ابن سعود وملحمة الصحراء

لم يكن عمره قد تجاوز الحادية عشرة بعد, ولكنه كان يدرك جيدا لماذا اضطر أبوه الإمام عبدالرحمن إلى الرحيل عن قصر الإمارة بالرياض ليعيش في المنفي مع أسرته. فقد كان الشقاق قد نال من وحدة الأسرة السعودية طوال مراحل الكفاح ضد القوى الداخلية والخارجية.

كانت المرحلة الأولى قد بدأت منذ منتصف القرن الثامن عشر, عندما تحالف الإمام محمد بن عبدالوهاب مع الأمير محمد بن سعود حاكم الدرعية ورئيس الأسرة السعودية. واستمر ملك آل سعود بين عامي 1742 و1882. وجاءت بعد ذلك المرحلة الثانية لملكهم بين عام 1842 وعام 1866 لتنتهي مع الانقسام الذي جرى قبل مولد الفتى عبدالعزيز بعشرة أعوام.

كان الفتى بالرغم من صغر سنه يسمع الكثير من تفاصيل الأحداث الماضية ويتابع مناقشات أبيه مع أفراد أسرته الذين صحبوه إلى المنفى. وطوال مرحلة فتوته وحتى بلوغه سن العشرين كان يختزن ويحلل في أعماقه عوامل الكر والفر بين آل سعود ومنافسيهم من آل رشيد منذ سيطر عامل ابن رشيد على أمور نجد والذي كان عاملا لآل سعود على جبل شمر, واستطاع أن يدخل الرياض ويولي سالم السبهان أحد رجاله على إمارتها بعد أن خرج من المدينة الأمير عبدالرحمن الفيصل آل سعود.

.. وبدأت ملحمة الصحراء

كل هذه الأمور التي وعاها الفتى عبدالعزيز بن عبدالرحمن كانت تدعوه إلى العمل على إتقان الفروسية وفنون الحرب والقتال, من خلال الاحتكاك بالقبائل البدوية في نجد وعلى حافة الربع الخالي, فقد كان يعد نفسه لمواجهة ما يمكن أن تجيء به الأيام, ومع نضج عقله وجسمه وطول قامته الأخاذ إلى جانب ما يتمتع به من الشجاعة وقوة الإرادة والصراحة في القول والإخلاص في العمل, كان لابد أن تصقل شخصيته وبخاصة مع خشونة حياة البادية والمشاركة في صراعات قبائل الصحراء النجدية وتوليه نقل رسائل والده إلى شيوخ القبائل وأمراء الأقطار الخليجية لجمعهم على وحدة الهدف.

تفرغ الفتى عبدالعزيز لحياة الجهاد مع أبيه في الصحراء وضد آل رشيد وهو يتنقل بين الدهناء والاحساء, بعد أن ترك نساء الأسرة في ضيافة أمير البحرين عيسى بن خليفة. وبعد سلسلة من المعارك انتقل الأب مع أسرته إلى الكويت في ضيافة الشيخ مبارك آل صباح عام 1892 حيث استقر بهم المقام طوال عشر سنوات. وخلال هذه السنوات عهد عبدالرحمن بأمر استرداد حق آل سعود لولده عبدالعزيز الذي اكتسب في الكويت خبرة سياسية وعسكرية طوال مشاركته في صراع الشيخ مبارك آل صباح مع ابن رشيد. وكان لابد بعد ذلك من أن تتواصل ملحمة الصحراء مع خروج عبدالعزيز في طريقه لاستعادة ملك آبائه وأجداده بدعم من شيخ الكويت.

في 12 يناير 1902 كان انطلاق عبدالعزيز في الطريق إلى الرياض. وكان ذلك مغامرة بكل معنى الكلمة. فلم يكن معه من الرجال أكثر من ستين فارسا. وانقض بهذا العدد القليل من الرجال على عامل ابن رشيد الذي لقي مصرعه دون أن يسانده أهالي الرياض الذين لاقوا على يديه الكثير من العذاب والاضطهاد. وخرج الناس مستبشرين بسقوط الرياض في يد عبدالعزيز آل سعود.

كان الهدف التالي هو العمل على توحيد شبه الجزيرة العربية والتخلص من سيطرة آل رشيد الذين كانوا أصحاب القوة من مقرهم بجبل شمر. وانضم إلى عبدالعزيز رجال مخلصون أشداء من القبائل المحيطة التي عانت كثيرا من حكم آل رشيد. ولم يكن لابن رشيد إلا أن يستسلم أو يخضع لاستخلاص الرياض منه, فقرر أن يسير في حملة انتقامية ضد عبدالعزيز الذي كان قد استعد للمواجهة بتثبيت مواقعه وبإصلاح استحكاماته وإعادة السيطرة على أجزاء كثيرة من المناطق الممتدة من الرياض حتى حدود الربع الخالي. وبالرغم من أنه لم يكن يملك جيشا كبير العدة والعدد فإنه استطاع أن يضم إلى قواته الكثيرين من المخلصين الذين كانوا يشدون من أزره مقتنعين بأحقية آل سعود بملك هذه البلاد.

.. وتواصلت الملاحم

استمرت ملاحم الصحراء رهيبة ضارية متتابعة كانت أولى الملاحم الكبرى بين عبدالعزيز بن سعود وعبدالعزيز بن متعب بن رشيد. واستمر الصراع بين الجانبين عدة سنوات انتهت بسيطرة ابن سعود على منطقة نجد الوسطى حتى حدود جبل شمر معقل ابن رشيد.

وكانت ثانية الملاحم مع الدولة العثمانية التي أزعجتها انتصارات عبدالعزيز فتحالفت مع ابن رشيد. ووقع الصدام بين الطرف النجدي السعودي وبين الطرف العثماني الرشيدي, وكانت قمته في معركة "الشنانة" حيث تمكنت القوات النجدية الموالية لعبدالعزيز من الحصول على الأسلحة والأموال والمؤن من القوات المنهزمة, مما أتاح للقائد السعودي أن يتفاوض من مركز قوة مع العثمانيين على أساس أن يكون لهم مراكز في نجد تفصل بين ابن رشيد وابن سعود. ولكن سوء معاملة ابن رشيد لأهل القصيم دفعهم إلى الاستنجاد بابن سعود لتدور معركة "روضة مهنا" التي انتهت بهزيمة ابن رشيد ومصرعه وعودة التوتر مع العثمانيين الذين عاودوا مؤامراتهم ضد عبدالعزيز.

المناداة بابن سعود ملكا

وتواصلت الملاحم, وزحف عبدالعزيز بقواته إلى منطقة الاحساء التي كانت تحتلها قوة عثمانية فتمكن من تحريرها وضمها واخراج القوات العثمانية دون اسلحتها إلى البحرين, وأصبح عبدالعزيز بن سعود سلطانا على نجد والإحساء, حيث دخل في صدام آخر مع أشراف الحجاز وانتصر في نهايته عليهم في واقعة "تربة" التي ضمها بعد ذلك إلى سطنة نجد, ثم كانت هناك ملحمة أخرى تم خلالها تحرير جبل شمر وضمه إلى السلطنة واستسلام آل رشيد بعد حصار حائل عاصمة ملكهم.

وكانت خاتمة الملاحم تحرير مدينة الطائف ومكة وجدة بعد أن سلمت المدينة المنورة لمحرريها دون قتال.

خلال كل تلك الملاحم التي خاضها عبدالعزيز بن سعود, تأكد أن السيف وحده لا يبني المجد إلا اذا كان وراءه عبقرية ملهمة, فقد حقق السلطان عبدالعزيز أول وحدة عربية في العصر الحديث ضمت نجد وعسير والحجاز امتدادا من الخليج العربي شرقاً إلى البحر الأحمر غرباً. ففي 8 يناير 1926 نودي بعبدالعزيز آل سعود ملكا على شبه الجزيرة العربية ليصبح الاسم الرسمي للبلاد بعد ست سنوات هو "المملكة العربية السعودية".