التنمية الذهنية الغائبة

التنمية الذهنية الغائبة

تعد التنمية الذهنية مفتاحًا ملكيًا للتغيير المعتمد على مهارة الانتقاء وحسن المفاضلة بين ما هو نافع، وما هو ضار، من الخيارات والمغريات الهائلة المتوافرة فى القرن الحادى والعشرين، فما موقع هذا النوع الجوهري من التنمية في مجتمعاتنا، وبالذات ما يخص صغارنا والأجيال الجديدة؟

يشهد العصر الحديث تحولات عالمية متسارعة تتمثل فى عولمة معظم أنشطته الإنسانية، وسرعة تدفق المعلومات والانفجار المعرفى وإنتاج التكنولوجيات المتقدمة والفائقة، وذلك يضع تحديا كبيرا أمام القائمين على نظم التعليم فى مختلف دول العالم، فإما أن تتغير نظم التعليم بحيث تخرج أجيالا قادرة على مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية بفكر منظومى شامل، أو تستمر فى تخريج أجيال يظل معظمها تحت حد التقدم منعزلا عما يجرى حوله، وغير قادر على مواجهة تلك التحديات.

ولكى يتحقق التغير السابق الذكر ينبغى أن تنهض عملية تطوير التعليم بصورة منظومية مترابطة، وشاملة، ومتفاعلة، وهذا يعنى ضرورة اكتساب مهارة ما يطلق عليه التفكير بالصور بمعنى أن توجد فى ذهنه مجموعة من الصور العقلية يرى من خلالها تنبؤات مستقبلية حتى يمكنه أن يعد أبناءه لمجتمع الغد.

إن الاهتمام الكبير بالعقل البشرى وإمكاناته، وأساليب نموه وتطويره، يبرز لنا من دون شك ملامح المنظومة التربوية المميزة لمستهل الألفية الثالثة، فهى ألفية تراهن على تفتيح عقول المتعلمين ورعايتها، وتلعب دورا فعّالا فى مجتمع ما بعد الصناعة، ذلك يتطلب من الفرد أسلوبا عاليا من التكيف المعرفى.

ودراسة الجهاز العصبى المركزى أصبحت من الأمور المهمة جدا فى مجال التربية، وذلك نظرا لما توصل إليه العلم الحديث، حيث يكون داخله كيفية تكوين المعلومات التى تصل إلى العقل البشرى.

ولعل كشف النقاب عن الكيفية التى تصنع بها المعرفة العقل هو السبيل لحل كثير من إشكالياته الراهنة، واللاحقة، ويقصد بـ«الكيفية» هنا عديد من الأمور منها: كيف يستوعب العقل المفاهيم؟ وكيف يعالج مدركاته الحسية؟ وكيف يقيم عليها، أو من دونها بناه المعرفية، وكيف يحشد قدراته الذهنية لحل المشكلات ؟ وكيف تتداعى ذاكرته وكيف تنمو وتخبو؟ وكيف يتضافر وعيه مع لاوعيه وحدسه لتوليد الأفكار وإبداع الجديد؟

اختلاف البشر

بالرغم من أن العلماء تعلموا كيف يعمل المخ فإنهم مازالوا يجهلون السبب فى اختلاف البشر فى الذكاء والإبداع والمعارف والمهارات.. بعض الناس يتميزون بذكاء خارق والغالبية متوسطو الذكاء، وهناك أقلية لديها تخلف عقلى ويجدون صعوبة فى التعلم والقدرة على التكيف مع المجتمع.

فهل السبب فى هذه الاختلافات بين البشر يرجع إلى اختلافات تشريحية فى الدماغ أم إلى أشياء أخرى؟ لقد تحير العلماء فى الإجابة عن هذا السؤال لدرجة أنهم قاموا بحفظ مخ أينشتين- أشهر العباقرة على مر العصور- حين توفي عام 1955 عن عمر 76 عاما حتى يجدوا الوسائل المناسبة لتشريحه ومعرفة السبب حينما يحرز العلم تقدما فى هذا المجال. فماذا وجدوا بعد خمسين عامًا من البحث والدراسة؟ لم يجدوا اختلافات فى معظم الأجزاء، ولكنهم أصروا على أن هناك اختلافًا.

إن وجود العقل والحالات العقلية هو إحدى حقائق الحياة، وهو ما عبّر عنه الفيلسوف الفرنسى «ديكارت» أبلغ تعبير حين قال: «أنا أفكر إذن أنا موجود»، وما تفعله الثورة العقلية هو وضع العقل فى مكانه الصحيح كأحد أنواع العمليات المادية ذات الطابع المركب، وبهذا الشكل يتبوأ العقل المكانة التى تحتلها الحياة نفسها.

وكثير من أهل المعلوماتية يرى العقل آلة هائلة لمعالجة المعلومات، أو شبكة اتصالات كثيفة من المعالجات الميكروية تتقاسم مهمة القيام بالعمليات الذهنية .

إن العالم اليوم يعيش حضارة المعلومات أو عصر المعلومات Information Age نظرا للتدفق الهائل فى كم وكيف المعرفة، وسرعة تولدها، وتوظيفها فى واقع حياة المعلومات، والمعرفة قوة وضرورة اليوم للاستخدام الرشيد للموارد الطبيعية ولتنمية الموارد البشرية، وللتنمية العلمية والتكنولوجية ولازدهار الثقافة وزيادة الرفاهية الاجتماعية، ومن ثم فإن امتلاك ناصية المعلومات يعد شرطا لازما للتقدم.

لقد استطاع العلماء اليوم أن يحققوا نوعا من التزاوج بين الكمبيوتر والعقل البشري على أجهزة كمبيوتر متطورة، وإذا ما دخلنا في هذه العملية من التفاعل بين التنمية الهائلة والشاملة لإمكانات العقل البشري، فضلا عن التطور الهائل فى الهندسة الوراثية والتقدم المذهل فى تطوير الإنسان الآلى، والتحكم عن بعد، والتقدم الكبير فى التكنولوجيا فائقة الصغر، فنحن فى إطار منظومة جدية تشكل نقلة فى قدرات الجنس البشرى.

فالعقل هو القوة الكبرى التى يجب أن يمتلكها إنسان القرن الحادى والعشرين، ولأن المعرفة قوة، وليست المعرفة القائمة على الذكاء العقلى هنا وحدها هى قوة عصر المعلوماتية بل معرفة مهارة التحكم وضبط النفس والتحكم فى السلوك والاتجاهات وذكاء التعامل مع الآخر والتحاور معه والقدرة على الإقناع، أى امتلاك ما أطلق عليه جولمان الذكاء الوجدانى حيث لا تكفى المعرفة وحدها.

ماوراء التفكير

من المهم تجاوز مرحلة التفكير إلى مرحلة الوعى بالتفكير أو ما يسمى بـ (الميتامعرفة) وهى القدرة على التفكير بهدف تحسين التفكير وجعله أكثر دقة وتميزا ووضوحا، ومرحلة ما بعد التفكير هذه قد تستغرق من الإنسان مجهودًا ذهنيًا بالغ العمق، إذ يتطلب الأمر حوارًا ذهنيًا من نوع معين يسهم بدوره فى ولادة فكرة جديدة تتسم بالأصالة والمرونة والموازنة بين شتى الأفكار، وهذه الفكرة الجديدة تمكن الفرد من اتخاذ قرار بشأن عمل ما، أو مهمة معينة يقوم بأدائها.

لقد ورد عن الإمام علي بن أبى طالب رضي الله عنه قوله: «لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم».

فأطفال اليوم عالمهم عالم الغد وليس عالمنا نحن، فلماذا نعلمهم وفق ما تعلمناه ونعرفه نحن؟! كما لو أننا نعدهم لزماننا وليس لزمانهم، فنحن نخرج أفرادًا للمجتمع بأفكارنا نحن، وبعيوننا نحن، وبتجربتنا نحن، وبظروفنا المحلية الحاضرة التى لن يعيشوا فيها، ولن يقابلوها، وبالتالي يجب إعدادهم لزمانهم هم، وليس لزماننا نحن .

وفقا لهذه الحكمة فالمعلم العربى مطالب بأن يغير من أنماط تفكيره، بحيث يمكنه استشراف المستقبل وقراءة عقول تلاميذه حتى يتمكن من إعداد هؤلاء التلاميذ لزمانهم، ووفقا لذكاء ومهارة كل منهم. وذلك يتطلب أن يسعى لاكتساب مهارات خاصة تسمح له بالتعامل مع الجديد فى عصر المستقبل، عصر المعلوماتية والتقنيات المعقدة التى تتيح له تنمية متواصلة .

ويبدو أن الصورة التى قدمها الروائى «تشارلز ديكنز» Dickens للنظام التربوى فى روايته «أوقات عصيبة» Hard Times هى واحدة من أقوى تعبيرات الاحتجاج الثقافى على هذا النظام التربوى الذى يحيل الطلاب إلى ماكينات لحساب وحفظ المعلومات فقط، وفى الفصل الدراسى يقف المعلم وكأنه فوهة مدفع وهو يقذف بالمعلومات كالقنابل على صفوف الطلبة الذين تموت فيهم ملكات الخيال والروحية والرومانسية من أجل امتصاص هذه المقذوفات المعلوماتية بدقة لحفظها وتكرارها فى الاختبارات، بل إن الطالب فى مثل هذا الفصل الدراسى يفقد إنسانيته.

مجرد المعرفة لا تحقق الوعي

إذا كنا نسعى إلى اكساب الفرد الوعى الضرورى لبناء عالم التقدم العلمى، فالمعرفة لا تحقق الوعى، ولكن المعرفة المسلحة بالوعى تخلق الوعى .فالثورة الحادثة فى تقانات الاتصال والإبداع تعنى أنه توجد ثورة للعقل، وأن خاصتى الاتصال والإبداع تعدان من الخصائص الجوهرية المميزة، لماهية إنسان القرن الحادى والعشرين، وتشكل حالة التوازن المعرفية هدفا يقوم فيها المتعلم بعمليات معرفية متعددة من مثل النمذجة لعمليات المعالجة الذهنية، والمراقبة للأداء، والتنظيم التى يجريها الزملاء بهدف زيادة المثابرة. إن تزويد الإنسان العربى بنظرية جيدة حول العقل، أو نظرية فى العمل العقلى يشكل جزءا لا يتجزأ من مساعدته على القيام بدوره فى الحياة فى القرن الحادى والعشرين؛ فكل إنسان منا مهما كان مستواه الثقافي أو الاجتماعي له مواهبه وقدراته التى اختصه بها الخالق عز وجل والتى تميزه عن بقية البشر.

ومن هنا كان لابد أن ننمى أذهاننا، وذلك عن طريق تغذيتها بالمعرفة، ومحاولة التعرف على نقاط القوة لدينا، فكل إنسان لديه ما يمكن أن يتفوق فيه، ويبدع، ولكن علينا محاولة اكتشاف مواطن الإبداع لدينا. والعقل مبدع بطبيعته، وهذا يتطلب وجود نظام تعليمى قائم على تدعيم ثقافة الإبداع، وهذا يعنى أيضا أن الإبداع يقدر عليه جميع البشر إذا توافرت له الشروط التى تجعل العقل حرا فى إبداعاته، وقد أكد ديكارت أن العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس.

المعلم الناقد

إن التنظيم الذاتى للعملية الذهنية التى تتم من خلال الخطط الذهنية وضبط سير تفكير الشخص مما ينتج عنه تنظيم المعرفة والخبرات المختلفة، وبالتالى تنظيم الأداءات والسلوكيات وردود الأفعال تجاه الآخرين، هو ما يمكن أن تطلق عليه الضبط الذهني.

وهذا التنظيم الذاتى للعمليات الذهنية يمكن من خلاله بناء نظام لإستراتيجية معرفية للتعلم المنظم ذاتيًا، كما يمكن تدريب الطلاب فى المدرسة والجامعة على استخدامه.

وتنمية المهارات الذهنية الأساسية، كالاستنتاج والاستنباط، والاستقراء، والتحليل بالتركيب، والتركيب بالتحليل، وترشيد استغلال موارد الذاكرة البشرية، علاوة على مهارات التواصل ( قراءة - وكتابة - وشفاهة - واستماعًا) هى بمنزلة البنية التحتية التى تقام عليها البنى المعرفية.

لا يمكن للتنمية الذهنية أن تتحقق بعيدا إلا من خلال ثقافة واسعة ومتنوعة، ولا يكتفى بهذه الثقافة وحدها بل لابد له أن يربطها معا فى إطار متكامل من خلال محاولة إعمال ذهنه فى إدراك العلاقات فيما بينها فنحن نعيش فى عالم واحد تتكامل علاقاته بعضها بعضًا.

والتنمية الذهنية ترتبط إلى حد كبير بضرورة إتقان المعلم لمهارات التفكير الناقد، ومن هذه المهارات مهارة مراقبة الذات، Self-Regulation Metacognition ولابد أن يتمكن المعلمون من تدريب طلابهم على هذه المهارة، وذلك ليس من خلال الأسلوب الشفوى التلقينى، ولكن من خلال أن يسلكوا أمام التلاميذ سلوكيات تجعلهم نموذجا يقتدون به.

لقد غدت التنمية الذهنية مطلبا مهمًا وسريعًا فى حياتنا اليومية عامة وفى العملية التعليمية خاصة حيث إنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالتنمية المستدامة لإنسان القرن الحادى والعشرين.

 

سلمى الصعيدى