أرقام

أرقام

الصدمة!

لن تنسى ذاكرة التاريخ ذلك الصباح الدامي في نيويورك وواشنطن حين اقتحمت ثلاث طائرات رموز التفوق الأمريكي في البنتاجون ومركز التجارة العالمي.

في ذلك الصباح, وبالتوقيت الأمريكي, استيقظ العالم على حقائق جديدة, فالقوة العسكرية المفرطة لا تكفي وحدها لحماية الأوطان, وحاجز الدفاعات النووية والصاروخية إضافة لمياه المحيطين: الأطلنطي والهادي ليست كافية لحماية أكبر دولة في العالم, وكذلك فإن نظرية (توازن القوى) لم تعد وحدها كافية لتقديم عوامل النصر والهزيمة, بل إن توازنا آخر بات حاسماً وهو (توازن الرعب) حيث يكفي سكين وطائرة مدنية وقرار بالموت ليهزم نفر قليل الدولة الأعظم في العالم, ويوقعوا بها أشد الخسائر!

هكذا تبدلت الحقائق, وحدثت الصدمة, لكن الصدمة لم تكن في الولايات المتحدة أو الدول الكبرى وحدها. كانت هناك صدمة أخرى في الوطن العربي.

في اللحظة نفسها التي سقط فيها مركز التجارة العالمي واهتز العملاق الأمريكي, سقطت عند العرب مقولة إن أسواق الشمال, وفي المقدمة منها السوق الأمريكية هي الأكثر أمناً وأكثر ربحاً... لذا, فقد خرجت التقديرات خلال ساعات تحكي: كم خسر العرب نتيجة لهبوط أسعار الأسهم والسندات وأذون الخزانة الأمريكية أو غيرها, وكم خسروا نتيجة اهتزاز الدولار, وكانت كلها خسائر تقديرية فإذا لم تتعامل على ما لديك, فإن الخسارة قد تكون مؤجلة, وربما تحوّلت في وقت لاحق إلى ربح من جديد, ولكن, وفي كل الأحوال ضاع ما يجذب العرب ويدفعهم لاستثمار ألف مليار دولار خارج وطنهم (طبقاً لبعض التقديرات), ضاع عنصر الثقة والاطمئنان.

قبلها, كان رأس المال العربي قد هرب بسبب توتر متواصل ساد المنطقة العربية لنحو نصف قرن, وهو توتر بدأ بالصدام مع إسرائيل وامتد للصدام مع دول الجوار ثم صدام عربي - عربي.

وقبلها, كان الاقتصاد العربي قد تلقى صدمتين في حقبتين, ففي الثمانينيات كان البترول قد نزل عن عرشه الذي اعتلاه منذ حرب أكتوبر (73), تراجعت الأسعار, واستمرت في التراجع وخسر العرب, وخسرت التنمية العربية المليارات, كما تبدد عنصر رئيسي للاستقرار الاقتصادي.

بعدها, وفي أوائل حقبة التسعينيات, جاءت الصدمة الثانية: صدمة حرب الخليج إثر غزو العراق للكويت, وكان ثمن الصدمة باهظا: مليارات من أجل الحرب والدفاع, ومليارات نازحة تبحث عن مكان بعيد عن المدافع.

ثم... جاء الثلاثاء الدامي, وفي بداية حقبة جديدة أيضاً, أعني الثلاثاء (11) سبتمبر عام (2001), والذي بدد ما بقي من إحساس بالأمن والاستقرار!

لم تعد السوق الأمريكية - إذن - (وقبلها جنوب شرق آسيا) هي السوق المستقرة والآمنة, فهذه رياح السياسة والحرب تقتلع كل شيء, وإلى أمد غير منظور.

ولم يعد حال الاقتصاد العالمي, مع وعود بحرب مفتوحة, يساعد على التنبؤ أو رؤية المستقبل, فهل يزيد كساداً بسبب ما جرى, أم تكون آلة الحرب كافية لدفع آلة الاقتصاد?

.... المشكلة

ومشكلة الاقتصاد العربي, أو إحدى مشاكله, هي الاندماج عالميا, حتى بات العالم هو قلب الاقتصاد وشريانه الرئيس, وإذا كانت التقديرات تذهب لأرقام غير موثوقة في مجال الاستثمار الخارجي, فإن رابطة التجارة هي الأكثر وضوحاً.

وطبقاً لتقرير الاقتصاد العربي الموحد والذي تصدره أمانة الجامعة العربية ومنظمات أخرى, فإن الاقتصادات العربية من أكثر الاقتصادات اندماجاً في الاقتصاد العالمي واعتماداً عليه, ففي أواخر التسعينيات (1998) استورد العرب من العالم الخارجي (5ر91) بالمائة من جملة وارداتهم, وقاموا بتصدير (89) بالمائة من صادراتهم إلى هذا العالم بعيداً عن الأرض العربية.

رابطة التجارة رابطة أساسية, وفي القلب منها صادرات النفط وواردات الغذاء والسلاح, فالسلعة التقديرية الرئيسية لدى عشر بلدان عربية هي النفط, إضافة إلى أنه أحد المكونات ذات الثقل في صادرات ثلاث دول أخرى.

في الوقت نفسه, وطبقاً للتقرير الاقتصادي العربي الموحد أيضاً, فإن الفجوة الغذائية من الحبوب في نهاية التسعينيات قد بلغت حوالي (43) بالمائة, ومن السكر (67) بالمائة, ومن الألبان (23) بالمائة, ومن الزيوت (37) بالمائة, ومن اللحوم (16) بالمائة.

الوطن العربي - إذن - غير قادر على إطعام نفسه, وغير قادر على تصنيع أهم مادة خام يملكها وهي النفط, ومن ثم يتم تصدير معظمه للخارج بشكله الخام.

فإذا أضفنا واردات السلاح, ومعظمه أمريكي, وإذا أضفنا الديون الخارجية والتي بلغت (151) مليار دولار عام (97), وبما يعادل (61) بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي في مقابل (8ر6) بالمائة فقط كمتوسط لأكبر (16) مدينا في العالم, إذا أضفنا ذلك كله لاستطعنا الوقوف على حقيقة الاندماج أو التبعية مع الاقتصاد الدولي والذي تلعب الولايات المتحدة المركز الأول فيه.

السؤال: ما مصير كل ذلك في عالم المستقبل القريب? كيف ينجو المستثمر العربي, وينجو الاقتصاد العربي وسط محيط من (عدم اليقين) بل وسط اهتزازات سوف تصيب أسواق المال بالضرورة, كما قد تصيب أسواق النفط وكل ما تصدره الدول العربية.

عند كل (صدمة) لابد من إعادة نظر, فإذا لم يكن قد حدث ذلك وساد فكر الأزمة عندما وقعت صدمة النفط في الثمانينيات وصدمة حرب الخليج الثانية في التسعينيات, إذا لم نكن قد أعدنا النظر وأعددنا الهجوم المضاد في الحالتين, فإن الصدمة الجديدة تدعونا للنظر.كان عنصر الربحية جاء برأس المال العربي ليهاجر, ولم يعد ذلك قائماً في أحوال كثيرة.

وكان عنصر الأمن والاطمئنان والاستقرار - حتى لو قلت الربحية - دافعاً لأصحاب الاستثمارات - حكومات وأفراداً - لكي تتوطن أجزاء كبيرة من استثماراتهم في الخارج, لكن عنصر (عدم اليقين) و (عدم الأمان) هو الأكثر ترجيحاً بعد الثلاثاء الدامي, بل إنه لو حاولت الحكومات العربية سحب إيداعاتها الضخمة في الأذون والسندات الأمريكية لقابلتها عوائق السوق, وربما عوائق الإدارة وتعليماتها.

وكان هيكل الإنتاج العربي, ومازال, ركيزة لهذه العلاقة التابعة بين العرب والعالم الخارجي, فالنفط الخام تستهلكه الدول الصناعية بالضرورة, وصادرات الصناعة العربية لن تجد مكاناً بغير تفوق تكنولوجي, وواردات السلاح - وهي الأضخم في العالم كله ــ لن تقل بغير صناعة حربية عربية, واستقرار أمني, ونسب التبادل التي تجعل نصيب الآخرين في تجارتنا يقترب دائماً من تسعين بالمائة, هذه النسب لن تتغير بغير تكامل (عربي - عربي) يقوم على أساس سوق متسعة تضم حوالي (270) مليون نسمة, وتضم قدرة استهلاكية كبيرة على أي حال, كما تشمل موارد هائلة في شكلها الأولي, كما خلقها الله, ومن ثم فهي قابلة للتطوير.

لقد كانت معضلات العرب الاقتصادية, ودائماً, ثلاث معضلات:

* تشوّه في الهيكل الاقتصادي, وعجز عن التقدم بسبب نقص المعرفة والاعتماد على التكنولوجيا الغربية الجاهزة والتي ترد - في معظم الأحيان - في شكل منتجات جاهزة.

وفي ظل هذا التشوّه, خضع الاقتصاد العربي لأسر أسواق الخامات وأسعارها التي تهتز صعوداً وهبوطاً, وبينما كنا نحصل على عائد متدنٍ لصادراتنا, كنا ندفع أكثر في واردات من السلع المصنوعة والسلاح الذي يتجه إلى المخازن في كثير من الأحيان.

* وكانت المعضلة الثانية هي العجز عن مواجهة احتياجات الواقع وأبرزه: فقر في كثير من الأقطار, ونمو سكاني بأعلى من المعدل العالمي في معظم الأقطار, مع حاجة متزايدة إلى فرص عمل مازالت غائبة حيث يتوقع البنك الدولي أن يتضاعف حجم القوى العاملة العربية عام (2030) بينما نعاني وفي الوقت الراهن من مشكلة البطالة.

* أما المعضلة الثالثة فهي التبعية للخارج والتي تحافظ على كل ذلك وتكرّسه, فهل حان وقت الاستقلال وبناء نموذج عربي?

ظرف الصدمة, وفكر الأزمة لابد أن يجعلا ذلك مطروحاً, فلا مفر من بناء الذات, والاعتماد على الذات قطرياً وعربياً.

لقد انهارت بورصة نيويورك في يوم الثلاثاء الدامي, لكن بورصات القاهرة والبحرين وعمان وسلـــطنة عمان لم تتــعرض للانهيار, فهل تكـون البداية?

ورقم

أين نعيش?

ما مستقبل الصحارى العربية? وما مستقبل الريف والحضر?

والسؤال ليس في الجيولوجيا, لكنه سؤال في التنمية, فالناس في الصحارى العربية تهاجر من الريف والصحراء وتشيد المدن.

في العالم كله اتجاه للتحضّر وبناء المدن, ولكن الظاهرة تبدو أكثر وضوحاً في البلاد العربية بدرجة أكبر.

سكان الحضر في الكويت يمثلون (97) بالمائة من جملة سكان الدولة, وهم في لبنان (86) بالمائة, وفي ليبيا (84) بالمائة, وفي الإمارات والسعودية (83) بالمائة.

وتنعكس الظاهرة على النشاط الاقتصادي, فسكان المدن لا يعملون بالزراعة أو بالرعي, في وقت تتسع فيه الفجوة الغذائية, بل وتهبط فيه إنتاجية العرب من الحبوب - على سبيل المثال - لتصل إلى (6ر1) مليون طن في الهكتار - مقابل (2ر5) طن في الولايات المتحدة و (5ر4) طن في أوربا.

والمدينة قد تعني استهلاكاً أكثر, وإنتاجاً أقل. إنها نمط آخر من الحياة, ونمط آخر من الأنشطة التي تدخل في اقتصاد الخدمات واقتصاد المعرفة والذي تزيد أهميته النسبية في الدول المختلفة, ولكن هل نتنازل عن هدف (إنتاج سلعي أكثر)?

خريطة السكان, وخريطة المدن, وخريطة الاحتياجات تحدد كلها أي نوع من التخطيط نحتاج. وأول أنواع هذا التخطيط: أين يعيش العرب? وأيّ نشاط يمارسون?

 

محمود المراغي