تشرذم.. لا تعددية

تشرذم.. لا تعددية

ظاهرتان لافتتان للنظر تطرحان على بساط البحث ما يسميه الخطاب السياسي العربي «أمة» وثقافة أو حضارة «واحدة». أولا: التفكك الاجتماعي - السياسي العربي، وثانيًا: التشرذم الثقافي - الفكري.

قد يقول البعض إن مفهوم «الأمة» لا ينفي تعدد المجتمعات السياسية العربية ودولها القطرية. كما أن مفهوم وحدة الثقافة والحضارة لا ينفي وجود التعدد الثقافي في حضارة ذات عمق تاريخي واحد.

لا شك أن الرد على المحذور صحيح من وجهة مبدئية ومنهجية. فالتعدد القطري على مستوى نشأة الدول في تاريخ العرب الحديث والمعاصر أضحى أمرًا واقعًا واكتسب بفعل العوامل المرتبطة بتكوين الدولة وهياكلها ونخبها، وبالتكوين الاقتصادي والاجتماعي لإطار المصالح المشتركة التي تنتظم فيها، «خصوصيات» أضحى من الصعب تجاهلها لحساب منظور الدولة - الأمة، وكما سار هذا المنظور في وعي النخب العربية التي نادت بالدولة القومية الواحدة المتجانسة فكرًا وثقافة ومصالح.

إن التعدد القطري، كما التعدد الفكري والثقافي، أضحيا أمرًا واقعًا - بل أضحيا معطيات تاريخية مقروءة يجب أن تفهم وتستوعب إذا ما أريد لمشروع الوحدة العربية أن يأخذ مجرى الواقعية وإمكان التحقق في التاريخ.

غير أن الظاهرتين المحذورتين اللتين أشرت لهما، لا تتعلّقان بمبدأ التعدد سواء بصفته القطرية أو بصفته الثقافية الفكرية. إن المحذورين اللذين أشير لهما يتعلقان بظاهرتين غير صحيتين، ولهما عنوان آخر غير التعدد هما التفكك والتشرذم. وفيما يلي بعض من آثارهما الخطيرة:

ظاهرة التفكك

تبدو مظاهر التفكك الاجتماعي في المجتمعات السياسية العربية في تفاقم ظاهرة التفاوتات الاجتماعية الحادّة على مستوى الدخل ونمط المعيشة وفرص العمل وطرق الاستهلاك والإنفاق. وهذه التفاوتات تعانى على مستويين: ما بين طبقات المجتمع القطري الوطني الواحد، وما بين المجتمعات القطرية العربية. فإذا كان المشروع النهضوي العربي قد ارتبط بمشروع الوحدة في الفكر والدعوة ومورس هذا الأخير في الخطاب السياسي والدعوي من خلال استحضار مسلّمة «الأمة» في الذاكرة التاريخية العربية، فإن هذه المسلّمة اليوم لم تعد مسلّمة، لاسيما إذا ما نظر إلى واقع الأشياء نظرة فاحصة.

إن النظر إلى واقع المجتمعات العربية يشير إلى تفاقم التناقضات والصراعات داخل المجتمع الواحد، وفيما بين المجتمعات السياسية العربية نفسها، ولا يغير في الأمر كثيرًا أو قليلاً ازدياد استخدام مصطلح الأمة في الخطاب القومي أو الإسلامي - كما نلاحظ في الآونة الأخيرة - فكأن الإصرار على استخدام المصطلح في النص كفيل بتخطي التفاقم الذي تسير نحوه حركة التجزؤ في الواقع، وهو إصرار يترجم عجزًا أو هروبًا ولا يعبّر عن رؤية شفافة لواقع ولا عن استشراف حكيم لمستقبل.

والأمر الذي يزيد هذا التفكك الاجتماعي خطورة، هو ما تعانيه شرائح النخب الفكرية من تشرذم.

فكأن التفكك الاجتماعي المولّد للعصبيات الطبقية والفئوية والطائفية والقبلية والقطرية أو«الجهوية» - حسب التعبير المغاربي - يتدعّم بتشرذم ثقافي وفكري يعاني حالة من العصبويات الفكرية والنفسية المقطوعة الصلة فيما بينها، بل المتصارعة فيما بينها حتى النفي أو الموت. هذه الحالة تبدو في إطلاق أفكار لا تتواصل، بل تتحارب، وإن تعايشت في مجتمع واحد، وفي الدعوة إلى مدارس ومناهج لا تتفاعل بل تتناحر، وإن وجدت وصدرت عن بنية جغرافية - حضارية واحدة.

ولا بد من التشديد هنا - وكما سبقت الإشارة - إلى أن هذه الحالة من اللاتجانس الثقافي لا يمكن اعتبارها مظهرًا من مظاهر التعددية المستحبّة أو الواجبة، أو كجزء من حرية الرأي والفكر والاجتهاد.

إن اللاتجانس هنا، يعبّر عن حالة تشرذم بين المثقفين العرب وطريقة تعاملهم مع المرجعيات الفكرية والتاريخية والمدارس والمناهج. وتبدو لي - في أكثر الأحيان والحالات - أن هذه الطريقة واحدة، سواء تعلّق الأمر بأشكال تمثل الثقافة الغربية محليًا، أو بأشكال تمثل الثقافة الإسلامية. فالثقافة الغربية، قلّما، تُستوعب، ولاسيما في الأوساط الجامعية والأكاديمية، في عقل نقدي، وإنما تنقل عبر تعبيراتها المبتسرة، أو المرحلية نقلا جزئيًا (مدرسة من المدارس أو نظرية من النظريات تدرسّ كحقيقة ومرجعية قائمة بذاتها)، والثقافة الإسلامية لا تستحضر - لاسيما لدى العديد من الكتّاب الإسلاميين - إلا من خلال الموقف السياسي والدعوي الرّاهن. وغالبًا ما ينحصر المثقف الإسلامي في قطاع معرفي وحيد الجانب هو قطاع الفقه وحده، وفي قطاع اجتماعي - سياسي واحد هو قطاع السياسة اليومية والخطاب التعبوي والتحريضي وحده.

والأدهى من هذا وذاك، أن تتشكّل المدرسة في صيغة فرقة أو مذهب أو موقف عصبوي، وأن تستدخل النظرية أو صيغة الاجتهاد أو وجهة النظر في صيغة دوغمائية وعقيدية، ترى على أنها شرط «لمشروع حضاري عربي» مفصّل على قياسها، فيضحى - على المستوى الثقافي - لكل «عصبية فكرية» أو وجهة نظر «مشروعها الحضاري» العربي - ولكل دولة أو حزب - على المستوى السياسي - مشروعها «كأمة» قائمة بذاتها، أو مشروعها الذي تطمح فيه لإلحاق الكل بالجزء، فتنوب نخبة الدولة أو الحزب، وحدها عن الأمة وتنطق باسمها.

عصبيات فكرية وسياسية

ومن أوجه استفحال المشكلة، على مستوى تشكل العصبيات الفكرية والسياسية ما أضحى يسمى في بعض مناهج الفكر الإسلامي وبعض مناهج الفكر البنيوي «مرجعية إسلامية أصيلة» أو «مرجعية غربية وافدة».

وعلى الرغم من تباين الموقفين، فإنهما يلتقيان، منهجيًا، في تجميد التاريخ وإيقافه وحبسه في أنساق ومرجعيات ثابتة لا تبديل فيها ولا تغيير ولا تفاعل.

إن دراسة تجارب التاريخ، والتاريخ المقارن للحضارات بصورة خاصة، علّمتنا أنه من الصعب عزل الوافد عن الأصيل في حضارة ما، أو فرز الأحجام والأنواع، والعناصر المكوّنة لمشروع حضاري أو مدرسة فكرية. فما يسمى - تجاوزًا - «أصيل» هو جزء من تراث متحرّك ومتحوّل في التاريخ، لم يكن أصيلاً في زمن تكوّنه، بل كان في جزء كبير منه «وافدًا» من حضارة أو حضارات أخرى، وأن ما يسمى «الوافد» هو جزء من حضارة عالمية، أو حضارة غالبة، أضحى من الصعب مع تطور كل وسائل التعليم والتعلم والإعلام والمعرفة، التعامل معه «كاختراق ثقافي» أو «كغزو ثقافي» أو عنصر «دخيل»، كما كان الموقف في القرن التاسع عشر أو مطالع القرن العشرين (مرحلة الاستعمار المباشر).

إن الوافد والأصيل اختلطا اليوم في التكوين والتشكل حتى أصبحا جزءًا من حالة ذهنية في الشخصية العربية ولدى النخب المثقفة على وجه أكثر تحديدًا، ومهما اختلفت مشارب هذه الأخيرة وتنوعت اتجاهاتها.

لكن المشكلة تبقى كامنة في عدم وعي هذا الاختلاط والتداخل وعيًا تكامليًا ونقديًا، فثمة افتعال لا تفسره إلا أحوال نفسية واجتماعية تؤدي إلى الإحباط لا إلى الاقتناع. والإحباط غالبًا ما ينتج ردود فعل مستسلمة للعلاج وأوهامًا مبسطّة للتصنيف والتشخيص. وغالبًا ما يتخذ التصنيف شكل الثنائيات البدائية المفتعلة:

الخير مقابل الشر، الحق مقابل الباطل، إنها ثنائيات يستسهل من خلالها الصراع اليومي لدى فئات المثقفين، فترى في الحلبة مصطلحات تنقطع عن جذورها الفكرية وسياقاتها التاريخية لتحوّل إلى متاريس وبيارق وخنادق للصراع السياسي اليومي. الأمثلة على ذلك كثيرة: أليست ثنائيات كالشورى والديمقراطية، والإسلام والعلمانية والديني والمدني... إلخ. هي من قبيل هذا الافتعال, لإبراز عناصر مبسطة وسهلة، يتم وعيها بأشكال متقابلة في وعي المثقفين العرب، ودون أن يكون لهذه الثنائيات المتصارعة على مستوى صورة الوعي، سندها ومبررها على مستوى حركة التاريخ والقوى الاجتماعية والمصالح التي تحملها?!.

 

وجيه كوثراني