الموسيقى بين الطبيعة والفن

الموسيقى بين الطبيعة والفن

كان شوبنهاور هو أول من قال بأن كل الفنون تطمح إلى أن تكون مثل الموسيقى، وقد تكررت هذه الملاحظة على الدوام وكانت سببا في قدر كبير من سوء الفهم.

كان هذا القول يعبّر عن حقيقة مهمة. فقد كان شوبنهاور يفكر - ربما لأنها هي الأقدم تاريخا - فى المميزات المجردة للموسيقى، ففى الموسيقى - وفيها وحدها تقريبًا - يمكن للفنان أن يخاطب جمهوره مباشرة، من دون تدخل وسيلة للاتصال تستخدم بشكل عام في أغراض أخرى.

فالظاهرة الموسيقية ظاهرة بالغة التعقيد، من حيث تاريخها أو نشأتها، ومن حيث آثارها الاجتماعية والتربوية ودلائلها الحضارية والقومية، ومن حيث تنوعها وارتباطها بغيرها من الفنون. فالموسيقى لم تنشأ كفن مستقل بذاته كالشعر مثلا؛ ومع ذلك أصبحت اكثر الفنون استقلالاً: فقد كانت الموسيقى فنا تابعا نشأ مصاحبًا للغناء أو الرقص الذي كان القدماء يمارسونه في احتفالاتهم الدنيوية وطقوسهم الدينية.

وحتى في العصر الوسيط كانت الموسيقى عنصرًا مصاحبًا للأناشيد الدينية التى تمارس داخل الكنيسة، حيث جرى ما جرى عليها من تطور إلى أن خرجت إلى مجال الحياة الدنيوية. ومع تطور الموسيقي ـ وخاصة مع موسيقى الآلات Instrumental أصبحت الموسيقى فنًا خالصًا قائمًا بذاته له وسائله التعبيرية الخاصة التى يستغني بها عن سائر الفنون ولا يستغني أكثرها عنه، على ما يذكر باحث معاصر، فحتى الفنون الخاصة التى لا تستفيد من الموسيقي أو تستعين بها على نحو صريح مباشر، لم تتحرر من التأثر بأسلوب التعبير الموسيقي الذي أضحى مثالا وغاية لسائر الفنون باعتباره تعبيرًا مكتفيًا بذاته لايعتمد على شيء من الواقع أو الطبيعة.

صوت الموسيقى

والصوت الموسيقي - من حيث هو مادة موسيقية - يتميز هو نفسه بطابع فريد، إذ لا يكون مستمدًا من أي شئ في الطبيعة أو وقائع العالم الخارجي. وبهذا تنفرد الموسيقى عن سائر الفنون الأخرى بطابع الاستقلال عن الطبيعة:

فمادة التصوير على سبيل المثال - وهي الألوان - مستمدة من الطبيعة، والمصور لا يستقي ألوانه من الطبيعة فحسب، بل إنه هو نفسه يتعلم منها أيضا فى ممارسته لفنه، حينما يدرس ويتأمل ملمس الأشياء، ومدى صلابتها وعمقها وظلالها وضوئها.وفن المعمار ـ وكذلك فن النحت ـ يستمد أحجاره ومواده ذات الكتلة والحجم من الطبيعة. والشاعر أو الأديب على وجه العموم يستخدم كلمات مستمدة من لغة وقاموس شعب ما. قد يقال إن الطبيعة تحفل بأصوات جميلة تبعث البهجة والمتعة في نفوسنا: كهمسات النسيم التي تداعب أوراق الأشجار أو خرير الماء فى جداول الأنهار، وقد تتخذ هذه الأصوات طابعًا موسيقيًا أو نغميًا كما في غناء بعض الطيور، غير أن هذا القول غافل عن أن هذه الأصوات لا تشكل موسيقى ولا هي حتى تمثل مادة قابلة للتشكيل الموسيقي كعمل فني، لأنها تنتظم أو تترابط في تشكيل معين بحيث تقدم لنا صورة كلية معبرة، وفضلا عن ذلك فإنها تتألف من نغمات محدودة للغاية تتكرر على نحو رتيب بحيث لاتصلح كمادة موسيقية، ولا شك أن هذه وإن لم تكن نتاجا لوعي إبداعي بمفهومنا الإنساني للإبداع الفني، فإنها نتاج إبداعي إلهي قصدي أراد من خلال هذه النفحات البسيطة المتكررة حث وتنبيه حسنا الجمالي على تقدير قيمة الصوت الموسيقي والاستمتاع به جماليا. ولذلك فإن غاية ما يمكننا قوله هنا هو أن هذه الأصوات الجميلة فى الطبيعة قد ولدت فى الإنسان حسًا موسيقيًا أوليًا، تماما مثلما استقى من الطبيعة حسا جماليًا أوليًا: ولكن فى حين أن المصور أو النحات أو المعماري قد وجد في الطبيعة مواد يمكن أن يستخدمها في تعبيره الجمالي لم يجد الموسيقار شيئا يستعين به سوى حسه الموسيقي الأولي وكان عليه أن يبدع بنفسه أدواته التعبيرية الخاصة.ويؤكد أحد الباحثين على أن هناك صلة وثيقة بين الإيقاع الموسيقي والنظام الذي تسير عليه حركة الجسم وحركة الطبيعة: فللجسم حركات إيقاعية سريعة كالتنفس بما فيها من شهيق وزفير، وحركات بطيئة نسبيا، كتعاقب الجوع والشبع، والنوم واليقظة. وفي الطبيعة إيقاع يتعاقب فيه الليل والنهار، وإيقاع رباعي تتعاقب فيه فصول السنة.

حاسة الإيقاع

ومن هنا قال كثير من الباحثين بأن للموسيقى أصلاً عضويًا أو طبيعيًا ما دامت الحركة الطبيعية فيها ترديدا لحركات مناظرة لها داخل الجسم الإنساني أو فى الطبيعة الخارجية، مما أدى إلى تكوين ما يسمى بالحاسة الإيقاعية لدى الإنسان، وأن كل ما يعنيه هذا بالنسبة لنا هو أن الحس الإيقاعي الأولي لدي الإنسان له أصول طبيعية، ولكن لاينبغي أن نستنتج من هذا أن الإيقاع الموسيقي يستمد من إيقاع الطبيعة أو يكون ترديدًا له، وإنما هو لغة فنية ابتكرها الإنسان للتعبير عن إحساسه بالإيقاعات الباطنة لانفعالاته وعواطفه ومشاعره بوجه عام.

إن الطبيعة تمد الإنسان بالحس الإيقاعي الأولي الذي يعكس مشاعره وانفعالاته إزاء الطبيعة والعالم بأشيائه، غير أن نضج هذا الحس وتطوره يرجع إلى مدى ما يبتكره ويطوره من أدوات يتعامل من خلالها مع عالمه، ومن بين هذه الأدوات الآلات الموسيقية بصوتياتها التي ابتكرها الإنسان ويطورها، وهو أمر يعكس بلا شك تطوره الحضاري بالمعنى الواسع.

ومن هنا لا يكون غريبا أن نجد كثيرا من الأدباء والمفكرين المسلمين يهتمون بالموسيقى والغناء خاصة فى عصر ازدهار الدولة الإسلامية، فيحصي لنا التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» عددًا من المغنين فى بغداد لا يتصور وجوده فى بلد واحد بهذه الكثرة، وأيد اهتمام الناس، خاصتهم وعامتهم، بالغناء فى بغداد وغيرها من عواصم الإسلام.

يقول الثعالبي: «قال بعض الفلاسفة: أمهات لذات الدنيا أربع: لذة الطعام، ولذة الشراب، ولذة النكاح، ولذة السماع». فاللذات الثلاث الأولى لا يوصل إلى كل منها إلا بحركة وتعب ومشقة، ولها مضار إذا استكثر منها، ولذة السماع قلت أم كثرت صافية من التعب، خالصة من الضرر. وقال: «ومن خواص السماع أنه لا يحجزه شيء، ولأن الجمع بينه وبين كل لذة وعمل ممكن ،وأن الإبل والخيل والحمير تستطيبه، والصبيان الرضع تستلذه، والوحوش والطيور تصغي إلى الفائق منه وتفرح عليه».

 

بركات محمد مراد