أرقام

أرقام

الأرض مقابل السلاح

ست سنوات من الاضطرابات في مالي سقط بعدها الحكم الديكتاتوري الذي استمر "23" عاما, ولكن وخلال فترة الصراع الداخلي نشأت ميليشيات وعصابات وانتشرت الأسلحة الصغيرة.

سقطت الديكتاتورية في مارس عام "96" وبحثت منظمات الأمم المتحدة الطريقة التي يعاد بها تأهيل المجتمع لحياة مستقرة, كما بحثت الأسباب التي تجعل الكثيرين يحترفون مهنة القتال بلا هدف ويحوزون كمية كبيرة من الأسلحة الصغيرة.

بعدها, بدأ تدريب عملي لسلخ المقاتلين عن قياداتهم, وإغرائهم بالاندماج في الحياة المدنية فانسحب الآلاف استجابة لفكرة محددة وهي: (الأرض مقابل السلاح).. قامت الأمم المتحدة بتمويل الحملة وتوطين المقاتلين في عمل زراعي وأصبحت مالي الإفريقية أكثر أمنا.. وبدلا من أن يعمل الصليب الأحمر في إنقاذ ضحايا القتال راح يساعد من تلدغه الأفاعي أو تضر به التماسيح!

ولم تكن الحرب الأهلية في مالي غير عينة من حروب من طراز جديد.. حروب غير التي عرفناها منذ بداية القرن, لها طبيعة مختلفة وقوانين غائبة.

لقد بدا القرن العشرون الذي أوشك أن ينتهي كأنه قرن الحروب المتواصلة.. بدأت الحروب في سراييفو في بداية القرن وها هو القرن يأفل والحرب أيضا في سراييفو. شهد العالم حروب البلقان مرتين والحرب العالمية الكبرى مرتين.

نزاعات في شبه القارة الهندية وبين الهند والصين أو الهند وباكستان وحروب متواصلة في الشرق الأوسط وحرب في فوكلاند والقائمة طويلة!

في الخمسين عاما الأخيرة وحدها وطبقا لتقرير أخير من اللجنة الدولية للصليب الأحمر كان هناك "120" نزاعا مسلحا في العالم سقط خلالها "22" مليون إنسان, ومع ذلك فقد كانت نزاعات التسعينيات شيئا آخر. لم تكن في معظمها كسابقاتها حروبا تقودها الحكومات والجيوش النظامية ويحكمها قانون دولي وتفجرها قضايا الاحتلال أوالحدود أو التوسع.

كانت حروب التسعينيات وبعد ان انتهت الحرب الباردة من طراز آخر أطلق عليها تقرير صادر من مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين اسم: "خصخصة العنف, أو خصخصة الحرب"!

وبالفعل فقد كانت الحروب الأهلية والصراعات المسلحة في التسعينيات والبالغ عددها "35" حربا أهلية وصراعا مسلحا, كانت قطاعا خاصا لا تقوده الدول بقدر ما تفجره الجماعات والقبائل والعصابات والميليشيات, والأمثلة كثيرة:

كان التوقع في مطلع التسعينيات ومع سقوط الصراع الأيديولوجي وانحسار الحرب الباردة بما صحبها من مساندة تقوم بها الدول العظمى للمتحاربين, ومع إجراءات نزع السلاح كان التوقع أن يشهد العالم فترة سلام ووئام.

لكن ما جرى كان شيئا آخر, تفجرت صراعات ونزاعات ظاهرها طائفي وقبلي وقومي, وحقيقتها في كثير من الأحيان صراع اقتصادي على الموارد, صراع يحركه الفقر أكثر مما تحركه الأسباب السياسية المباشرة.

في منطقة البحيرات العظمى بإفريقيا, وعلى سبيل المثال, بلغ الأمر أشده في سنوات "94 ـ 97", وبدأ الاهتمام برواندا حين لقي نصف مليون شخص على الأقل حتفهم عام "94" طبقا لتقديرات مفوضية اللاجئين, وقد حدث ذلك على مدى ستة أسابيع, ثم توقفت عملية الإبادة التي استهدفت قبائل التوتسي والمعتدلين من الهوتو, وانتصرت الجبهة الداخلية الرواندية وطردت الحكومة فقام الطرف المنهزم "الهوتو" بإجلاء جماعي للسكان, حيث انتقل مليون وثلاثة أرباع المليون من وطنهم للبلدان المجاورة: زائير ـ تنزانيا ـ بوروندي.

واستمرت عمليات الهجرة والهجرة المضادة فمع رحيل "الهوتو" كان سبعمائة ألف لاجئ من التوتسي يعودون إلى رواندا, لكن عودة اللاجئين لم يكن لتنخفض أعدادهم لأن عدد الأطفال المولودين في المخيمات يعادل عدد الذين قرروا العودة! في نفس الوقت, وفي دولة مجاورة هي بوروندي تفجر الصراع الإثني المسلح عندما اغتيل رئيس الدولة, وكانت أطراف الصراع هي نفسها: الهوتو والتوتسي, وهرب حينذاك "93 ـ 94": مائة وستون ألف لاجئ من بوروندي إلى تنزانيا وزائير!

ومن رواندا وبوروندي انتقل النزاع المسلح عام "97" إلى زائير وهرب الرئيس موبوتو في مايو وتم تنصيب كابيلا, وأعيد اسم "الكونغو الديمقراطية" بدلا من زائير.. وبينما كانت هناك توقعات بالهدوء, استمر الصراع في إفريقيا الوسطى انتقاما لما جرى قبل ذلك, وقالت مفوضية اللاجئين حينذاك إن هناك "215" ألف نازح ولاجئ لا تعرف مصيرهم, هل تم قتلهم? أم أنهم أختبأوا في الغابات!

الأمثلة كثيرة, تربطها سمات محددة, فكلها تقريبا في دول فقيرة مما يجعل المحللين يقولون: "الفقر هو السبب".. فبينما يزيد الدخل في العالم, وتزيد قوة الاستثمار, ويزداد حجم التجارة الدولية.. بينما يحدث ذلك, تتسع الهوة بين أفقر خمس دول في العالم وأغنى خمس فيه! كانت نسبة الدخل بين الفئتين "1:30" فأصبحت خلال العقود الثلاثة الأخيرة "1:78".. وأصبح هناك "89" بلدا أقل فقرا مما كانت عليه منذ عشر سنوات.. كما أصبح هناك "19" بلدا, بينها السودان ورواندا وفنزويلا وليبيريا, أكثر فقرا مما كانت عليه عام "1960".

يفسر ذلك ضعف قبضة الدولة, وانفجار الصراعات العرقية والقبائلية.. كما يفسر اتخاذ البعض القتال حرفة له.. بل إنه يفسر ما أسمته بعض التقارير الدولية اقتصاد الحرب الذي نشأ مواكبا لهذه النزاعات, وهو اقتصاد من طراز خاص أيضا حيث انتشرت زراعة الخشخاش في أفغانستان وجرى اتخاذها ذريعة لتمويل الحرب! وتحولت البقاع في لبنان "خلال الحرب الأهلية" إلى واحدة من أكبر مراكز إنتاج المخدرات, وفي أنجولا وسيراليون وكمبوديا وليبيريا استخرج أمراء الحروب الثروات الطبيعية من أخشاب ومطاط وأحجار نفيسة لصالحهم, والأهم ـ وهو ما دفع لشعار الأرض مقابل السلاح ـ هو اتجاه الشباب والقادرين على حمل السلاح لاحتراف القتل, مقابل فرصة عيش!

ساعد على ذلك انتشار الأسلحة الصغيرة, والتي باتت المفارقة بشأنها واضحة.. فبينما يتجه العالم لحظر أسلحة الدمار الشامل وتخفيض التسلح بشكل عام تنتشر هذه النوعية وتشكل اقتصادا عسكريا جديدا قوامه: البندقية والمسدس والخنجر والسكين!

أسلحة بسيطة لكنها شائعة وخطيرة, وحروب تبدو محدودة لكنها ذات أثر واسع سواء في انهيار الدول أو انهيار اقتصاداتها أو القفز بضحايا الحروب من المدنيين والذين كانوا يمثلون "10%" من الضحايا في بداية القرن فباتوا يمثلون "75%"!

في النرويج تحاول بعض المؤسسات دراسة قضية الأسلحة الخفيفة, وعبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر بمناسبة مرور خمسين عاما على اتفاقات جينيف يجري استطلاع واسع لضحايا الحروب الصغيرة, وهو استطلاع ممتد حتى نوفمبر 99".

العالم مشغول بحروب التسعينيات.. والضحايا يسقطون كل يوم.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات