شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

سقراط .. واخـتـيـار الــمـــوت

لم يكن سقراط رجلاً وسيماً تعشقه النساء, بل كان قبيح الخلقة, كث الشعر, ضخم الأنف, غائر العينين, ضخم الجسم, غير متناسق الأعضاء,وكانت زوجته تراه ًكريهاً دعيا من أدعياء الكهانة والحكمة لا يقدرها حق قدرها كامرأة, فقد تزوجته وهو رجل من عامة الناس, كان أبوه صانع تماثيل وكانت أمه قابلة تقوم بتوليد النساء, وصار في صدر شبابه مثالاً كأبيه, ثم احترف في أواخر عمره صناعة أمه, وهي (التوليد) ولكنه توليد من نوع آخر, كان يصفه هو نفسه ساخراً متهكماً بأنه (يولد) الحقيقة من أدمغة الرجال, كما كانت أمه تولد الأطفال من أرحام النساء...!

والحق أن هذه الحقيقة التي كان يدعو لها سقراط الحكيم ويذيعها بين الناس نبعت حينما كان عصر سقراط عصر ازدهار فني واقتصادي على إثر انتصار اليونان على الفرس بما نجم عنه من تضخم مالي فأثرى الكثيرون من تلك الحرب, ونشأت معه طبقة من أثرياء الحرب وكثرت الإباحية وضاعت معالم التربية الأثينية الموروثة, وانتشرت موجة من الانحلال الخلقي وإهدار القيم الأدبية واستباحة كل محرم.

ثم قام نفر من السفسطائيين من أدعياء الحكمة والفلسفة زعموا أنه لا حقيقة في الدنيا, وإنما حقيقة كل إنسان كما تبدو له, وأن الحق متغير بتغير الأشخاص وأن الإنسان غير مقيد في طلب السعادة والخير إلا بلذة جسمه وإشباع شهواته. وهكذا صار الاستهتار بذلك التعليم الجديد فلسفة مقررة بعد أن كان عدواناً واختلاساً.

وهالت هذه الحالة سقراط, فراح يغشى المجامع والملاعب يناقش أشهر الناس بالعلم ويلقي عليهم أسئلة تبدو ساذجة جداً, ثم يتدرج من سؤال إلى سؤال حتى يوقع الشخص في الحرج والتناقض المضحك, فيضحك منه السامعون ويبدو لهم جهله, واشتهر سقراط بهذا الأسلوب الجديد في الحوار والفلسفة, وفتن به كثير من الشبّان الأذكياء, فصارت له حلقة تتبعه أينما حلّ لتستمع إلى مناقشاته التي يهدف منها الى توجيه الناس إلى الحقيقة ومكارم الأخلاق, زاعماً للناس أنه ليس حكيماً وإنما هو طالب حكمة, وأنه جاهل لا يعرف شيئاً سوى أنه جاهل. فهو إنما يحاول العلم عن طريق معرفة حقيقة نفسه, ويدعو الناس إلى معرفة أنفسهم بأنفسهم, لأن معرفة النفس أولى من معرفة العالم.
وكان ذلك الأسلوب في إفحام الناس وتسخيف أحلامهم, دافعاً إلى أن يبغضه أدعياء الحكمة ممن يبيعون فتاوى الفساد ويعلمون الخطابة والجدل لقاء أجر ضخم, لأنه أظهر فساد رأيهم ونافسهم فأفسد عليهم (تجارتهم) بما آثر من الفقر والعفّة...!

ومع مضي الوقت ازداد الخصوم والأعداء وراحوا يجتهدون في الإيقاع بذلك الخصم العنيد. ولكن ماذا تراهم قائلين عنه? أهو لص? كلا, فإنه العفة مصوّرة في إنسان, أهو خائن لبلده متواطئ مع الأعداء? كلا, فإنه ذو سوابق مشهورة في الشجاعة والإقدام والبسالة في المواقع الخطيرة بين الاثينيين والفرس, إذن فلم يبق أمام أعدائه إلا أن يطعنوه في عقيدته وفلسفته باسم الدين وباسم النظام الاجتماعي, وهي ذريعة طالما انطلت على الغوغاء.

صحيفة الدعوى والحكم

وفي الربيع من سنة 399 قبل مولد المسيح, قرأ الأثينيون هذا الإعلان الذي علق على اللوحة الرسمية في دار الحكومة:
(إن مليتوس الأثيني الحرّ يتهم سقراطاً ابن صانع التماثيل بمجافاته للحقيقة والعدالة وتهديده لنظامها لأنه أولاً ينكر وجود الآلهة التي تعترف بها الجمهورية الأثينية ولأنه ثانياً يدعو إلى آلهة جديدة, ولأنه ثالثاً رجل فاسد مفسد للشبيبة الأثينية. وعقوبة هذه التهم: الإعدام)...!

ولما اقترب يوم المحاكمة أمام المحكمة التي تضم خمسمائة عضو اختيروا بالقرعة بحبات الفول, قال حواري سقراط لأستاذه: ألا تعد دفاعك وتعنى بإعداده? فسأله سقراط متجاهلاً:

- وماذا كنت أفعل إذن طوال حياتي? ما أظنني كنت أفعل شيئاً إلا إعداد ذلك الدفاع, فما انشغالي بالبحث عن كنه العدل والظلم, والشر والخير, والحق والضلال إلا لعنايتي بتجنب الظلم والشرور وإيثاري التزام العدل والخير, وذلك هو أكرم دفاع...!

وأمام محكمة (الشعب) يبدأ سقراط بدفع التهمة وهدمها, ثم يعلل الحقد عليه بكرامة رسالته وشرف دعوته إلى الحق والفضيلة, وبدلاً من إرضاء قضاته والتذلل لهم يعلن أنه لا يقبل أي تقييد لحريته في المستقبل, فهو مصمم على دعوته متى أطلق سراحه مهما يكن منهم بعد ذلك من شأنه من رأي أو قضاء...!

وعلت من القضاة الخمسمائة همهمة غضب واستنكار لما بدا في لهجة (المتهم) من جفاء وتعال, واسترسل هو في هدوء باسم مطمئن فقال:

- إذا كان قولي هذا قد أغضبكم أيها الأثينيون, فاعلموا أنكم إن حكمتم علي بالموت, إنما تسيئون لأنفسكم ولا تسيئون إلي, لأن الشر يحيق بأهله, فضحية الشر والجور فاعلهما لا المقصود بهما, والشر هو ما يجلبه المرء على نفسه بجريرته وجهله لحقيقة الخير, فلئن ذهب البريء ضحية لذلك الجهل, فليس ذلك بضائره في شيء لأنه ظل نقياً بغير دنس, أما المفتري الكاذب فذلك هو الخاسر الخسران المبين.

ولا تحسبوا دفاعي هذا عن نفسي خوفاً عليها, بل خوفاً عليكم أنتم أهل أثينا الأحبّاء.

فإني أخشى أن تفقدوا بفقدي رجلاً لا يعوّض, فإنكم وحق الآلهة لن تجدوا من بعدي أحداً يبصركم بعوراتكم لتركضوا في مهاوي الفتنة والضلال الذي دأبتم عليه..! فاحكموا إذن أيها القضاة بما شئتم فذلك شأنكم أنتم واعلموا أن نفوسكم هي التي في كفّة الميزان لا نفسي, فاحرصوا على العدل والحق فهو خير لكم وأجدى عليكم.

وتداول القضاة شر تداول, وقد اشتراهم خصوم سقراط, وأحبّوا أن يفهموه مقدار سلطانهم فحكموا عليه بالموت بأغلبية 281 صوتاً ضد 291 على أن يكون موته بتجرع السم مذابا في كأس من العسل..!

وحين أتى له الحارس بالسم تجرّع سقراط كأسه ليموت, لكنه بقي حيّاً في ذاكرة الإنسانية.

 

سليمان مظهر

 
 




الفيلسوف اليوناني سقراط