في ثقافة الديمقراطية حتى لا نصعد الهرم المقلوب.. د. سليمان إبراهيم العسكري

في ثقافة الديمقراطية حتى لا نصعد الهرم المقلوب.. د. سليمان إبراهيم العسكري

ليست الديمقراطية قفزة في الفراغ باتجاه شكل سياسي مستنسخ، لكنها قبل ذلك وفي جوهر نظريتها وممارستها مسيرة إنسانية ذات طابع حضاري، من أدنى المستويات الاجتماعية حتى قمتها، ومن ثم تأتي تجلياتها السياسية نوعًا من التكريم لمجتمعات تحسن الاختيار وتتحمل مسئولياته. بغير هذا التأهيل، يُرجّح أن يكون القفز السياسي نوعًا من المجازفة يصعب تدارك عواقبه السلبية، تمامًا كمن يلامس قمة هرم مقلوب، متصورًا أنه بلغ القمة والغاية، بينما الأرجح أن يهوي عليه هذا الهرم المقلوب، وهيهات أن ينال النجاة.

  • الديمقراطيات الحديثة تتويج لمسيرة لا نستطيع الزعم أننا قطعناها بل ربما لا نستطيع الزعم أننا قطعنا شوطًا معقولاً على دروبها.
  • المدرسة والبيت وبيئات العمل هي المدارس الأولى التي تقدم التربية الديمقراطية لمن سيصعدون بالديمقراطية نحو شرف الحرية ومسئولية الاختيار.
  • التفكير النقدي يعلم الحصافة والديمقراطية تتطلب مواطنين يتمتّعون بالحصافة، هذا إذا كنا نريد مجتمعًا ديمقراطيًا حقيقيًا راسخ الجذور.
  • حالات القمع الذكوري للمرأة والتسلط الأبوي على الأبناء ليست جميعًا سوى أنواع من الأهواء البشرية الغريبة عن جوهر الدين وسوية المنطق.

لعل أخطر ما درجنا على ممارسته في واقعنا العربي، هو أننا نتوهم إمكان قطف أفضل الثمار بأقل قدر من الجهد، وعدم اعتماد مسيرة الألف ميل التي تبدأ بخطوة من أجل الوصول إلى غايات أفضل في الأفق البعيد.

اندفاعاتنا العاطفية وميلنا إلى الاختصار ليست سمة من سمات حياتنا الاجتماعية فقط، بل هي في كثير من الأحيان نمط من أنماط التفكير، في مسائل لا تجوز فيها العاطفية ولا الاختصار، ومن بين هذه المسائل تأتي قضية الديمقراطية التي هي قضية الساعة بامتياز. لكن إحقاقًا للحق، فإن هناك من مفكري العرب الروّاد من نظروا إلى قضية الديمقراطية بلا استسهال ولا تبسيط، فقد كان المفكر العربي أنطوان مقدسي - على سبيل المثال - من الرواد القلائل الذين أدركوا أهمية مسألة الديمقراطية في الخطاب العربي، بوصفها «وعيًا حداثيًا بالوجود والتاريخ». مما يعني أن الديمقراطية قمة تنظير وسلوك شديد الرفعة، وليس بلوغها بالأمر الهين. فهي قمة تفكير وممارسة إنسانيين يقتضي الوصول إليها ارتقاء طبقات من أسفل إلى أعلى، تمامًا كما في عملية صعود هرم، بدءًا من القاعدة إلى القمة، وإلا كنا مثل من يرتقي هرمًا مقلوبًا، يلامس قمته وهو على الأرض، لم يبذل جهدًا ولا اجتاز مراحل، لكنه يتناسى أن هذا الهرم المقلوب لا يمكن أن يكون مستقرًا، فهو يقف على قمة حرجة وسرعان ما يهوي ساحقًا تحته من فرحوا بملامسة القمة متناسين وضعها الشاذ، ومغالطين منطق الأشياء.

ثقافة تنتج المجتمع

كان حديث الشهر الماضي ينصب على التحذير من أن الديمقراطية في مناخ غوغائي يمكن أن تنقلب إلى نقيضها، وينجح من يجيدون تحشيد الجماهير بخطاب تعصبي أو عاطفي فارغ، في الوصول إلى مبتغاهم وإنتاج حالة من الهمجية المجتمعية والسياسية والاقتصادية يصعب تجاوزها أو حتى إصلاحها، لأن ذلك لن يتم إلا بثمن فادح، وبأشكال تتنافر مع طبيعة الديمقراطية ذاتها، فالديمقراطية اجتهاد بشري رفيع المقام يتسق مع سمو الإنسان وحقه في حرية الاختيار لكنه الاختيار المبني على حسن ورقي التقدير.

اتصالاً مع هذه الرؤية ينبثق السؤال عن كيفية الوصول إلى هذه الدرجة من رقي الاختيار وحسن التقدير، وبمعنى آخر: الوصول إلى الدرجة الأعلى قبل قمة الهرم، التي يصبح فيها الوصول إلى القمة - أي شرف الحرية المسئولة والاختيار الصحيح - مجرد خطوة يمثلها صندوق الاقتراع، لكنها خطوة مبنية على جدارة ارتقاء درجات بعد درجات على منحدر هذا الهرم الصاعد.

فالمسألة إذن تعني الحديث عن المتطلبات القاعدية للارتقاء الديمقراطي، تعني ثقافة الديمقراطية على مستوى الأبجدية والأساسيات، تعني التفكير والممارسة الديمقراطيين في حياتنا اليومية المعيشة، تعني جوهر الثقافة المنتجة للديمقراطية. والثقافة المعنية في هذا الإطار ليست ثقافة النخبة ذات الطابع الفكري، بل هي الثقافة بمعناها الشامل والمتجذر في الممارسات الإنسانية والسلوك البشري داخل التكوينات المجتمعية المختلفة، البيت، المدرسة، الجامعة، مؤسسات العمل المختلفة. إنها ثقافة الديمقراطية المنتجة لأنساق متطورة من السلوك، والداعمة للتنمية الإنسانية والاقتصادية وغيرها من وجوه التنمية التي تتسع لتشمل النفع والجمال الإنسانيين على السواء. لقد أصبحت الثقافة في عالم اليوم قضية استراتيجية كما يذهب إلى ذلك كثير من المفكرين. والمعروف أن الثقافة مستويان: مستوى أنثروبولوجي، حيث تكون الثقافة تراثًا من عادات وقيم وتقاليد تطبع الوجدان وينبني عليها السلوك، ومستوى آخر تكون فيه الثقافة شأن نخبة تتداول فيما بينها ثقافة عالمية ذات طبيعة ذهنية في مجملها. وما يعنينا في هذا الحديث من مستوى الثقافة هو المستوى المتجذر في السلوك والممارسات اليومية، دون نسيان مستوى الثقافة لدى النخب العربية، فكلاهما متكاملان.

في هذا الاتجاه انطلق الكاتب إبراهيم عبدالله غلوم في كتابه «الثقافة وإنتاج الديمقراطية»، من اعتبار الثقافة «المحرك الأساسي للكيفية التي يتم بواسطتها إنتاج المجتمع، وبالتالي تغدو الثقافة وسيلة، وظيفتها الجوهرية هي إنتاج الأفكار والمفاهيم الكبرى التي تجعل المجتمع في حركة دائبة، كإنتاج الديمقراطية والأيديولوجيا والدولة والاقتصاد والمفاهيم المتصلة بالسوق، ومفاهيم الحرية والمساواة والعدل وغيرها. وعليه، فإن المجتمع ينتج ثقافته، فيما تهندس الثقافة المجتمع. وهذه العلاقة الجدلية المتبادلة بين المجتمع والثقافة ينظر إليها المؤلف من زاوية وظيفية، ترتبط بالأصل اللغوي للكلمة، ويظهر ذلك فيما يطالب به الثقافة العربية اليوم من إنتاج الديمقراطية (المفقودة) في المجتمع العربي، مع قيامه بنقلة ضرورية، من حقل قديم إلى حقل جديد، بسبب تطور النظم والأفكار واللغة.

فالديمقراطية، وإن كانت قديمة في المجتمعات اليونانية، إلا أن الدولة الأوربية أعادت إنتاجها في العصور الحديثة، بعد ثورات فكرية وإصلاحات برلمانية ودستورية، أفضت إلى تأسيس مفاهيم الديمقراطيات الحديثة».

الديمقراطيات الحديثة إذن تتويج لمسيرة لا نستطيع أن نزعم أننا قطعناها، بل ربما لا نستطيع الزعم أننا قطعنا شوطًا معقولاً على دروبها، فتجليات الأنماط الاستبدادية في حياتنا العربية واضحة الهيمنة في أكثر من اتجاه، وعلى أكثر من مستوى، ولم تفلت الثقافة من سطوة هذه الأنماط إلا قليلاً، ومن بين هذا القليل يبرز خطاب النهضة والنهضويين الذي يشير إلى مساره سؤال الشيخ محمد عبده الشهير: «لماذا تأخر المسلمون وتقدّم الغرب؟» إلى أسئلة غيره من دعاة الإصلاح الذين فشلت محاولاتهم بالرغم من شرف غايتها وبسالة مساعيهم. وثمة من يرى لهذا الفشل سببًا يتمثل في «ثقل التراث الذي بقي مهيمنًا عليه. وعليه فإن كلاً من خطاب الإصلاح وخطاب الإحياء، وخطاب النهضة ومشروع الحداثة العربية، رزحت كلها تحت ثقل التراث»، وامتدادًا لهذه الرؤية تم استنتاج أنه «لن تستقيم لنا ثقافة ديمقراطية حقيقية، إلا بإقصاء هذا الظل». ولعل الأوفق أن نرى استقامة الثقافة المرجوة، لا في إقصاء التجارب التي نعتبرها فاشلة، بل في تفنيدها والاستفادة من دروس فشلها، فمن المؤكد أنها كانت محاولات لا ينقصها الإخلاص، وإن لم يتهيأ لها النجاح لأسباب علينا أن نعثر عليها في المنهج، أو الخطاب، وربما في الرياح المعاكسة التي أجهضتها على الرغم مما كانت تحمله من وعود طيبة للأمة.

أخشى أن يُفهم من هذا الحديث عن تدرج الصعود نحو الديمقراطية أنه إضافة إلى الأسئلة المراوغة التي تدور حول أهلية وإمكانية المجتمعات العربية لتطبيق الديمقراطية، وهي أسئلة تتضمن إجابات سلبية تنحي الديمقراطية عن مجال مجتمعاتنا العربية على اعتبار أنها مجتمعات تسودها أنساق الاستبداد وألوان الخطاب التسلطي الذي تحول تراثاً لا فكاك منه، ويكمن في بنية التركيبات العشائرية والقبلية والتعصبية التي جبلت عليها هذه المجتمعات. لكن المسعى في هذا الحديث على غير ذلك تمامًا، لأنه لا يستهدف إلغاء مطلب الديمقراطية، بل التأكيد على الطموح إلى ديمقراطية صحيحة عميقة الجذور تنمو راسخة وتواصل الصعود.

والجذور المعنية بالحديث أبسط كثيرًا من أي إشكالات تنظيرية، فهي تكمن في التربة، التي يمكن أن تبزغ منها شجرة الديمقراطية المرتجاة، التربة، التي ستحتضن البذور، وتضمن إنباتها وسموقها، وهي متمثلة في سوية العلاقات في البيت، والمدرسة، ومؤسسات العمل، في العلاقة بين الأب وأبنائه، والزوج وزوجته، والمدرس وتلاميذه، ورؤساء العمل ومرءوسيهم. هذه هي المدارس الأولى، التي تقدم التربية الديمقراطية لمن سيصعدون بالديمقراطية نحو شرف الحرية ومسئولية الاختيار. ومن ثم تكون هذه المدارس الأولى هي الأجدر بتنقيتها من الخطاب التسلطي وأنساق الاستبداد.

ولنبدأ بما يمكن أن يستقطب إجماعًا كبيرًا إلى حد ما، أي المدرسة، خاصة في المراحل الأولى من مراحل التعليم. فلاشك أننا فيما يتعلق بأبنائنا نكون أكثر استعدادًا لتقبّل الجديد، مادام سيقدم لهم فرصة أفضل في النمو العقلي والاجتماعي الصحيح.

وأود في هذا السياق أن أشير إلى مرجع مهم هو كتاب «المدرسة وتربية الفكر» للبروفيسور ماثيو ليبمان أستاذ الفلسفة ورئيس معهد تعليم الفلسفة للأطفال في ولاية نيوجرسي في مونتي كلير بالولايات المتحدة الأمريكية. وهو كتاب يركز على شعار «التربية من أجل التفكير»، ولتحقيق هذا الشعار، ينتهج طريقًا يسمّيه «مجتمع التقصّي»، أي البحث والتأمل والتساؤل والاجتهاد في الاختيار بين بدائل متعددة.

والتطوير الذي يقترحه البروفيسور ليبمان للوصول إلى ذلك، هو إمكان تعليم الفلسفة للأطفال على طريقة قراءة القصص ومناقشتها جماعيًا، وعلى أساس ذلك تتبلور المفاهيم المراد إيصالها للتلميذ.

أما افتراضات النموذج التأملي، فهي تتجه إلى أن تكون الثقافة تقصيًا وتحريضًا للتلاميذ على التفكير بحكمة وعقلانية، أما المعلم، فإنه يفترض به ألا يكون معصومًا عن الخطأ، ومستعدًا للتسليم بالخطأ، وليس أن يمارس الحزم السلطوي.

كما أن التربية بوصفها عملية تقصٍّ، تفترض «مجتمع تقصٍّ» ينطلق إلى الأمام دائمًا عبر الحوار المنفتح لا المغلق، وهذا يعني بالضرورة عقلنة القوانين والمفاهيم والعلاقات كي يتجه المتعلّم نحو الاستقلال الذاتي، وإلى ذلك يقول: «الهدف الأول للنموذج التأمّلي هو الاستقلال الذاتي للمتعلّم»، بمعنى ألا يردد التلاميذ كالببغاوات ما يقوله الآخرون أو يفكرون به، بل يُجرون «محاكماتهم العقلية الخاصة بهم للدليل المطروح، ويشكّلون فهمهم الخاص للعالم، ويطوّرون تصوراتهم عن أنماط الأشخاص الذين يرغبون أن يكونوا عليها، وعن العالم الذي يرغبونه أن يكون». لأن غاية العملية التربوية هي إمكان تطوير وتعديل الحياة بطريقة أكثر حكمة، ولذلك فإنه من الضروري أن يتعلم التلميذ حرفة التفكير في اللغة والمحاكمة المنطقية وتنظيم المعلومات، لأن عملية اكتساب اللغة في أي مجتمع تتضمن في الوقت نفسه اكتساب عناصر المنطق والقدرة على أداء العمليات المنطقية التي يفترضها التفكير.

«ليس التفكير الإبداعي مؤلفًا من مكونات مختلفة تحتوي على مكوّنات مماثلة لتلك الموجودة في التفكير النقدي، ولكنها مرتبة بطريقة مختلفة. بل يبدو لي أنه يمكن إعطاء التفكير الإبداعي خير تعريف: بأنه الموصل إلى المحاكمة العقلية، وموجّه بالسياق، ومتجاوز لذاته، وحسّاس للمعايير.

وبالتالي لا يوجد تفكير إبداعي، ليس مخترقًا بمحاكمات عقلية نقدية، كما لا توجد محاكمة عقلية ليست مخترقة بمحاكمات عقلية إبداعية، بمعنى أن بعض التفكير محكوم بالمعايير وبعضه محكوم بالقيم، وبعض التفكير يسير سلسًا ورتيبًا كالقطار السائر على سكّته، وبعضه يتجه وفق المشيئة كالطير المحلّق».

إن التفكير النقدي يعلم الحصافة، والديمقراطية تتطلب مواطنين يتمتعون بالحصافة، وهكذا فإن التفكير النقدي وسيلة ضرورية إذا كان هدفنا مجتمعًا ديمقراطيًا.

بمعنى أنه إذا ما كانت التربية تسعى إلى إعداد الطلبة ليعيشوا كأعضاء متسائلين في مجتمع متسائل، فإن عليها أن تكون بوصفها تربية مجتمع تقصٍّ، وتربية من أجل التقصّي كذلك. وهذا ما يستدعي تحويل كلّ غرفة صفّ إلى مجتمع تأملي وفضولي.

أعتقد أن ذلك ليس مما يمكن أن نختلف عليه، فهو لا يتطلب إلغاء المدرس كنموذج، ولا استباحة المدرسة كإطار، لكنه يتضمن تطوير النموذج إلى شريك محبب لا متسلط قامع، وتوسيع الإطار إلى ساحة من رحابة التأمل والتفكير وحصافة الاختيار.

فمتى تصير مدارسنا ديمقراطية؟!

بيوتنا والعلاقات بين ساكنيها

إن التسلط وأنساق الاستبداد ليست وقفًا على بعض المظاهر السياسية في حياتنا العربية وحدها، بل هي أكثر وفرة ووضوحًا في علاقاتنا الاجتماعية، بدءًا من البيوت وساكنيها، وصولاً إلى علاقات القبيلة والعشيرة، وتقاليد بعض المجتمعات المغلقة. وهذا لا يعني تجريم كل الأعراف والتقاليد، فمنها ما هو إنساني ومتقدم ومتفوق كثيرًا على نظيره في مجتمعات الديمقراطيات الحديثة في الغرب. وهنا أود أن أترك المداخلة لاجتهادات كاتبة مسلمة هي الدكتورة هبة رءوف عزت، التي تجمع بين احترام تقاليدنا الفاضلة والمناداة بالحرية المسئولة والمساواة الإنسانية. وهي عضو هيئة تدريس بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. تتكلم عن أن «استخلاف الإنسان» يشمل الرجال والنساء، إذ إن من الأمور الجديرة بالتأمل في اللغة العربية - لغة القرآن - أن لفظ «إنسان»، وهو الواحد من بني آدم، يذكر ويؤنث، فيقال هو إنسان، وهي إنسان والرجل إنسان، والمرأة إنسان، ولا يقال إنسانة، كذلك فإن لفظ «بشر» يذكر ويؤنث، فيقال هو بشر وهي بشر.

ويدل على شمول الاستخلاف للرجال والنساء آيات عدة في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: فاستجابَ لهم ربهم أني لا أضيعُ عملَ عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى بعضكم من بعض .

من عَمِلَ صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمنٌ فَلَنُحيينَّه حياة طيبة، ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون .

يا أيها الناسُ إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى، وجعلناكُم شعوبًا وقبائلَ لتعارفوا، إن أكرمكم عند اللهِ أتقاكم، إن الله عليمٌ خبير .

وتتمثل المساواة بين الرجال والنساء في المساواة في القيمة الإنسانية والمساواة في الحقوق الاجتماعية، والمساواة في المسئولية والجزاء، وهي المساواة التي تتأسس في جوانبها المختلفة على وحدة الأصل، ووحدة المآل.

وعن مفهوم القوامة تقول: «ولا يكتمل فهم أبعاد مفهوم القوامة في الرؤية الإسلامية إلا في ضوء إدراك أهمية الشورى كقيمة أساسية في العلاقات داخل الأسرة المسلمة.

فالشورى ليست خاصة بالمساحة السياسية فقط، ولا هي سمة من سمات الجماعة المؤمنة فحسب، بل هي أيضًا منهج التعامل داخل الأسرة.

القوامة إذن لا تعني إدارة البيت، فالإدارة شركة بين الرجل والمرأة وحتى الأطفال - كل منهم يقوم بنصيبه في الإدارة - وتدخل الرغبات المعقولة لكل منهم في شأن الإدارة. والإدارة شورى داخل هذه البنية الاجتماعية الصغيرة، ولا ينبغي أن يستبد طرف بالأمر كله، بل تؤخذ آراء كل الأطراف في الاعتبار في حدود الشرع، وتكون القوامة هي الكلمة الفاصلة، التي يحتاج إليها البيت عند نشوب خلاف لا ينهيه إلا كلمة فصل. فرئاسة الأسرة رئاسة شورية لا استبدادية، فالشورى هي أيضًا قيمة تربوية داخل الأسرة تنتقل بالتنشئة الاجتماعية للأبناء، ويتعلمونها كسلوك قرين بالعيش في المجتمع المسلم».

لقد أطلت الوقوف أمام هذه المداخلة، للتأكيد على أن تراثنا الروحي عندما ننظر إليه بقلوب سوية وضمائر يقظة، يضعنا بوضوح في مكانة متقدمة من الحال الديمقراطية في تعامل المرأة والرجل، والآباء والأبناء، ويتضح لنا أن حالات القمع الذكوري للمرأة، الزوجة، والبنت، والأخت، والتسلط الأبوي على الأبناء، ليست جميعًا سوى أنواع من الأهواء البشرية الغريبة عن جوهر الدين، وسوية المنطق.

التحدي الحقيقي

إن إنجاز حال «ديمقراطية» في مدارسنا وبيوتنا، هو بداية بديهية لأي صعود ديمقراطي. وهذا الإنجاز لن يتأتى إلا بجهد ثقافي تلعب فيه النخب المثقفة، بكل اتجاهاتها، دورًا تنويريًا، تنويرًا نابعًا من شروط وطموح مجتمعاتنا العربية، لا تغريبًا مقنّعًا. وقد بدأت أصوات عاقلة من مفكرينا ترى أن دور النخبة المثقفة الملح هو نشر ثقافة الديمقراطية. بل إن ثقافة الديمقراطية نفسها تحتاج إلى تمهيد ثقافي على مستوى السلوكيات النابذة لكل أنواع التسلط والاستبداد المجتمعيين، ابتداء من رياض الأطفال وحتى مؤسسة الزواج ومكاتب الأعمال والدراسة الجامعية.

 

 

سليمان إبراهيم العسكري