الزرافة .. ورحلتها من مصر إلى باريس

الزرافة .. ورحلتها من مصر إلى باريس

حديث الشهر

يثير دهشتك وأنت تطالع واجهات الكتب في مكتبات أوربا وخاصة فى بريطانيا أنه في هذا الموسم قد كثرت الكتب التي تتحدث عن مصر، إما مصر الفرعونية أو مصر القرن التاسع عشر، بل إن المراقب يرى أن هناك "حمى مصرية" جديدة! تتبع الحمى الأولى في بداية القرن التاسع عشر، كناية عن الاهتمام الجديد الذي يماثل ذاك الاهتمام الأول بعد صدمة الشرق بالغرب في العصر الحديث.

فلم يتوقف الأمر عند حدود الروايات التي تحكي جانبا من التاريخ المصري وأهم أبطاله مثل رمسيس الثاني، ولا ظهور الفيلم الكارتوني الشهير "أمير مصر". ولكن تعداه إلى المجالات الأكاديمية والفكرية على أثر تلك الضجة التى أثارها كتابا "أثينا السوداء" الذي ألفه المؤرخ الأمريكي المعروف مارتن برنال والذي يعيد فيه الفلسفة والفكر الاغريقي إلى جذور مصرية.

ولا تعرف السبب الأكيد لهذا الاهتمام، وقد تقوم بالحدس، هل السبب هو الذكرى المئوية الثانية لاحتكاك الغرب بمصر والشرق، واعنى هنا الحملة الفرنسية؟ أو هو اكتشاف جديد لسحر الشرق وقصصه الجميلة في مجتمعات قد شبعت من واقعية الحضارة الغربية؟ قد يكون هذا أو ذاك أو الاثنين معا.

ولقد لفت نظري من الكتب كتاب صغير نسبيا يحكى قصة زمن مضى، زمن هو رمز للاتصال الأوربي بالشرق في مطلع النصف الأول من القرن التاسع عشر، من خلال منظور غير تقليدي. واختار الكاتب الأمريكي مايكل ألن زاوية ظريفة لسرد أحداث هذا الزمن القديم، زاوية تختلط فيها الحقيقة بشيء من الخرافة، والواقع بشيء من الخيال هذه الزاوية هي قـصة زرافتين أهداهما محمد علي الألباني والي مصر من قبل الباب العالي في ذلك الزمان، لكل من ملك بريطانيا جورج الرابع، والملك الفرنسي شارل العاشر، الذي كان قد تولى الحكم قبل سنوات قليلة من وصول الهدية الملكية سنة 1827 إلى باريس.

الزرافة التي ذهـبت إلى لندن لم يكن حظها كحظ الزرافة التي ذهبت إلى باريس، ففي العاصمة البريطانية استقبلتها الصحافة استقبالا عدائيا، وذلك بسبب عدم شعبية ملك بريطانيا وقتها جورج الرابع، والذي كان يرفع الضرائب على مواطنيه ويشجع الفساد، فاتخذت الزرافة مجالا للهزء؟ والتجريح والسخرية بالملك وحاشيته، وهي على كل حال لم تعمر طويلا.

لذلك فقد تركزت معظم صفحات الكتاب حول زرافة واحدة تلك التي ذهبت إلى باربس. وهي قصة- كما قلت- اختلط فيها البحث عن الغرائب بسحر الشرق اللاهب لخيال المغامرين.

يبدأ الكاتب مايكل ألن- وهو مؤرخ- جوال بالحديث عن حبه بل هوسه بالسفر واصطياد الغرائب وزيارة الحدائق الطبيعية وحدائق الحيوان، وكانت زيارته لحديقة النباتات الطبيعية والحيوانات في باريس سنة 1977 فاتحة اهتمامه بقصة الزرافة، وقد شهد في تلك الزيارة حية كبيرة وهي تضع بيضها، كان ذلك هو مدخله للبحث عن قصة الزرافة المهداة، في الثلث الاول من القرن التاسع عشر من محمد علي إلى ملك فرنسا. يقول عن حديقة حيوان باريس والتي هي أقدم حديقة حيوان بلدية، إنها بدأت بحيوانات أنقذت من أيدي رعاع الثورة الفرنسية في العقد الأخير من القرن الثامن عشر. وقد رعاها وحولها إلى حديقة عامة عالم التاريخ الطبيعي سانت هيلري الذي كان له فيما بعد دور في قصة الزرافة.

الكتابة عن أول زرافة وصلت إلى باريس لم تكن جديدة، فقد اكتشف الكاتب وهو يبحث في الموضوع أن الفترة التي تلت وصول هذه الهدية الغريبة إلى المدينة كانت فترة غنية بالكتابات حولها، ليس الفرنسية فقط ولكن الغربية بشكل عام، فقد اكتشف مقالا في مجلة النيويركر عن هدية وصلت إلى حديقة حيوان باريس سنة 1827، وصفهـا المقال بأنهـا أول زرافة حية تشاهد في باريس، بعد أن أبحرت من أعالي النيل إلى القاهرة ثم الإسكندرية مرورا بالبحر الأبيض إلى مرسيليا، ومنها مشيا على الأقدام إلى باريس.

هدية بسيطة

بدأت القصة وكأنها قصة بسيطة، هدية من حاكم لإرضاء حاكم آخر، خاصة ان سمعة الوالي المصري محمد علي باشا آنذاك في أوربا قاطبة كانت سمعة سيئة بعد أن قام بقمع الانتفاضة اليونانية بطلب من الباب العالي، وهو ما أثار وقتها الكثير من العداء في أوربا المسيحية ضد حاكم مصر، إلى درجة أن بعض الكتابات الصحفية طالب بتجريد حملة صليبية لتأديبه.

إلا أن الكاتب تبين بعد البحث والتقصي أنهـا ليست قصة هدية فقط، ولكنها أحد فصول الالتقاء بين الشرق والغرب الذي لم يتوقف منذ قيام الثورة الفرنسية عام 1797 بل ان وصول الزرافة خلف موضة اقتناها الرجال والسيدات، فظهرت تسريحة نسائية في صالونات باريس اسمها تسريحة الزرافة، وربطات عنق للرجالى وقبعات سميت ربطات وقبعات الزرافة، بل أصبحت الزرافة هي ضمن قراءة الأطفال فى المدارس وموضوعا لقصصهم أيضا، أصبحت "أيقونة" باريسية. كذلك ظهرت رسوم الزرافة في العديد من لوحات الفنانين التي حملت لهم جزءا من سحر الشرق ودفء ألوانه. الزرا فة، وتنطق محرفة قليلا جيراف، جيرافا " بالفرنسية، والأيطالية والانجليزية يقول الكاتب إنها محرفة من الكلمة العربية زرافة، وهي كلمة مشتقة كما يقول من كلمة "ظريف" التي تعني الحسن أو الجميل وقد اختار لكتابه عنوانا وحيدا هو زرافة تأكيدا لمسماها العربي وتيمنا به.

لقد كان لحضور الزرافة إلى باريس تاريخ من الاهتمام الغربي بالشرق، وتاربخ من التنافس أيضا بين القوى الغريية خاصة الفرنسية والبريطانية فالحملة النابليونية على مصر عام 1798، نقطة تحول مهمة في العلاقات بين الشرق والغرب، بعض المؤرخين يذهبون إلى القول إنها كانت البوابة التي حملت رياح الغرب الحديثة إلى العالم الشرقى الذي دخل منذ فترة سابقة لهـا في سبات عميق، وقد بدأت هذه الحملة التي كانت بمنزلة-حلم أو مغامرة شرقية حلم بها نابليون بونابرت حين كان جنرالا صغيرا أو طموحا. ورغم أنه يعرف أن الأسطول البريطاني يسيطر على البحر المتوسط إلا أنه استخدم خطة بارعة من الخداع والتمويه، بحيث استطاع أن يبحر في أربعين سفينة أشبه بمدينة عائمة دون أن يراه أحد حتى وصل إلى ميناء الإسكندرية في 28 يوليو عام 1798 ليبدأ بذلك صفحة دموية من اللقاء بين الشرق والغرب.

إن البعض يتخطى كل ما صاحب الحملة من أفعال عسكرية لينظر إلى جانبها التنويري. وقد حدث هذا بالفعلى ولكنه تنوير بقوة السلاح كما يمكن أن نطلق عليه اليوم. فمن بين تلك السفن الأربعين كانت هناك سفينة واحدة هي (أوريانت) تحمل البعثة العلمية المصاحبة للحملة، وهي مسألة كانت فرنسا تراها ضرورية من اجل إنجاح الغزو وإقامة دعائم له. فمنذ عهـد الكاردينال ريشيلو، اعتاد الفرنسيون إرفاق كل حيلة لهم بحملة علمية يعهد اليهـا بدراسة المناطق التي يزورونهـا. وقد تركت هذه الحملة التي كانت مؤلفة من 242 عضوا من مختلف التخصصات العلمية أثرا علميا وفكريا دفع بالكثير من المؤرخين الاجانب والعرب إلى اعتبار الحملة الفرنسية اداة نقل أفكار الثورة الفرنسية وتقنية أوربا آنذاك إلى بلدان الشرق وليس باعتبارها بداية إرساء لقواعد النهضة العربية الحديثة.

مصر بوابة الشرق

ورغم ان هذه الحملة لم تدم طويلا، فقد حطمتها حملة بريطانية مضادة، وعاد نابليون مهزوما إلى عاصمته المضطربة من جراء التنافس الثوري فيها، بعد ان قام الاميرال البريطاني نلسون بتحطيم الاسطول الفرنسي في معركة أبوقير الشهـيرة." بالمناسبة فان جزءا من تاريخ الاستعمار والتحرر في الشرق هو تاريخ تنافس للقوى الغربية ذاتها"، إلا أن الحملة الفرنسية وما رافقها من بحث اكاديمي وما خلفته وراءها من ثروة من المعلومات الموثقة هي المدخل للاهتمام الفرنسي بالشرق وبوابته مصر، إضافة إلى المعاناة التي واجهها محمد علي مع السلطة البريطانية التي حلت رمزيا في البدء محل النفوذ الفرنسي، ولقد أراد محمد علي ان يستخدم هذا التنافس بين الضرتين وقتهـا فرنسا وبريطانيا، كي يحقق بعضا من خططه.

لقد جمع محمدعلي في شخصيته كل متناقضات عصره، فقد كان واليا عثمانيا ولكن نزوعه للاستقلال كان أقوى وكان حاكما شرقيا مستبدا ولكنه آمن بالتحديث كوسيلة للحكم. وكان ألبانيا أصيلا ولكنه فجر الكثير من الطاقات الكامنة في نفوس الفلاحين المصريين العرب، وحول مصر من مجرد ولاية عثمانية هامشية إلى بلد يمثل أحد محاور الصراع بين الشرق والغرب. وحين سقط هو نفسه وتحطم أسطوله كان هو أيضا أبرز ضحايا هذا الصراع.

بدأ حياته تاجرا للدخان. ويبدو أن تلك التجارة التي كانت سرعان ما تتبدد في الهواء لم تعجبه كثيرا. لذلك فقد احترف العمل في العسكرية وأقبل إلى مصر عام1801 كأحد قادة الفصائل التركية العثمانية، التي أرسلت لطرد الفرنسيين من مصر بالتعاون مع الإنجليز. وبرغم أن حياته قد بدأت بالصدام مع الفرنسيين فإنه لم يملك إلا الإعجاب بهم وظل هذا الإعجاب كامنا وخافيا في نفسه حتى تمكن من الصعود إلى سدة الحكم في مصر.

لقد استغل محمد علي الحركة الشعبية العارمة التي ولدتها الثورة الفرنسية وأوحى إلى الزعماء الشعبيين أن يطلبوا توليته على مصر. وقد رفعه الزعماء المحليون بالفعل إلى سدة الرئاسة. ووقفوا بجانبه حتى انتصر على الحملة الإنجليزية الفاشلة على مدينة رشيد في عام 1807. وقام هو أيضا بعد ذلك بذبح كل المماليك القدامى ليصبح هو وحده المملوك والمالك الأول والأخير. ثم جاءت فرصته الذهبية بعد أن هُزم نابليون بونابرت في واترلو وبدأ رجاله في الهروب من أوربا ولم يجدوا ملجأ لهم غير خدمة ذلك المستبد الشرقي المؤمن بالتحديث. لم يتوافد على محمد علي العسكريون السابقون فقط، ولكن جاء أيضا المهندسون والعلماء والمستكشفون من أتباع الفيلسوف سان سيمون الذي كان يؤمن بالاشتراكية الإصلاحية وهؤلاء لم يجدوا في فرنسا التي استعادت وجههـا الملكي الرافض لأي إصلاحات بونابرتية مجالا لتحقيق هذه الأفكار فلجأوا إلى مصر وواليها الجديد.

لقد بنى محمد علي دولة جديدة بالفعل على أنقاض المستعمرة العثمانية الفرنسية السابقة، فقد وضع تنظيما حديثا للجيش والبحرية وأدخل الفلاح المصري في سلك العسكرية وكان وقود حملاته الكثيرة إلى الجزيرة العربية والسودان وسوريا واليونان. وفي سبيل إعداد هذا الجيش فتح المدارس الحديثة وأقام المصانع وأرسل البعثات. كما قام بإصلاح نظام الري وبدأ في إقامة القناطر ومنها القناطر الخيرية الشهيرة التي أنقذت الوجه البحري من أخطار الفيضان.

هذه الثورة التحديثية أوجدت نوعا من الرباط بين الحاكم الألباني والثقافة الأوربية المعاصرة ودفعته لأن يحسن صورته باستمرار أمامها، ولكن هذا لم يمنعها من أن تستدير ضده وتحطمه كما حطمت كل الذين حاولوا أن يقفوا ضد مصالحها في المنطقة.

وقد تحدث الكتاب عن دور محمد على فى اقتضاب شديد وان لم يفته أن يلمزه قائلا: إن البعثات التى أرسلها إلى أوربا قد مولتها تجارة العبيد الأفارقة والضرائب المرتفعة على المصريين. وقد كان من ضمن الذين استخدمهم محمد علي في بطانته شخص فرنسي من أصل إيطالي هو برناردينو دروفيتي الذي كان تاجرا وفى نفس الوقت القنصل العام لفرنسا وأخد مستشاري محمد علي المقربين، وكانت فكرة إهداء الزرافة من بنات أفكار هذا الفرنسي في سنة 1824، لتقديمها إلى الملك شارل العاشر الذي أصبح توا ملكا لفرنسا، من أجل توطيد علاقتهـما معا.

دروفيتي ومحمد علي كان يجمع بينهما بعض الصفات، كلاهما مواطن من خارج مصر قدم إليها مع قدوم القرن التاسع عشر، دروفيتي كان جنديا إيطاليا شابا التحق بالجيش الفرنسي ثم تحول إلى بيروقراطي في الدبلوماسية الفرنسية، ومحمد علي كان جنديا ألبانيا في الجيش العثماني التركي تحول إلى حاكم مصر، وهـو لايجيد العربية، وكلاهما- كما يقول المؤلف- ساحر من جهة، ورجل فظ قاس ويتمتع بطموح لايهدأ من جهة أخرى.

كان عمل دروفيتي الرسمي و الدبلوماسية ولكنه حقق ثروة بالاتجار بالحيوانات النادرة، والتحف المصرية وأي شيء يرغب عملاؤه الأوربيون في اقتنائه، كان من الرجال الذين يوصفون بحق بالوسطاء الذين يتوقعون معروفا خاصة من الملوك على خدماتهم التي يؤدونها، تاريخه الوظيفي في مصر امتد إلى ثلاثة عقود تقريبا، ومقتنياته المصرية أصبحت اليوم من أهم المقتنيات في متاحف تورين وباريس وبرلين. مسيرة الزرافة أخذ الكاتب تصوره لمسيرة الزرافة من أعماق إفريقيا إلى باريس من عدة مصادر، اعترف هو أيضا بأن بعضهـا ليس بالدقة الكاملة لنقص المصادر التي تحدثت عنها، إلا أن الجزء الخاص بمسيرة الزرافة الذي حدث على الأرض الفرنسية من مدينة مرسيليا إلى باريس كان الأكثر توثيقا، كانت تلك المسيرة هي الجزء الأخير من رحلة بدأتها قبل أربعة الاف ميل وسنتين من عمرها، من أواسط إفريقيا عندما تم اصطيادها من قبل صيادين عرب في المرتفعات الإثيوبية، ثم وضعت على ظهر جمل ونقلت إلى مدينة سنار التي كانت احدى الممالك الإفريقية القديمة في السودان، ثم سافرت على ظهر مركب في النيل الأزرق إلى مدينة الخرطوم، ثم سافرت من الخرطوم في طريق العبيد طوال مسافة نهر النيل جنوبا حوالي ألفي ميل إلى القاهرة ثم الإسكندرية، ثم عن طريق البحر إلى مرسيليا.

إن بقاء الزرافة على قيد الحياة تم لسببين، الأول الخوف من سطوة محمدعلي، والثاني خبرة دروفيتي في نقل الحيوانات النادرة، ففي الإسكندرية وضع دروفيتي السايس حسن الذي دربه على مثل هذه الأعمال مسئولا عن الرحلة إلى باريس يساعده خادمه الخاص السوداني عاطر للقيام بهذه المهمة الشاقة.

وقد قضت الزرافة ثلاثة أسابيع في البحر الأبيض، وأسبوعا تنتظر في ميناء مرسيليا. اثنان وثلاثون يوما بالتمام والكمال كانت الزرافة بعنقها الطويلى الذي شق له مكان مخصوص في سطح السفينة الناقلة، تنتظر مع الحيوانات الأخرى، حتى يحل الخلاف بين البيروقراطيين في كل من مرسيليا وباريس حول من يكون مسئولا عن مصاريف نقل الزرافة إلى باريس وفي هذا الوقت تقاطر عليها المواطنون في مرسيليا للنظر إلى هذا الحيوان غير المألوف ذي الألوان الجذابة، قام والي مرسيليا ببناء حظيرة خاصة فى حديقة قصره، ونقلها إليها ليلا بعيدا عن أعين الفضوليين، وقد انتقل معها بطبيعة الحال حسن وعاطر، يدربانها على شرب حليب البقر ويساعدانها على التآلف مع الجو المختلف عن بيئتها، هذه المسيرات القصيرة في ضواحي مرسيليا للتكيف مع الجو أقنعت القائمين على شئون الزرافة بأنها تستطيع أن تسير إلى باريس فى فترات مسيرة يومية قصيرة.

ثم بدأت المسيرة الأخيرة إلى باريس في العشرين من مايو 1827 بقيادة أحد الخبراء المخضرمين هو جفري سانت هيلري، وهو كما ذكرنا من قبل أحد أشهـر الباحثين العلميين في وقته، ففي سنة 1793 عندما قررت الثورة الفرنسية أن تقيم المتحف القومي للتاريخ الطبيعي، كان سانت هيلري الأصغر وفي العشرين من عمره من جملة المتخصصين الاثنى عشر الذين أنيطت بهم المهمة، وكان هو أيضا الشخص الذي أسس حديقة حيوان باريس بعد إنقاذ بعض الحيوانات التي كاد يفتك بها رعاع باريس عندما فرت من قصر فرساي المهاجم من الثوار، وقبل أن يتم الثلاثين من عمره كان من أعضاء البعثة العلمية التي صحبها نابليون إلى مصر في سنة 1798.

ولكنه في هذا الوقت الذي كلف فيه مصاحبة الزرافة فى مسيرتها الأخيرة كان قد بلغ الخامسة والخمسين من عمره ويعاني من الروماتيزم والنقرس كان بطلا مقدرا وأسطورة فرنسية تعيش على الأرض عندما قرر أن يقوم بهذه الرحلة مع الزرافة على القدمين من مرسيليا إلى باريس، في مرسيليا استأجر سانت هيلري عربيا هو يوسف وهو ابن لاجئ مصري، ليقوم بمساعدته، ويترجم بينه وبين السايس حسن ومساعده عاطر كانت المسافة في مايو ويونيو بين مرسيليا وباريس فى عام 1827 هى 550 ميلا، وقد شهدت الطريق المرصوفة بالأحجار موكبا فريدا من نوعه، فهو لم يجذب انتباه العامة فقط ولكنه سبب في بعض مراحله الشغب، لقد تجمع الناس من معاصرهم وحقولهم وقراهم البعيدة ليشاهدوا هذا المنظر الغريب، حيوان ليس بالجمل ولا الحصان ذو رقبة طويلة شامخة وأرجل طويلة تناهز قامة الرجال.

أثناء الرحلة تدهورت صحة شانت هيلري وظهـر عليه الإعياء والتعب، وتجاهل الرسميون في باريس قلقه من كثرة المتزاحمين على طول الطريق ومضايقتهم للحيوان المصاحب له، وفي الوقت الذي وصلت فيه القافلة إلى مدينة ليون كانت مسيرة الزرافة قد وصلت إلى الأسماع، وقدر الذين جمعوا لمشاهدتها بحوالي ثلاثين الفا، ودخلت إلى مدينه بارس دخول الابطال وسارت بين الجماهير المحتشدة في استعراض اخترق شوارع باريس حتى وصلت إلى مقام الملك الذي كان في انتظارها.

كانت هذه أول زرافة حية تصل إلى باريس، فخلبت الألباب، وبدأت النساء وصالونات باريس الأدبية تستعير ألوان هذا الرمز الجديد في قضايا الزي وتصفيف الشعر والموضة والأشعار والغزل، كانت محط حسدا الأوربيين، وموضوعا للأغاني والموسيقى واللوحات الزيتية، ورمزا في الحكايات السياسية، وأسماء للشوارع والفنادق، ونوعا من الأزياء، وحملت الموضة أسماء مثل بطن الزرافة والزرافة العاشقة، كما دخل اسمها في بعض الصناعات ومنها صناعة الصابون، بل ونوع خاص من الأنفلونزا سمي بأنفلونزا الزرافة!

لقد أصبحت صرعة باريسية في مدينة تهتم بالصرعات، وبقول آخر دخلت الوعي الباريسي ولم تغادره.

لقد بقي عاطر مساعد السايس الذي واكب الرحلة في بارس مع الزرافة التي رافقهـا، وأصبح يعرف بالعربي الذي يعيش مع الزرافة، كان يرقى كل مساء على سلم عال حتى يقوم بتنظيف صاحبته، ليصبح فى الميزانين قريبا من أنف الزرافة وقد أطلق عليه الباريسيون الرجل "صاحب السيدة هكذا أشير إليه من بعد.

أوربا... وزمن الزرافة

لا يترك المؤلف قصة الزرافة وتفاصيل رحلتها وتأثيرها فى الذوق الفرنسي دون ان يعطي إطلالة واسعة على الزمان التي حدثت فيه القصة والأماكن التي عاصرتها وأي شيء بقي منها حتى الآن، يعود إلى المكان مستقصيا عن معالم ذلك العالم السابق الذي يجده قد اختفى أو كاد أما الزمن فهو موثق في الغالب في روايات عديدة، انه زمن الاحتكاك المباشرـ بعد قطيعة طالت ـ بالشرق.

زمن الزرافة هو أحد أزمان ذلك الشغف الغربي بالشرق، وهو جزء من أثر الحملة الفرنسية على مصر، التي فتحت ذهن محمد علي للقيام بتحديث مصر، ربما لأسباب حربية أو ربما لأسباب حضارية، فاستخدم الجنود السابقين والمبشرين، والتجار وحتى المغامرين لنفيذ خطته تلك، معتمدا وقتها على المهزوم الأوربي، مبتعدا قدر الامكان عن المنتصر محمد علي حاول الاستفادة من النتائج العلمية التي خلفتها الحملة ومن رجالها أو بعضهم كما أسلفنا، خاصة أن اللغة الإيطالية كانت لغة التجارة الدولية واللغة الفرنسية هي لغة: الدبلوماسية.

كمثل الرجال التاريخيين اعتمد محمد علي على مجموعة من العقول، ليس مهما من أين منشؤها ولكن المهم هو ولاؤها لمشروعه منهم الأرمني، والإيطالي والفرنسي وكان أحدهم ذلك القنصل الفرنسي ذا المنبت الإيطالي برنارديون دروفيتي الدبلوماسي والتاجر الذي تعامل مع الماضي الشرقي كسلعة مطلوبة للطبقة الارستقراطية فى أوربا التي كانت تريد أن تعرف عن الأماكن والحضارات كأحد مظاهر عصر التنوير الأوروبي الذي كان يؤمن بقدرة العقل الإنساني على التحقق من كل شيء، ومواجهة الخرافات التي عششت لبضعة قرون في العقول- بالحقائق العلمية.

يدقق الكاتب في البضائع التي كان يرسلها دروفيتي إلى أوربا مثل إرسال غزالة إلى أحد أفراد العائلة الحاكمة في فرنسا، أو جواد عربي أصيل لتاجر خيول في فيينا، أو ماعز إفريقية لموسكو، لقد كان تاجرا ومهرب تحف ومراسلا علميا في آن.

بعض الحقائق

والزرافة كما تخبرنا الموسوعات هي أطول الحيوانات من حيث الارتفاع، تعيش في الأماكن الجافة المتناثرة الأشجار جنوب الصحراء، متوسط طول الذكر منها 17 قدما ومتوسط طول الأنثى 15 قدما، لسانها يستطيع الوصول إلى شجرة السنط وهي كمعظم الثدييات لهـا أربع فقرات في الرقبة ممدودة لتعضيد رقبتها العضلية الطويلة، لها إحساس كبير للرائحة والحرارة، كما لها قدرة بصرية كبيرة، وهي من الحيوانات التي يطول عمره في الأسر، متوسط عمرها وهي طليقة 26 سنة، أما وهى أسيرة فيصل إلى 36 سنة، ورغم مظهر مشيتها البطيء فإنها تستطيع أن تهرول لتصل سرعتها إلى 56 كيلومترا في الساعة، مدة حملها خمسة عشر شهرا ومولودها يستطيع أن يمشي بعد عشرين دقيقة من الميلاد، ولقد اختلفت التفاسير حول سبب طول عنق الزرافة، فبعد أن كان من المعتقد أنه لكي يصل الفم إلى أعلى الأشجار تظهر دراسات حديثة ان طولى رقبة الزرافة هو بسبب استخدامهـا لدى الذكور للصراع فيما بينهم للوصول إلى الأنثى في وقت التكاثر هذا ما تقوله الموسوعة البريطانية اولئك الزراف الذين لهم عنق أطول هم المفضلون من الإناث. ظهرت الزرافة في رسومات طيبة المدينة المصرية القديمة كرمز للتحذير مما هو قادم ربما نظرا لإحساسها الكبير بالخطر الآتي، أما في أوربا فقد دخلت فرنسا حاملة تميمتها التي وضعها لها السائس حسن ومعاونه عاطر، وقد عرفت بعدة أسماء بجانب الاسم العربي، الذي استخدم بقليل من التحريف في الفرنسية والإنحليزية والإيطالية، حملت الزرافة اسم سنار كما يشير إليهـا الأرشيف المتخلف من محمد علي، كما أعطاها الأوربيون أسماء مثل المصرية الجميلة، والإفريقية الجميلة وطفلة الاستواء، وتشير كتابات الباحثين في المتحف القومي الفرنسي للتاريخ الطبيعي إلى التأكيد على ضرورة الحفاظ على صور الزرافة من خلال رسمها وتأكيد تفاصيلها ومحاولة مقارنتها مع الزرافة المحنطة التي وصلت إلى فرنسا في القرن الخامس عشر والتي لا توجد عنها إلا القليل من التفاصيل.

منذ وصول الزرافة الهدية إلى الأراضي الفرنسية بدأ الباحثون يقدمون التقارير عنها، عن حالتها الصحية ومدى قدرتها على التأقلم مع الأجواء الفرنسية، كما تقدم التقارير عن رحلاتها خارج الحظيرة التي أعدت لها، وقد كتبت تلك التقارير بعناية تامة.

نهاية الزرافة

عاشت الزرافة لمدة 18 عاما في باريس وكانت شاهدا على تتويج ملك فرنسي آخر هو لويس فيليب في عام 1830 بدلا من شارل العاشر التي دخلت فرنسا في عهده وكانت في باريس أيضا عندما سار فيها أول قطار مغادرا محطتهـا إلى بقية الضواحي في عام 1837 وهو نفس العام الذي تم فيه بناء قوس النصر وهو القوس الذي بقى ناقصا من أيام نابليون بونابرت. وكانت في باريس أيضا عندما عاد جسد هذا الامبراطور العظيم من منفاه في جزيرة سانت هيلانة ليدفن تحت القوس.

وطوال هذه السنوات لم تجد الزرافة- التي كانت أنثى بالمناسبة- رفيقا لها. ظلت وحيدة تعتمد على رقبتها الطويلة لتتسلى بأكل أوراق الشجر، أقبل عليها عام 1828 أحد الأفيال ولكنه لم يخفف من وحدتها. وظلت هكذا لمدة 13 عاما كاملة. ولكن في السنوات الست الأخيرة من حياتها شاهدت أول رفيقة لها. أنثى صغيرة من الزراف تم اصطيادها وأحضرت أيضا في أحد القوارب عبر النيل وكانت هذه المرة هدية من طبيب محمد علي المدعو كلوت باشا.

ماتت زرافتنا الشهيرة في 12 يناير 1845 بعد ستة شهور فقط من موت العالم الذي رعاها طوال هذا العمر سانت هيلري وقد تم تحنيطها ومازالت باقـية في متحف الحديقة ومع الأسف ففي أثناء الحرب العالمية الأولى وفي محاولة لانقاذ محتويات المتحف تم إرسالها إلى مدينة فردون ولكنها دمرت هناك. لم يبق منها إلا رأسها وعيناها المحملقتان وهي تشاهد دخول الجنود الألمان.

لقد كانت شاهدا- حتى بعد موتها- على أحداث كثير من العقود. ولاشك أن هذا الحيوان الأعجم لم يستطع أن يفهم سر كل هذه التغيرات في الزمان والمكان ولم يدر أنه خلال هذه الرحلة الشاقة التي قطعها من بلاد القيظ إلى بلاد البرد قد نهضت دول وابيدت إمبراطوريات وصعد ملوك وسقط سلاطين وهبت ثورات وما كان أغناها عن الارتباط بهذا التاريخ البشري المضطرب ولكن يكفيها أنها ماتت موتة طبيعية كما تقول التقارير وإن كانت بلاشك تعاني من الوحدة ومن أعراض الاكتئاب. ولكن.. من يخلو من هذا؟

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات