حسن سليمان.. اليد لا تمسك بالمحبوب

حسن سليمان.. اليد لا تمسك بالمحبوب

الكتاب المطبوع الذي يضم أعمال الفنان هو بالنسبة له حياة متجددة ومتحف مفتوح يسعى إلى الجمهور ولا ينتظر انتقال الجمهور إليه، سيما إذا تم إخراجه وطباعته بطريقة جيدة تحافظ على الألوان الأصلية للفنان وتقدمها بأحجام مناسبة على ورق صقيل، مشمولة بالبيانات التوثيقية عن كل لوحة: أبعادها وخاماتها وتاريخ إنتاجها.

هذه العوامل جميعًا تتوافر بكل السخاء والأناقة في الكتاب الذي صدر أخيرًا بالكويت عن الفنان المصري الراحل حسن سليمان (1928-2008) كعمل تطوعي وثقافي من خارج المؤسسات الرسمية، جُمع له التمويل من مؤسسات مالية عدة تعمل بالقطاع الخاص وأفراد مهتمين بالفن والثقافة، والحق أن الجهد الذي سبق إصدار الكتاب يفوق ما بذل لإخراجه وطبعه، ذلك أن أغلب لوحات الفنان تفرقت على مدى السنوات الخمسين السابقة لرحيله بين مقتني فنه ومحبيه، وكان الوصول إلى ما يزيد على 200 لوحة وإضافة المادة التوثيقية لها يحتاج إلى فريق عمل كامل، فيما كان الفنان نفسه غير مبال بعمل ذلك.

وقد قدم للفنان فنان عربي كبير قام بكتابة رؤيته عنه. هو الفنان العراقي ضياء العزاوي، والناقد التشكيلي المصري صبحي الشاروني قام بكتابة دراسة تاريخية عن الفنان وسط مسار الحركة الفنية المصرية وموقعه منها وجوانب تفرده وتميزه.

لقد كنت في مراحل متفرقة قريبًا من حسن سليمان، ففي شبابي المبكر عام 1966 عملت معه بقصر ثقافة جاردن ستي بالقاهرة، وكان مسئولاً عن مراسم الفنانين الهواة آنذاك فيما كان يطلق عليه الجامعة الشعبية، وكان شبه متفرغ للرسم في مرسم خاص بالقصر، ما أتاح لي الاقتراب منه أثناء عمله، ثم طمعت في أن يرسم بعض الرسوم داخل إحدى مجموعاتي القصصية وهو ما رحب به، وقد صدرت عام 68 بعنوان «المثلث الفيروزي»، ثم أخذت الحياة بعد ذلك كلاً منا في طريق مختلف، إلا أننا كنا نلتقي بين الحين والآخر في مرسمه أو خارجه، كنت أنا أحرص في البداية على أن تكون علاقتي به هي علاقة التلميذ بالأستاذ، فيما كان هو يحرص على إشعاري بأننا صديقان، فيفضفض لي عن همومه وشواغله ومواقفه ومخاوفه، خاصة بالنسبة لعملاء أجهزة أمن الدولة. كان الاقتراب منه عملية شديدة الصعوبة والتعقيد، كسلك كهربائي مكشوف يمكن أن يكهربك في أي لحظة لو اخترت الوقت غير المناسب للمسه... كانت حالته مزيجًا من الاكتئاب والانبساط، من الخوف والتمرد، من الإقبال على الحياة والنكوص عنها، وفي أغلب الأحيان كان يحمل مرارة شديدة وشكوكًا عميقة تجاه السلطة والنظام، بل ومؤسسات وزارة الثقافة التي كان من المفترض أن يعمل بها، لكنه استطاع فرض واقع معين على قيادته عبر المراحل المختلفة، وانتهى ذلك إلى أن يصبح اتفاقًا ضمنيًا بألا شأن لأحد الطرفين بالآخر، وهكذا ضمن الاستقلال التام والحرية المطلقة في تعامله مع أجهزة الحكومة.

وبعيدًًا عن شخصيته القلقة، حاولت قدر الإمكان أن أستوعب الجوانب الخفية في إنتاجه، كان دائمًا يحيّرني لسهولته وبساطته المفرطة في الرسم، حتى ليظن صاحب النظرة السطحية بأنه أحد رسامي يوم الأحد من الهواة الذين يمارسون الفن لإشباع هوايتهم بغير «حرفنة»، لكنني اكتشفت أن وراء هذه البساطة وذلك الزهد اللوني الشديد درجة عالية من الاختزال الفني البليغ، وقد رأيت كيف يعيد الرسم بالفحم على الورق أكثر من مرة قبل أن يستقر على التكوين الأخير الذي ينفذه بالألوان الزيتية، ورأيت كيف يتخلى في كل مرة عن كثير من التفاصيل حتى يمسك في النهاية بلب التكوين البصري وبوحدته المتماسكة، ولاحظت تكرار لوحاته «للطبيعة الصامتة» التي تحتوي على زجاجات فارغة أو بعض قطع الفخار أو الأواني النحاسية والمخلفات المنزلية حتى تشعر بأنه يعيد إنتاجها عشرات المرات لأسباب تجارية، لكن سرعان ما تدرك أنها ما هي إلا تجارب متصلة للبحث عن جوهر الأشياء وعلاقتها بالأضواء والظلال، كما لاحظت أن طبقاته الملمسية السميكة بسكين الألوان والفرش التي تغلب عليها درجات اللون الرمادي، تخفي تحتها العديد من الألوان، وتكشف عن توتر داخلي وكأنما تريد تلك الطبقات اللونية أن تطل من بين ثنايا السطح الرمادي الهادئ.

الموديل

وكانت تحيّرني دائمًا علاقته بـ«الموديل» وهي عادة فتاة فقيرة من بيئة شعبية تجلس أو تقف أمامه ساعات طوالاً ليرسمها في مقابل أجر معلوم، لم يكن يبدى تعاطفًا معها أو إشفاقًا على وضعها القاسي وظروفها غير الإنسانية التي تضطرها لذلك، كان بالغ القسوة وهو يأمرها وينهرها لتجلس جامدة كالكرسي الذي تجلس عليه من دون أدنى حركة، ثم تراه في فترة راحتها يتبسط معها وقد يلاطفها ويعطف عليها كإنسانة، حتى أدركت أنه قد جعل من النور المتدفق على وجهها وجسمها من باب الشرفة وما يحدثه من ظلال وحركة بصرية، عنصر البطولة في اللوحة، ما يجعل من «الموديل» طبيعة صامتة مثلها مثل بقية الأشياء التي يرسمها، أما المشاعر والمعاني الإنسانية - بل حتى المشاعر الجنسية أحيانًا - فكان يختزنها بداخله ثم يسقطها في النهاية على الموديل ولا يستمدها من تلك الفتاة المسكينة، وكثيرًا ما كان ذلك التجاهل لمشاعرها يؤدي إلى غضبها وتمرّدها وهربها.

لكن المحصلة في النهاية تأتي لصالح التعبير عن إنسانيتها، المهيضة أو النبيلة، تعبيرًا عن لحظات الحزن الكامن أو الانتظار اليائس، أو عن إعلان فتنتها، أو وقوفها المتباهي بأنوثتها، أو جلوسها المتعالي عن كل ما يدور حولها، أو انشغالها حتى بنشر الغسيل على الحبال فوق السطوح تحت حمام من النور الساطع.

في لوحاته عن الحواري التي نسيها الزمن في الأحياء الشعبية - الأزهر، الحسين، الغورية، الدرب الأحمر، الجمالية - تراه ينسج من الحارة القديمة الشاهقة بمشربياتها وكوابيلها، وحركة الزحام البشري على أرضها نسيجًا متلاحمًا يستحم بضوء الشمس الحارق للدرجات الوسيطة بين الأسود، والأبيض حتى تبدو البيوت والأشخاص، وقد قدت من الأحجار نفسها، مما يوحي بأن المشهد ينتمي إلى عصور سحيقة، وقد تم تجميده بغتة كما يحدث في قصص ألف ليلة وليلة، لكن الحركة تتولد بصريًا عبر هذا الحوار الدائم بين الضوء والظلال بإيقاعه الشرقي بين البطء والسرعة، حتى الهرولة في إيقاع عصبي.

كان في عشقه لبنات البلد من البائعات الفقيرات في سوق التبليطة بالأزهر بملابسهن السوداء المنسدلة لا يخفى اهتمامه الفني بمظهرهن، ويرى فيهن فطرة وحشية تتحدى المظاهر التقليدية وتعطي للمرأة تفوقها المعنوي على الذكور، كان يسعى لمطاردة هذا الجمال الوحشي المستحيل في لوحاته عبر اسكتشاته السريعة التي يسجلها في المكان نفسه، وتظل محتفظة بطزاجتها بما يجعله يحتفظ بها ويعرضها كما هي: مجرد اسكتشات خطية تتراقص فيها الظلال والأضواء.

في كثير من الأحيان كان حسن سليمان يبدو كطفل مدلل، حرون، دائم الاعتراض والتمرد، بوسعي أن أقول إنه كان طفل العالم غير المدلل، الذي دفعه فضوله المبكر للاكتشاف، إلى شجرة التناقض المحرّمة، ليأكل من ثمارها الوحشية المشتهاة، التي تحتوي على بذور التمرد اللاذعة، ذلك الطفل الأبدي - حتى لو فقد براءته - يظل عمره مكتويًا بالتناقضات، وكلما احتدم التناقض بين الأضداد في العالم الذي يعيش فيه أو في داخل نفسه، بين الموجود وبين ما ينبغي أن يوجد، احتدمت عنده الرغبة في التعبير، وربما اكتفى في تعبيره بأن يشكو أو يئن أو يصرخ، وربما اكتفى بتجسيد حيرته وضياعه وعجزه، وربما راح يخلق لنفسه عالمًا جديدًا مثاليًا لا يسمح بالدخول فيه لغير الجمال، وربما اندفع رافضًا أسباب هذا التناقض ثائرًا عليها داعيًا لتغييرها، وهو في كل الأحوال مدفوع برغبة هائلة لتحقيق التوازن بينه وبين عالم مختل، حتى إذا فرغ شحنته واستراح إلى حالة ما من التوازن - أو ظن ذلك - نشب التناقض مرة أخرى بينه وبين الحالة الجديدة - وهكذا قدر عليه أن يظل دائمًا على حافة التمرد - التمرد على كل شيء، على عصره، على مجتمعه، على واقعه، حتى على نفسه!

التعبير بالقلم

حسن سليمان كان يملك - إلى جانب موهبته كمصور - موهبة التعبير بالقلم، تحمل كتاباته آراءه ورؤاه حول الفن والوجود وحول مشاعره الذاتية تجاههما، لا يكترث بالمنهج الأكاديمي أو بالتأصيل الأيديولوجي، بل يسقط أفكاره ورؤاه وأحاسيسه على الورق، كما يرسم تمامًا، نوع من الكتابة الفنية الحرة، تجمع بين الفكرة والحكمة والحالة النفسية والتأملات الوجودية.. وخيرًا فعل ناشر الكتاب حين اختار مجتزآت منها تنشر كنصوص مصاحبة للوحات، وهنا أختار نصًا من كتابه «حرية الفنان» يعبر بوضوح عن حالته النفسية القلقة.

«.. وكثيرًا ما ينهي الفنان تلك الحالة من العذاب فيصرح بما في أعماقه، بهدف أن تتخذ النفس التي مارست تأرجحها ما بين إيجابياتها وسلبياتها - وقفة تكون هي الرمز، فيذهب إلى السجن أو إلى الموت.. وعلى هذا الطريق ذهب المسيح وسقراط والحسين والحلاج وجاليليو وغيرهم.

وبالمقابل فإنه قد يستمر في تمزقه وفي عمله وعذابه كنوع من ممارسة الانتحار، ويعبر بإبداعه عن تذبذبه أو تأرجحه، ويتجسد عذابه - في نسيج عمله الفني - صراعًا متكاملاً دون وجود زمني.

وإن كان له زمان وجودي، فهو زمان يتحقق في حركة صراع النقيضين، مد وجزر يتتابعان، تجمد ينتهي بذوبان، وذوبان مصيره التجمد».

ورحلة حسن سليمان مع الفن بدأت أوائل الخمسينيات قبل أن يتخرج في كلية الفنون الجميلة - من مرسم الفنانين بالقلعة (بدرب اللبانة) وسط ذلك التجمع الشهير في تاريخ الحركة الثقافية المصرية المعاصرة في أواخر الأربعينيات من أدباء وفنانين، ساسة ومفكرين، نقاد وصحفيين.. من المصريين وغير المصريين.. بعضهم ترك أثره على الإبداع والفكر والثقافة وصار من أعلامها بالرغم من توالي الأجيال، والبعض مضى بلا بصمات تدل عليه، لم تكن تجمعهم مدرسة فكرية أو سياسية أو جمالية واحدة، لكن كان يجمعهم شيء عام: هو إيمانهم بفساد العصر، وبحتمية التغيير والتقدم وبأن يكون للمثقف والفنان موقف. وبأنه ضمير اجتماعي.

لم يكن يقلقهم أنهم يتحدثون بلغة لا يفهمها أبناء الشعب البسطاء في ذلك الحي التاريخي، كما لم يكن يزعج هؤلاء البسطاء أنهم لا يفهمون ما يقوله أو يفعله هؤلاء الفنانون غريبو الأطوار، مادام انتفى الشعور بالاغتراب وحل محله شعور بالانتماء الحميم إلى الروح المصرية، ورغبة متبادلة في التواصل والتكافل، ولنذكر - على سبيل المثال - بعض الأسماء في ذلك الجمع الشهير من الفنانين، كنا نجد: رمسيس يونان، فؤاد كامل، كامل التلمساني، إبراهيم شهده، ممدوح عمار، بيبي مارتان، موسكاتيللي، حسن فتحي، جمال كامل، أبو العينين، ومن الأدباء كنا نجد: إحسان عبدالقدوس، فتحي غانم، لويس عوض، جورج حنين، ومن الصحفيين كنا نجد: كامل زهيري، إبراهيم عامر، أحمد بهاء الدين، محمد عودة.. إلخ.

وفي هذه المدرسة تربى وعي حسن سليمان، لكنه سرعان ما اختار طريقه المستقل عن التيار الغالب على تلك الجماعة، فبينما كان ذلك التيار يؤمن إيمانًا مطلقًا بالمدارس الغربية الجديدة في حمأة حروبها الاستعمارية البائسة، باعتبار أن هذه المدارس اتخذت موقف الرفض والتمرّد على تلك الحضارة، مثل مدارس السريالية والتعبيرية والدادية، وبينما كان ذلك التيار يؤمن بالتقدم والثورة إيمانًا رومانسيًا، مما جعل أصحابه نهبًا للتناقض مع أنفسهم بين التبعية والانتماء، وجعلهم مثل شتلة لم تزرع جيدًا في التربة، فإن حسن سليمان مع مجموعة قليلة من الفنانين أبرزهم إبراهيم شهده وممدوح عمار، كانوا يشكلون تيارًا آخر يؤمن بالواقعية، والواقعية كانت تعني الانتماء الكامل للحياة المصرية.

القاهرة

أحياء القاهرة الشعبية، حواريها الضيقة، طرزها المعمارية، كانوا يشعرون بحنين جارف إلى عبق التاريخ وعمق الأصالة فيها وإلى أن يستحضروها حية كما قرأوها في كتب التغريدي والمقريزي وابن إياس والجبري، حتى ليكاد المرء أن يشم رائحتها. والغريب في الأمر أن رائد هذه المجموعة الصغيرة من الفنانين الشبان كان فنانًا فرنسيًا يقوم بتدريس الفن بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة هو بيبي مارتان!

وحسن سليمان يدين لبيبي مارتان بأشياء كثيرة، يدين له بداية باكتشاف القيم الجمالية الكامنة في الطرز المعمارية والحواري الشعبية، واكتشاف العلاقة الجدلية بين الأشياء والإنسان، بين الأشكال والفراغ، بين النور والظلال، لكن الأهم من ذلك كله - والذي لم يُعلّمه أحد لحسن سليمان - هو اكتشافه للعلاقة الجدلية بين كل تلك القيم الجمالية الثابتة وبين واقع متحرك مليء بأنفاس الحياة، وهو يصل بالفنان وبالمشاهد في النهاية إلى هالة من الانتماء، أو إلى مشارف الموسيقى أو الشعر.

إن تعاليم بيبي مارتان أو جارو هربرت اللذين تتملذ عليهما حسن سليمان فترة من الزمن بالنادي الأرمني، كان يمكن أن تخرج لنا رسامًا بارعًا يعطي صورة متماسكة رصينة تضاهي صور رسامي الحملة الفرنسية في كتاب وصف مصر، أو صور الواقعيين الأوربيين في القرن الماضي، لكن ما كان لها أن تخرج لنا شاعرًا دراميًا للحارة المصرية. إن ما يخلق الشعر العظيم هو عشق عظيم، وهذا ما كان يمتلئ به حسن سليمان. لكن العشق الممتلئ بالرضا والقناعة لا يفجّر الوجدان المبدع، بل يفجّره الوجه الآخر لذلك العشق، وهو الألم.. الألم من أن اليد لا تكاد تمسك بالمحبوب، وكلما اقترب منها ابتعدت عنه، ويشب القلق، فالصراع، فالتمرّد، فالوصال على متن الخيال أو الفن، تمامًا كحالات الصوفيين.

وكم من عشّاق أو صوفيين أو شعراء أو فنانين سقطوا صرعى عشقهم اليائس، فانطووا داخل ذواتهم مصابين بالإحباط أو بالتشاؤم أو بالجنون، وقد بدا لفترة أن حسن سليمان على مشارف إحدى تلك الحالات إن لم يكن جميعها، لكن ما أنقذه منها شيء واحد: هو وعيه الفكري الذي يعانق وجدانه غالبًا في ضفيرة لا تنفصم، وحتى عندما لجأ إلى أسلوب التحطيم والتشويه للمعشوقة - سواء كانت امرأة أو بناء أو إناء - أو إلى إغراقها في الظلال معطيًا كل أضوائه لنفايات الأشياء أو (روبابيكيا) الحياة اليومية - فيما يسمى بالطبيعة الصامتة - كان واعيًا كل الوعي بذلك، كان يصارع بداخله شخصين في وقت واحد: اليائس والمتمرد.. كان يستثير اليائس لينهض ويحطم القيد، وكان في اللحظة نفسها يلجم المتمرد ويفرض عليه نظامًا جماليًا صارمًا يعيد التوازن إلى العالم المجنون. من هنا تبدو معظم لوحات حسن سليمان محيرة وإن بدت شديدة الوضوح، غريبة وإن بدت عادية تمامًا، جامدة وإن بدت مفعمة بالحيوية، مرتعشة وإن بدت غاية في التماسك، قاتمة وإن بدت عنيفة الضياء، يستوي في كل ذلك أن كان ما يصوّره امرأة عارية أو بيتًا مهجورًا أو حارة تضج بالحياة أو حوشًا للمقابر أو آنية للزهور أو ثمرة معطوبة أو حادثًا عرضيًا في دراما الحياة اليومية.

وقد يلجأ إلى محاكاة الواقع حتى لتكاد تشك في أنه ينقله من صور فوتوغرافية، لكنك بعد قليل من التأمل تكتشف أن ما أوصلك إلى هذا الشك ليس شدة محاكاته للواقع، وإنما شدة حضوره الدرامي كالممثل الذي تتضح بالصدق كل كلماته / ولعل الأمر يحمل في طياته تناقضًا آخر، فهذا الذي يبدو لنا في لوحته واقعًا قد يكون رد فعل ضد الواقع نفسه، مثلما تباغت امرأة دون مكياج، وقد تعودت ألا تراها إلا بقناع من المساحيق والألوان، إن قوة الموقف ليست فقط في اكتشاف الوجه الحقيقي بل أيضًا في المباغتة نفسها.

وبالرغم مما يخيم على لوحاته من كآبة وأحزان وعبثية، تؤكدها الألوان القاتمة - أو اللاألوان بمعنى أصح، حيث لا نجد غالبًا غير الأسود والأبيض بدرجاتهما، درجات البيوت القاهرية المتربة - كما يؤكدها السكون الظاهري في عناصره وأشكاله، وخشونة الحياة التي لا تخلو من قسوة، ويجسّدها اختياره لمهملاتها الملقاة من السلم الخلفي أو على أرصفة وكالة البلح، بالرغم من ذلك فإن لوحاته تنضح بإنسانية عذبة متفائلة، حتى لتشعر بالتواصل مع أشيائه القديمة التي تمتلئ بها لوحاته ومرسمه، تكاد ترى فوقها بصمات الإنسان والزمن، وتشعر بالعطف والحنان عليها، الشعور نفسه تحس به نحو الأماكن التي يصوّرها، لكأنها تتنفس رائحة الإنسان.

وبالرغم من أنه يؤكد دائمًا أنه ضد التعبيرية والسريالية الذاتية المغلقة، فإن من اليسير أن تكتشف في لوحاته شحنات تعبيرية تنتظر لمسة لتنفجر، وبعضًا من الإيماءات السريالية والرمزية، وكثيرًا من إشراقات الصوفية وزهدها، وجنونها أحيانًا!

لقد عاش حسن سليمان أكثر من 50 سنة في الحركة الفنية نائيًا عن أي انتماء إلى تشكيلات فنية أو ثقافية أو سياسية أو شللية، حريصًا أو متعاليًا أو خائفًا أو زاهدًا أو متخمًا، لكن السنين جعلته أكثر انتماء للواقع، وأكثر تمردًا عليه في الوقت نفسه، وقد كان حريًا به أن يعمّق التيار الواقعي الذي بدأه وأصبح علامة عليه، وسط أجيال الفنانين الشبان الذين كانوا يحيطون به في معظم الأحيان، يبحثون عمن يهديهم إلى طريق.

ومن المؤسف أن نرى هذا التيار يذوي وسط الحركة الفنية التي تتلاطم كقارب واهن وسط أمواج تندفع من كل صوب، لأن هذا التيار لم يجد مَن يرعاه أو يضحي قليلاً من أجله، ولم يكن هناك خير من حسن سليمان ليقوم بهذه المهمة، لكنه آثر أن يحافظ على استقلاله ونفسه وسط خضم الأمواج فأوشك أن يفقد نفسه.
-------------------------------
* ناقد وفنان تشكيلي من مصر.

 

عزالدين نجيب*





حسن سليمان بعدسة رضا سالم





غلاف الألبوم