الجدال حول حق العودة.. عبدالرحمن شاكر

الجدال حول حق العودة.. عبدالرحمن شاكر

في إطار الكلمات، التي قيلت طلبًا للتهدئة ووقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية ودولة الاحتلال الاسرائيلي في أواخر نوفمبر 2006، أعلن رئيس وزرائها «يهود أولمرت»، أن دولته على استعداد لتطوير هذه الهدنة، إلى تسوية شاملة، وإنهاء الصراع بينهما على أساس دولتين، إحداهما فلسطينية والأخرى يهودية، بشرط أن يبدي الفلسطينيون استعدادهم للتنازل عن حق العودة.

ليس في وسع الفلسطينيين، أو منظمة التحرير الفلسطينية، التي تتولى مسئولية التفاوض مع العدو الصهيوني، أن تقبل هذا المطلب أو الشرط الذي طرحه أولمرت للتفاوض، فحق عودة اللاجئين إلى بلادهم قد أقرته الأمم المتحدة في قراراتها، التي لم تلتزم بها الحكومة الصهيونية في إخلال صريح بالشرعية الدولية، التي كان مولد هذه الدولة بموجب أحد قراراتها، وهو قرار تقسيم فلسطين العام 1947، كما أنه ليس في وسع منظمة التحرير الفلسطينية أن تفرض على البلدان العربية، التي استضافت اللاجئين الفلسطينيين ريثما يعودون إلى بلادهم أن تقبل باستمرار وجودهم إلى الأبد، أو تضطر إلى توطينهم وإعطائهم جنسيتها رغمًا عنها، أو تضطر إلى طردهم إلى أي بلد يقبل استضافتهم، باستثناء بلدانهم التي جاءوا منها بفعل التحكم الصهيوني، مع الأخذ في الاعتبار أن وضع اللاجئين في منافيهم العربية يحيل حياتهم فيها إلى شقاء دائم ومعاناة شديدة، باستثناء بعض الحالات الفردية، التي لا تمثل الكثرة الغالبة، فهم محرومون من كثير من وسائل العمل في كسب العيش، ففي لبنان - مثلاً - يحرم عليهم الاشتغال بحوالي 72 مهنة، فضلاً عن المخاوف الأمنية، التي تبديها الدولة، وكثير من القوى السياسية إزاءهم، والتي تتصور توطينهم إخلالاً شديدًا بالتوازن الطائفي في هذا البلد الذي لم يكد يعرف استقرارًا منذ استقلاله الذي تبعته النكبة الفلسطينية العام 1948، وما ترتب عليها من نزوح عدد كبير من الفلسطينيين هربًا من المذابح الصهيونية.

وحتى العراق الذي كان من أشد البلدان العربية حفاوة بمن لجأ إليه من الفلسطينيين، ولم تكن قضية التوطين تعتبر مشكلة بالنسبة إليه، حيث كان القانون العراقي يعتبر أي عربي يحل بأرض العراق مواطنًا له ما لسائر العراقيين من حقوق، وعليه ما عليهم من التزامات. وبعد التدخل الأمريكي لم يعد أحد يحفل بالعمل بهذا القانون أو يحرص على تنفيذه أو الذود عن أحكامه إذا ما خولفت، وتعرض كثير من الفلسطينيين في العراق إلى الاضطهاد، بما في ذلك الطرد من مساكنهم، أو مطالبتهم بمغادرة البلاد، بل وصل إلى حد إطلاق الصواريخ على مخيمهم وقتل عدد منهم، الأمر الذي أصبح يمثل مشكلة جديدة تواجهها السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث رفضت الحكومة الأردنية أن تكون بلادها هي المنفى الجديد لهؤلاء المشرّدين للمرة الثانية، بالرغم من أن نصف مواطني المملكة الأردنية هم من الفلسطينيين!

الحق الآخر المزعوم

بإزاء حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، الذي يطالب حكام الدولة الصهيونية الفلسطينيين بالتنازل عنه، فإن لدى تلك الدولة قانونًا يسمى بدوره قانون العودة! يقضي بأن من حق كل يهودي يصل إلى أرض فلسطين (إسرائيل بزعمهم) أن يكتسب جنسية تلك الدولة، وأن يقيم فيها كما يشاء!

ومن الذين استفادوا من هذا القانون، مجموعة من اليهود العراقيين، قدمت إحدى الفضائيات العربية أخيرًا برنامجًا عنهم، أظهرت فيه كيف أنهم - أو بعضهم على الأقل - لايزالون يحنون إلى أرض العراق وسابق حياتهم فيها، وجزء من احتفاظهم بذكرياتهم هناك، أنهم أحيانًا يعزفون ويستمعون إلى الموسيقى والأغاني العراقية بلغتها العربية.

أحد هؤلاء تحدث إلى البرنامج المذكور، وذكر أنهم أتوا إلى دولة أنشأها الأوربيون من اليهود الأشكناز الخزر، الذين اعتنقوا الديانة اليهودية في القرن الثامن الميلادي، كان ذلك في معرض بيان سبب التمايز بين جماعته هو من اليهود العراقيين، وسائر سكان تلك الدولة اليهودية والمسيطرين على مقدراتها.

من هذا التصريح الذي قاله اليهودي العراقي الأصل - ولم يكن هو أول أو آخر يهودي أو إسرائيلي يعترف بتلك الحقيقة - يتضح أن الأوربيين من اليهود الأشكناز الخزر، لم «يعودوا» إلى بلادهم حينما قدموا إلى فلسطين، فهذه البلاد لم تكن بلادهم قط، لا هم ولا آباؤهم أو أجدادهم الذين تحولوا من الوثنية إلى اليهودية في زمن متأخر جدًا عن زمن قيام وسقوط الدولتين اليهوديتين اللتين قامتا واندثرتا في فلسطين منذ حوالي عشرة قرون قبل الميلاد! وإنما هم في واقع الأمر قد غادروا بلادهم الحقيقية في القوقاز (الذي يتبع روسيا حاليًا) وقدموا إلى فلسطين كأي غزاة أوربيين استعمروا واستوطنوا بلادًا أخرى، كما حدث في الأمريكتين وأستراليا وأجزاء من إفريقيا، وليس اعتناق أجدادهم اليهودية، بعد ظهور كل من المسيحية والإسلام ما يترتب عليه أي حق لهم في فلسطين، فمعظم الأوربيين قد اعتنقوا ديانة أخرى ظهرت في هذه المنطقة نفسها من العالم وهي المسيحية، وإن ذهبوا مبشرين بها في بلاد أخرى من فتوحاتهم الاستعمارية والاستيطانية، أن حق «العودة» الإسرائيلي المزعوم، إنما يقوم على كذب صراح تتعمده الصهيونية في ادعائها أن كل يهود العالم هم من بني إسرائيل الذين لحقهم الشتات بعد الغزو البابلي لفلسطين وأسرهم كلهم هناك في بابل!

ربما يكون اليهود العراقيون الذين أشرنا إليهم واستشهدنا بأقوال أحدهم هم من بقايا ذلك الشتات والأسر! ولكن ذوي الأصول الأوربية محال أن يكونوا من هؤلاء! وهؤلاء الأوربيون الذين اعتنق أجدادهم اليهودية إنما أطلق عليهم اسم «الأشكناز»، اليهود السفارديم الذين كانوا مع العرب في الأندلس، نسبة إلى أشكناز بن جوم بن يافث بن نوح، تمييزًا لهم عن «الساميين»، من العبرانيين من سلالة سام بن نوح، لتصبح الكذبة الصهيونية الأخرى هي ادعاؤهم أنهم من أصول «سامية»، ويصبح رميهم لكل من يعاديهم - أو حتى يخالفهم، بمعاداة السامية - عبارة لا معنى لها من الحقيقة أو التاريخ، فإذا علمنا أن اليهود الأشكناز، هم حوالي 29% من يهود العالم أدركنا مدى ضخامة الكذبة الصهيونية، التي تتعمد الخلط بين الدين والقومية على نحو شائن! وأن الاستيلاء على فلسطين من جانب اليهود الأوربيين، الذين تشكلت منهم الحركة الصهيونية هو باطل من وجهة نظر الديانة اليهودية والتاريخ اليهودي على حد سواء، فضلاً عن بطلانها من حيث الأعراف الإنسانية المطلقة، أن يأتي قوم من بلاد بعيدة إلى قوم آخرين في بلاد أخرى، ليقولوا لهم اخرجوا من هذه الديار، ودعوها لنا فقد كانت مملوكة «لأجدادنا» وقد خرجوا منها منذ ثلاثة آلاف سنة! ويجدون في العالم من يصدقهم ويقبل دعواهم، لأنهم شركاء لهم في جريمة محاولة السيطرة الاستعمارية على هذه المنطقة من العالم!

إذا كان المفاوضون الفلسطينيون سوف يناقشون الصهاينة في حق العودة الذي ينكرونه على المشردين الفلسطينيين بسبب الغزو الصهيوني، فعليهم أن يذكروا لهم تلك الحقائق ويضعوها في أعينهم وأعين العالم الذي يتجاهلها إما عن جهل أو سوء قصد. من يدري أين ذهب بنو إسرائيل الذين خرجوا من مصر، مع نبي الله موسى عليه السلام، وتوجهوا إلى فلسطين طبقا للوعد الإلهي الذي تنص عليه الكتب المقدسة؟ من الممكن أن يكون من بقاياهم من ذكرنا من اليهود العراقيين، ومن الممكن أن يكون من بينهم فلسطيني يعيش في مخيم للاجئين في لبنان أو سورية واعتنق آباؤه المسيحية أو الإسلام، علما بأن ليس كل اليهود الشرقيين من المحقق أن يكونوا من بني إسرائيل، فكثير منهم هم من المزارحين، وخاصة يهود اليمن، الذين أجبرهم أو أجبر أجدادهم على اعتناق اليهودية ملك يهودي في القرن الرابع الميلادي، صنع لهم الأخدود المذكور في القرآن الكريم، وملأه بالنار لكي يلقي فيه من يرفض التحول إلى الديانة اليهودية من سكان مملكته. كنت أعجب من الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات - رحمه الله - حينما يشير إلى شعبه من الفلسطينيين بأنهم شعب الجبارين، ربما إشارة منه - سامحه الله - إلى الآية الكريمة التي وردت في القرآن الكريم عن قوم موسى إذ يجادلونه مترددين في دخول أرض فلسطين بقولهم: يا موسى إن فيها قومًا جبارين ، أين أبناء فلسطين المعاصرين من هؤلاء الجبارين من سكان أرض فلسطين القدماء وقد تبدلت على البلاد عبر القرون الطويلة أحداث وأقوام.

إن ما يسمى بالصراع العربي - الإسرائيلي ليس صراعًا سياسيًا أو عسكريًا فحسب، حيث تباهى رئيس الوزراء الصهيوني في حديثه المذكور في أول المقال بأن دولته قوية جدًا! ونبرة التهديد كانت واضحة في ذلك، ومغزاها أن الحق هو ما تفرضه القوة في نهاية الأمر.

ولكنني أردت أن أقول إن هذا الصراع إنما هو أيضًا صراع حضاري ثقافي، حيث العلم والثقافة هي من أمضى أسلحته، ولا تدري ما يكون من حسن استخدام هذين السلاحين سواء في التفاوض أو الدعاية السياسية في عالم لايزال يهيمن عليه الكثير من الجهل حتى فيما يوصف بأنها بلدان متقدمة!

استدراك

أما القتال الدائر بين بعض الفصائل الفلسطينية فهو أسوأ بكثير من كل ما يلحقه بهم عدوهم.

وما بنيت إلاّ على الحبِّ أمّةً ولا عزّ إلاّ بالحنان زعيمُ
هو الحبّ حتّى يكرم العُدْمِ موسرٌ ويأسى لأحزان الغنيّ عديمُ
وحتّى يريح الذّنب من حمل وزره حنانٌ بغفرانِ الذّنوِب زعيم


بدوي الجبل

 

عبدالرحمن شاكر