عندما يؤرخ مفكرو الغرب لمسيرة الحضارة الإنسانية كثيرًا ما
يرددون اعترافهم بأن المسلمين قد أولوا اهتمامًا كبيرًا للعلوم الإنسانية ولفنون
الأدب شعرًا ونثرًا، على حين أنهم لم يعتنوا بالقدر نفسه بالعلوم التطبيقية، ويأتي
الكتاب الذي بين أيدينا ردًا لتلك المقولة، وإثباتًا لدور المسلمين في تطوير تلك
العلوم والرقي بها إلى المستوى الذي بلغته في العصر الحديث.
مؤلف الكتاب دونالد هيل مستشرق إنجليزي حصل من جامعة لندن على
البكالوريوس في الهندسة والدكتوراه في التاريخ العربي، وقد كان له اهتمام خاص
بتاريخ الهندسة والتكنولوجيا في العصور الوسطى، ولاسيما بجهود العرب والمسلمين في
هذا الميدان، وشارك في إعداد كثير من المواد في دائرة المعارف الإسلامية، وفي
الإشراف على تحرير مجلة تاريخ العلوم العربية. وقد اضطلع بترجمة الكتاب الدكتور
أحمد فؤاد باشا أستاذ الفيزياء بكلية العلوم في جامعة القاهرة، وعميد كلية العلوم
الأسبق، ونائب رئيس الجامعة السابق، وكان قد حصل على الدكتوراه في الفلسفة «تخصص
الفيزياء» من جامعة موسكو سنة 1974، وهو عضو المجمع العلمي المصري، وفي العديد من
الهيئات واللجان العلمية، وانتخبه مجمع اللغة العربية عضوًا فيه، وله من المؤلفات
أربعون كتابًا مؤلفًا ومترجمًا، كما أنه من القليلين المهتمين بالتراث العلمي
العربي، إذ حقق عددًا من أجلّ ذخائره المخطوطة.
جذور الحضارة الإسلامية
في الفصل الأول من الكتاب يمهد المؤلف لحديثه بطرح مفهوم فكري راسخ،
هو أن كل حضارة جديدة لابد أن تكون قد غذيت بمنجزات أسلافها، فهي أشبه بحلقة في
سلسلة متماسكة أو بنيان مرصوص، يضيف فيه اللاحق إلى ما شاءه السابق. وفي حال
الحضارة الإسلامية، كانت تلك الأسلاف هي الحضارة الهيلينستية والرومانية
والبيزنطية، مع روافد للحضارتين الهندية والصينية. أما الحضارة الهيلينستية فهي
التي سادت العالم من حوض البحر المتوسط إلى فارس والهند منذ اتسعت فتوحات الإسكندر
الأكبر (المتوفي سنة 323 ق.م). وكانت ذات أصول إغريقية، غير أنه شاركت في صياغة
نموذجها شعوب الشرق الأوسط من ذوات الحضارات القديمة، المصرية والبابلية والفارسية،
وكان للبطالمة ورثة الإسكندر أبرز دور في بناء ذلك النموذج الثقافي، وأصبحت
الإسكندرية منذ إنشائها في سنة 331 ق.م هي المركز العلمي الأول لتلك الحضارة
الهيلينستية، واحتفظت بذلك الدور الرئيسي على مدى قريب من عشرة قرون، أي إلى الفتوح
العربية منذ أوائل القرن السابع الميلادي، وذلك بفضل مؤسستيها العتيدتين: مكتبتها
ومتحفها اللذين أصبحا أهم منارات الثقافة فيما بين العصرين القديم والوسيط. وشاركت
الإسكندرية في الحفاظ على ذلك التراث مراكز أخرى في بلاد فارس والشام والعراق
وغيرهما من البلاد الخاضعة للدولتين البيزنطية والرومانية.
وحينما ظهر الإسلام وامتدت فتوحه خارج الجزيرة العربية آل كل هذا
التراث الثقافي إلى العرب، فتعهدوه بالحفاظ والنقل عن طريق الترجمة إلى العربية،
وأضافوا إليه روافد من الحضارتين الهندية والصينية. على أن عملهم لم يقتصر على
النقل، بل آثروه بكثير من منجزات علمائهم، وطبعوه بطابعهم. وسرعان ما أصبحت العربية
هي لغة الثقافة والعلوم منذ القرن الثامن الميلادي حتى السادس عشر، حينما انتقل هذا
الميراث الحضاري إلى أوربا التي بنت نهضتها على ما استفادته من العرب من خلال مدارس
الترجمة من العربية إلى اللاتينية ومشتقاتها الدارجة في إسبانيا وصقلية، وهما أهم
حلقتي وصل بين العالمين العربي والأوربي، وكذلك بفضل الحروب الصليبية في القرنين
الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين.
علم الرياضيات:
بعد هذا العرض العام ينتظم الكتاب أحد عشر فصلاً، أفرد الفصول الخمسة
الأولى منها لعدد من العلوم البحتة. فالفصل الثاني يعالج علم الرياضيات وما ساهم
العرب به في تطويره بعد استيعابهم لكل ما حققه إقليدس وأرشميدس وغيرهما من
اليونانيين، وما أفادوه من الرياضيات الهندية والبابلية القديمة. ويعد في طليعة
الرياضيين العرب الذين ترجمت أعمالهم إلى اللاتينية محمد بن موسى الخوارزمي
(المتوفى حوالي سنة 847 م) الذي عاش في أيام الخليفة المأمون، وإليه ينسب مصطلح
«اللوغارتيمات» تحريفًا لنسبته إلى خوارزم، وابتكار علم جديد هو «الجبر والمقابلة».
واللفظ العربي «الجبر» هو الذي نقله الأوربيون بصيغته العربية Algebra ، إذ لا
مقابل له في لغاتهم، ولم يترجم كتاب الخوارزمي في هذا العلم الجديد إلا بعد ثلاثة
قرون، حينما نقله إلى اللاتينية روبرت الشستري Robert of chester في سنة 1145 م.
وكان للعرب أيضًا فضل في تطوير علم الهندسة الذي بدأوه في القرن التاسع بترجمة
«أصول» إقليدس ومجموعة «السدهانتا» الهندية التي أطلقوا عليها اسم «السند هند».
علم الفلك
ويدور الفصل الثالث على علم الفلك. وقد كان للعرب القدماء اهتمام شعبي
بهذا العلم تمثل في كتب «الأنواء» الذي رصدوا فيه الظواهر السماوية والجوية، ومن
أهمها كتاب يحمل هذا العنوان للعالم الموسوعي ابن قتيبة الدينوري (ت 988 م). ومع
ظهور الإسلام اهتم المسلمون بمواقيت الصلاة وبتحديد اتجاه القبلة، وبداية شهر الصوم
وتحديد الأعياد على أساس معرفة أطوال الظل نهارًا، ومنازل القمر ليلاً. كما كانت
كتب الأنواء المرتبة في شكل تقاويم مفيدة للفلاحين في نشاطهم الزراعي. ومن أمثلتها
«التقويم القرطبي» الذي ألفه ربيع بن زيد الأندلسي في منتصف القرن العاشر الميلادي.
أما علم الفلك الرياضي، فقد بدأ على أساس الأعمال الهندية والفارسية. ويعدّ «زيج
السند هند» لمحمد بن موسى الخوارزمي أهم نموذج لهذا النوع من التآليف الفلكية،
والمقصود بالزيج هو المختصر الفلكي المصحوب بجداول موضحة، ولم يصل إلينا هذا الكتاب
في نصه العربي، وإنما بقيت ترجمة لاتينية له كان قد راجعها وصححها مسلمة المجريطي
(نسبة إلى مجريط وهي مدريد الحالية) في نحو سنة 1000 م. كذلك عني الفلكيون العرب
بكتاب «المجسطي» لبطليموس، وهو أهم المصادر الفلكية اليونانية، وكانت له ترجمات
عربية متعددة أهمها ترجمة إسحاق بن حنين. على أنهم راجعوا عمل بطليموس وقاموا
بتصحيحات مهمة له، كما اهتموا بصنع آلات لرصد حركات الكواكب، ونماذج للكرات
السماوية ولآلات الإسطرلاب التي تعين على تحديد وقت شروق الشمس، ولإيجاد مطالع
النجوم الثابتة. وكان أكمل هذه الآلات - التي اصطلح على تسميتها بـ«الصفيحة» - هي
تلك التي ابتكرها الفلكي إبراهيم بن يحيى الطليطلي المعروف بالزرقالي (ت 1087 م).
وانتقل استخدام هذه الآلة إلى أوربا عبر إسبانيا مع الاحتفاظ باسمها العربي
(azafea). وأما المراصد الفلكية، فقد كانت بداية إنشائها تحت رعاية الخليفة المأمون
في أول القرن التاسع الميلادي، وتتابع إنشاء المراصد في العراق وإيران برعاية
الملوك البويهيين. الفيزياء الفصل الرابع من الكتاب يتناول جهود المسلمين في ميدان
الفيزياء، ويلاحظ المؤلف منذ البداية أن هناك اتجاهين في دراسة هذا العلم: اتجاهًا
تأمليًا نظريًا، وآخر عمليًا تجريبيًا، وكان الأول هو الغالب في العصور القديمة
والوسطى، وهو ما نجده لدى أرسطو، وتابعه فيه علماء المسلمين من أمثال ابن سينا وابن
رشد، وإن كان بعضهم قد تحرر من نفوذ أرسطو، فأخذوا بالأسلوب العملي وحققوا فيه
نتائج بالغة الأهمية. ومن أبرز الفيزيائيين المسلمين أبو الريحان البيروني (ت 1050
م) والشاعر وعالم الرياضيات المعروف عمر الخيام (ت 1123 م) ومعاصره أبو الفتح
الخارق صاحب كتاب «ميزان الحكمة» الذي يعد أشمل مؤلف في الميكانيكا في العصور
الوسطى، وقد أورد فيه جداول للأوزان النوعية لعدد كبير من المعادن ومختلف المواد،
ولا تكاد تقديراته تختلف عمّا وصل إليه العلم الحديث، بل إنها كانت أكثر دقة مما
توصل إليه العالم الأوربي الكبير روبرت بويل (ت 1691 م).
وفي ميدان البصريات كان أرسطو رائدًا لبحث عملية الإبصار، وتلاه من
اليونانيين إقليدس، وبطليموس الذي ناقش مسألة الإشعاع الضوئي. وأما المسلمون فقد
كان من أولهم توفيقًا في علم البصريات الفيلسوف أبو يعقوب الكندي (ت 861 م)، على أن
هذا العلم أحرز أعظم تقدم له على يد الحسن بن الهيثم البصري نزيل مصر (المتوفى سنة
1039 م)، وهو الذي يعد أكبر الفيزيائيين في عالم العصور الوسطى قاطبة. وكان إلى
جانب ذلك رياضيًا وفلكيًا، وفي كتابه «المناظر» شرح جديد لعملية الإبصار يفوق كل ما
أنجزه العلماء اليونانيون والمسلمون من قبل.
وكان عمله مبنيًا على منهجية جديدة. ومما توصل إليه في أبحاثه اكتشافه
لظاهرة الزيغ الكرى، وتفسيره لنظرية المرايا الحارقة، واستخدام «الحجرة المظلمة»،
وملاحظاته حول كسوف الشمس وقوس قزح، وتحديد ارتفاع الغلاف الجوي. ويعد «المناظر»
الذي ترجم إلى اللاتينية أعظم كتب البصريات تأثيرًا في تطوير هذا العلم في أوربا
الحديثة.
الكيمياء
وفي الفصل الخامس يدرس المؤلف إضافات علماء المسلمين في ميدان
الكيمياء، وهو في البداية يفرق بين ما يمكن تسميته بالخيمياء Alchemy، وهي الكيمياء
القديمة المرتبطة بالسحر والتنجيم وعلم الكيمياء الصناعية Chemistry، الذي يعنى
بصناعة منتجات لها نفعها وقيمتها الاقتصادية. أما الخيمياء، فقد كان مولدها في مصر
الهيلينستية في القرن الأول الميلادي، وإن كان أقدم مخطوطاتها يحمل أسماء شخصيات
أسطورية مثل هرمس وإيزيس وديموقريطس. ومن أبرز من عرفوا بالتأليف فيها زوسيموس من
أهل القرن الرابع الذي ينتمي إلى مدينة إخميم في صعيد مصر، وهي المشهورة بمعابدها
الفرعونية، وله في هذا العلم موسوعة عثر على بعض أجزائها. وقد عرف المسلمون أعمال
الخيميائيين المكتوبة باليونانية، وكانت في الغالب معنية بالمعادن ولاسيما بمحاولة
إنتاج الذهب من فلزات خسيسة أو بفكرة إطالة العمر والمحافظة على الشباب. وخلال
القرن الثامن الميلادي تبرز شخصية جابر بن حيان (ت حوالي سنة 815 م)، وهو يعد أعظم
الخيميائيين العرب، وينسب إليه نحو خمسمائة كتاب كثير منها يتناول الموضوعين
المذكورين، إنتاج الذهب، وإطالة العمر، واشتهر بعد جابر أبوبكر محمد بن زكريا
الرازي الطبيب المشهور ذو المقدرة العقلية الفائقة، وهو الذي تحول من الخيمياء
النظرية إلى الكيمياء العملية، كما يتجلى في كتابه «الأسرار» الذي يكشف عن إنكاره
لمحاولات من عاصره من الجابريين إنتاج الذهب والفضة أو إطالة العمر. وأشهر المؤلفات
الكيميائية بعد ذلك هي تلك المنسوبة للعالم الأندلسي مسلمة بن أحمد المجريطي (ت في
1008 م)، ثم كتاب أيدمر الجلدكي المصري (ت 1342 م). وكانت كل هذه الكتب هي معتمد
الأوربيين حتى شطر كبير من العصر الحديث.
وكان الرازي قد شرح في كتابه «الأسرار» ما كان يستعمله في معمله من
مواد وأجهزة وآلات انتقل الكثير منها في الترجمات الأوربية بلغتها العربية. وأما
العمليات التي كان يجريها فتشمل التقطير والتكليس والتذويب والتبخير والبلورة
والتصعيد والترشيح والتشميع. وفيما يتعلق بالكيمياء الصناعية يتبين أن العرب وصلوا
قبل الأوربيين بقرون إلى تقطير الكحول واستخلاص مختلف أنواع الزيوت وصناعات العطور
واستخراج النفط وتكريره قبل أن يحظى بأهميته العالمية، وتحضير الحوامض
والقلويات.
الآلات
وفي الفصل السادس يعرض المؤلف لأنواع مختلفة من الآلات النافعة التي
طوّرها العرب أو ابتكروها، ومنها آلات رفع المياه المستخدمة في مجال الري مما
لايزال مستخدمًا حتى عصرنا الحاضر، ومن هذه الآلات مرفاع البئر وحلزون الماء
والصنبور والساقية والناعورة. ومن أهم المنجزات في هذا المجال كتاب لمهندس يدعى
الجزري في الآلات التي قام باختراعها، وكان هذا العالم يعمل في خدمة بني أرتق
السلاجقة أمراء ديار بكر (في تركيا الآن) في أواخر القرن الثاني عشر، وتوجد مخطوطة
كتابة المؤلف في سنة 1206 في الخزانة البودلية في أوكسفورد، وفيه رسوم لعدد كبير من
الآلات الميكانيكية لرفع المياه والمضخات. وقد قام المسلمون بتطوير الطواحين
المائية التي تتولد طاقتها من سرعة اندفاع المياه، ومن هذه الطواحين نماذج كثيرة في
مختلف بلاد الإسلام، من خراسان وما وراء النهر إلى صقلية والأندلس. ولم تقتصر مهمة
هذه الطواحين على طحن الحبوب، بل استخدمت أيضًا في صناعة الورق بفضل ما استفاده
المسلمون من التجارب الصينية في هذه الصناعة، وكذلك الأمر في آلات الحصار والمجانيق
(جمع منجنيق) الخفيفة والثقيلة.
التقنيات الدقيقة
وفي الفصل السابع تفاصيل طريفة عن التقنيات الدقيقة التي تعد نوعًا من
الهندسة المعنية بضوابط التحكم المعقدة، وهي تشمل أنواعًا من الساعات والأجهزة
الآلية والنوافير وغير ذلك من الآلات التي تصمم للتسلية أو المتعة الجمالية أو
لخدمة أغراض عملية. ومن أهم المصادر التي تبرز دور المسلمين في هذا المجال كتاب
«الحيل» الذي ألفه بنو موسى ابن شاكر في بغداد في أواسط القرن التاسع، ففيه وصف
لمجموعة من الآلات الأوتوماتيكية تدل على مهارة فائقة وسيطرة على المجالات
الفيزيائية، أظهروا فيها تفوقهم على ما أنجزه أسلافهم من أعلام الهيلينستيين.
الجسور والسدود
ويتناول الفصل الثامن جهود المسلمين في بناء الجسور والسدود، أما
الجسور فقد استفاد المسلمون فيها من تجارب الرومان والفرس الساسانيين في بناء ما
عرف بالجسور القوسية، ومنها جسر قرطبة على نهر «الوادي الكبير»، وجسر أرجان في
إقليم فارس بإيران الذي كان يتألف من قوس أو عقد واحد، وكان من بناء الحجاج بن يوسف
الثقفي والي العراق لخلفاء بني أمية، وجسر هراة في أفغانستان الذي بني سنة 990 م،
وفي وصفه يقول الرحالة المقدسي إنه لا مثيل له في خراسان كلها، والجسر الذي بناه
أحمد بن طولون على النيل سنة 884 م بالقرب من الفسطاط. وأما السدود فقد كان الهدف
من إنشائها خدمة نظم الري، وكان من أقدم السدود التي بناها العرب من دون الاستناد
إلى تجارب الأمم السابقة سد مأرب الذي بدأ إنشاؤه في نحو سنة 900 ق.م، وأعيد بناؤه
عدة مرات بعد سلسلة من انهيارات متعددة كان آخرها سنة 574 م. ومنها في ظل الإسلام
سد الطائف الذي بني سنة 677 م ولايزال قائمًا حتى اليوم. ومن السدود التي تعد من
أعظم المنجزات في الإسلام ذلك الذي بناه عضد الدولة البويهي في سنة 960 م على
نهركور بين مدينتي شيراز واصطخر، وكان يقوم على حائط كبير مقوى بالرصاص، وشكلت
المياه الواقعة وراء السد بحيرة كبيرة، وأقيمت على جانبي السد دواليب مائية، وتحت
كل دولاب طاحونة بحيث كانت القنوات الخارجة من البحيرة تروي ثلاثمائة قرية، ويبلغ
طول هذا السد حوالي 250 قدمًا وارتفاعه ثلاثين، وهو يعد الآن إحدى عجائب إقليم
فارس. وكان الرومان مهرة في بناء السدود أقاموا الكثير منها في بلاد الشام وفي
ليبيا وتونس وشبه جزيرة إيبريا. وقد حافظ المسلمون على هذه السدود، وأضافوا إليها
سدودًا جديدة، ومن أهمها سد قرطبة أقدم سدود الأندلس، ثم ما تلاه من منشآت مماثلة
جعلت من إسبانيا في ظل الحكم الإسلامي أكثر البلاد الأوربية ازدهارًا في مجال
الزراعة. ويجدر بنا أن نشير إلى ثمانية سدود أقامها المسلمون على نهر توريا Turia
في منطقة بلنسية، وقد وصف الجغرافي الإدريسي بالتفصيل هذه السدود التي لاتزال باقية
حتى اليوم، وكذلك السدود التي بنوها على نهر شقورة R.Segura، وبفضلها أصبحت منطقة
مرسية من أحفل مناطق إسبانيا بالحاصلات الزراعية، ولا تختلف التقنيات التي اتبعت في
إنشاء تلك السدود عمّا استخدمه المسلمون في بلدان الشرق الأوسط وإيران، وهي تقنيات
استفاد فيها المسلمون من تجارب المصريين وشعوب الرافدين قبل ظهور الإسلام بثلاثة
آلاف عام.
الهندسة الهيدروليكية
ويعالج الفصل التاسع الهندسة الهيدروليكية المتعلقة بالري وإمداد
المياه، وهو يبدأ بالتعريف بأربع طرق مختلفة للري: الأولى ري الحياض على ضفاف
الأنهار ذات الفيضانات المتوقعة في تواريخ ثابتة، وهو ما كان متبعًا في مصر العليا
حتى إنشاء السد العالي، والثانية الري الدائم عن طريق شبكة من القنوات متفرعة من
مجرى النهر الرئيسي لسقاية المحاصيل الزراعية بطريقة منتظمة طوال فصول السنة، وهي
التي كانت متبعة في سهول العراق ودلتا النيل، والثالثة ري المصطبات المدرّجة في
مناطق الهضاب الجبلية، وهي المستخدمة في بلاد الشام وفلسطين والهند والصين وأمريكا
الجنوبية قبل الفتح الإسباني، والرابعة هي الري بواسطة الأودية، وذلك في المناطق
المعتمدة على المطر، حيث تقام سدود تضمن تجميع المياه الناتجة عن الأمطار والسيول.
ومن نماذجها سد مأرب في اليمن، أما نظام الري في غالبية البلاد الإسلامية من آسيا
الوسطى إلى إسبانيا فقد قام على طريقة الري الدائم.
المساحة
ويدور الفصل العاشر حول منجزات المسلمين في مجال المساحة، وهو يعتمد
هنا في المقام الأول على مصدرين: كتاب للمهندس محمد بن الحسن الكرجيّ الذي عاش في
بغداد وتوفي بعد عام 1019 م في ظل الدولة البويهية، والكتاب بعنوان «إنباط المياه
الخفية» أي استخراج المياه الجوفية، وهو في الهندسة الهيدروليكية، إلا أنه يتضمن
قسمًا خاصًا بالتسوية المساحية، وأما الكتاب الآخر فهو لمؤلف مجهول عاش في الربع
الثاني من القرن الحادي عشر، وعنوانه «الحاوي للأعمال السلطانية والرسوم
الديوانية»، وفيه أيضًا فصول تعالج آلات تسوية الأرض واستخدامها، وكذلك المساحة
الكمية.
التعدين
ظفر التعدين من المسلمين بعناية كبيرة، والمعلومات الخاصة بالمعادن في
عالم الإسلام توجد في الكتب الجغرافية والمؤلفات الكيميائية، وكتب علم المعادن
والأحجار، وقد تتبع المؤلف في هذا الفصل - وهو الحادي عشر - مناجم الذهب والفضة
والرصاص والزنك والنحاس وصناعات الحديد والزئبق والملح والشب اليمني والقصدير
والأحجار الكريمة في سائر البلدان الإسلامية. وحينما تفتتت الخلافة العباسية وتحولت
ولاياتها إلى دويلات ظهر عدم التكافؤ في توزيع الرواسب المعدنية في تلك الدويلات،
بحيث أصبح بعضها يعاني نقصا في المواد الخام الأساسية. ومن أمثلة ذلك معدن الحديد
الذي لم تعد مناجمه في بلاد الشرق الأوسط كافية، مما جعلها تستورده من أوربا، على
الرغم من معارضة السلطات الكنسية لذلك باعتباره تقوية للمسلمين، ومع ذلك فقد عقد
صلاح الدين الأيوبي معاهدة مع مدينة بيزا الإيطالية سنة 1171 لإمداد مصر بالحديد.
وفي هذا الفصل شرح لتقنية استخراج المعادن سواء ما كان منها على سطح الأرض أو في
باطنها. وقد وصف الإدريسي مناجم الزئبق في شمال قرطبة فذكر أنها كانت بعمق 250
باعًا ( 1500 قدم) في باطن الأرض. وفيما كتبه بنو موسى بن شاكر وصف للآلات التي
ابتكروها لرفع الخامات، كما أن هناك أوصافا لطرق تهوية المناجم، وكذلك لآلات تعين
على تنفس الغواصين وصيادي اللؤلؤ من أعماق البحار. وقد تحدث البيروني طويلاً في
كتابه «الجماهر» عن طرق تعدين الحديد والفولاذ كما تضمن معلومات بالغة القيمة في
ميدان الجيولوجيا.
انتقال المعرفة الإسلامية إلى أوربا
ونأتي إلى الفصل الثاني عشر، وهو الأخير، وفيه يجمل المؤلف ما فصله في
الصفحات السابقة، وذلك في حديثه عن مسالك الثقافة العلمية العربية إلى أوربا. وذلك
بفضل حركات الترجمة المتوالية من العربية إلى اللاتينية أو اللغات المشتقة منها،
وهي حركات كانت إسبانيا المسيحية هي مركزها الأول بحكم جوارها واتصالها المستمر
بالأندلس الإسلامية.
وكانت المرحلة الأولى من الترجمة هي الجهد المتواضع الذي قام به بعض
رهبان دير ريبول Ripoll في إمارة قطلونية (على مقربة من برشلونة) لترجمة بعض
المخطوطات العربية التي استجلبوها من جيرانهم مسلمي الأندلس. وفي هذا الدير درس
الراهب الفرنسي جربرت دي أوريّاك Gerbert de Aurillac (ت سنة 1003) الذي تولى
البابوية بعد ذلك باسم سيل? ستر الثاني Silvestre II. وكان من بين ما نقله بعض
المؤلفات العربية عن آلة الإسطرلاب. وتأتي بعد ذلك المرحلة الثانية في القرن الثاني
عشر، وهي أكثر خصوبة ونشاطًا من سابقتها، وتتمثل في مدرسة مترجمي طليطلة (في نحو
سنة 1130)، وكانت برعاية كبير أساقفة المدينة ريموندو Raimundo بعد أن انتزعها ملك
فشتالة المسيحي من أيدي المسلمين في سنة 1085. وعلى هذه المدرسة التي قامت بترجمة
عدد هائل من المؤلفات العربية في مختلف العلوم كان يتوافد عدد كبير من طلاب المعرفة
من مختلف البلدان الأوربية.
وكان المترجمون فيها إما يهودًا أو مسيحيين مستعربين يجيدون العربية.
ثم تأتي المرحلة الثالثة خلال القرن الثالث عشر، وكان راعي الترجمة فيها ملك قشتالة
ألفونسو العاشر الملقب بالحكيمAlfonso el Sobio. وفي هذه المدرسة التي كان مقرها في
مدينتي إشبيلية ومرسية ترجم تراث عربي وفير من كتب العلوم: في الرياضيات والفلك
والفيزياء والكيمياء، وأصبحت أسماء مؤلفين مسلمين مثل الفارابي وابن سينا وابن رشد
والبتاني وغيرهم مألوفة في الأوساط الأوربية. وقد شارك في هذا الجهد بيئة أوربية
أخرى كان للمسلمين فيها وجود استمر قرون عدة هي صقلية في ظل ملوك النورمنديين،
ولاسيما فريدريك الثاني المعاصر لألفونسو العاشر، وكان مثل رسيله الإسباني متشبعًا
بالثقافة العربية، وكان يستعين في جهوده بالعالم الوافد على بلاطه وهو ميخائيل
الأسكوتلاندي إلى جانب عدد من المترجمين المسيحيين والمسلمين.
وقد استمرت جهود الترجمة بعد ذلك حتى القرن السادس عشر وكانت الترجمات
تخضع لمراجعات وتصحيحات مستمرة، كما أن اكتشاف الطباعة منذ القرن الخامس عشر أعان
على نشر تلك الترجمات، فضلاً عن نشر كثير من نصوص الكتب العربية.