وطريقة أهل الشام. ويقابل هاتين الطريقتين بالطريقة الأندلسية. ويصرّ على توضيح تجربته في فتح البئر.

وآمل ألا يحسب القارئ أن الاهتمام بالحديقة وبالتجارب الزراعية كان مقصوراً على الأندلس وفي الفترة التي تحدثنا عنها. كان اختيار الأندلس لتركيز العاملين في الحدائق على التجارب ووضوح الصورة هناك. لكن الحديقة كانت عنصراً رئيسياً في الحضارة العربية الإسلامية في الشرق والغرب.

ذلك أنه لم تخل مدينة من حديقة أو أكثر - من شيراز إلى الأندلس. ولعل النموذج الأصلي الذي احتذي جـــاء من إيران أصلاً. وحب العربي أميراً كان أو ثريــــاً عادياً للحديقة وأزهارها والعطر المنبثق منها واضح في القصـائد الكثيرة جداً التي تتحدث عن هذه (الدرة) في حيـاة المجتمع.

وأصحاب الحدائق الكبيرة والمهمة كانوا حريصين على نقل النباتات - صغيرة كانت أم كبيرة - إلى حدائقهم. وكان القوّامون على الحدائق, في الغالب, أصحاب خبرة وأهل تجارب. لذلك تنوّعت الثمار والخضار والزهور وانتقلت من مكان إلى آخر.

من هنا كان (المهندس الزراعي) أحد صانعي هذه الحضارة العربية الإسلامية.

 

نقولا زيادة