جمال العربية
جمال العربية
ارفــعــوا أقــلامــكــم هناك من يرون - وأنا منهم - أن أجمل ما أبدعه أحمد شوقي من شعر, هو شعره في مسرحياته. وأن ما تضمّنته هذه المسرحيات الشعرية من حوارات وتصوير للشخصيات ومونولوجات تفضي من خلالها هذه الشخصيات بمكنوناتها الداخلية فيما يشبه البوح أو الاعتراف أو المساءلة مع النفس, كل ذلك يمثل الرصيد الشعري الأبقى لشوقي, بوصفه الشاعر الرائد في مجال إبداع المسرح الشعري, وواضع الأساس الأول والتصوّرات الأولى لهذه البنية المسرحية الشعرية من خلال مسرحيــــاته: (عنترة) و (مجنون ليلى) و(قمبيز) و (مصرع كليوباترة) و(علي بك الكبير) و (الست هدى) و (البخيلة). ولقد سادت - على مدار سنوات متعاقبة - فكرة راسخة لدى كثير من النقّاد والدارسين, تتهم شوقي بالخروج على مقتضيات الدراما الحقيقية في مسرحه الشعري حين ترك نَفَسه الشعريّ على سجيته, فطالت المونولوجات - أو أحاديث النفس - على ألسنة أبطال مسرحياته, مما يعني ــ من وجهة نظرهم ـ توقف الحدث, واختلال الإيقاع, والدفع بالملل إلى المشاهد والقارئ, وهي فكرة آن أوان مراجعتها وتصويبها, بإعادة النظر والتأمل العميق في هذه المقطوعات الشعرية البديعة التي تمثل ذروة فن شوقي وقمة تجليّاته, وهو يتقمص الشخصية المسرحية, وينطقها بهذه (المونولوجات) الرائعة, التي من دونها تفقد هذه المسرحيات كثيراً من قيمتها وثرائها الشعري, فضلاً عن تعميقها لسياق الأحداث والمواقف, وإفساحها في المجال للتأمل واستخلاص العظة والعبرة, وتجسيد الحسّ الدرامي المصطبغ بالطابع المأساوي في مسرحيات شوقي تاريخية الطابع, وكشفها عن جيشان الصراع وطبقاته المتعددة في داخل النفس الإنسانية. يقول شوقي على لسان ليلى في مسرحيته الشعرية (مجنون ليلى) في واحد من هذه المواقف الدالة, والمونولوجات الكاشفة يختتم به الفصل الثالث من المسرحية وتنزل بعده الستار, لترتجّ نفس المشاهد والقارئ بأصداء هذه الأبيات: وهو (مونولوج) يجيء في موقعه الدرامي المحتوم, حين تراجع (ليلى) نفسها بعد رفضها الزواج من قيس وتفضيلها ورداً عليه, وتبنّيها لاتهامات قومها الموجهة لقيس بأنه شهّر بها في شعره وجلب لها العار والهوان. وهو مونولوج شديد الإحكام صياغة وتدفّق أبيات ولغة إفضاء وتعبير, ثم هو في ختام الفصل الثالث شبيه بالطرقة القوية التي تجعلنا نرتدّ إلى ما فات من مشاهد الفصل ومواقـفـــه, ونـثـــوب لــمـزيــد مــن المـراجـعــة والــتـأمـــل والـتحليـل. وحين تهتف ليلى لنفسها - فيما يشبه بالمونولوج أو حديث النفس - في واحد من مشاهد الفصل الرابع من المسرحية قائلة: ثم حين تبوح بالمسكوت عنه من عُذْريّتها - بالرغم من زواجها ورْدا - ويسعفها حديث النفس أو المونولوج الداخلي بهذه المكاشفة, فإن شوقي يحمـلـنـا بفـنــه الـعـالي إلى ذروة سـاحقــة مـن الإبـــداع الـشـعـري الجـمـيل حـين يقـول عـلى لـــســان (لـيـلـى): وتصل هذه المونولوجات أو أحاديث النفس التي تتناثر في مواقف درامية مختلفة من مسرحية مجنون ليلى - تصل إلى ذروتها في المشهد الذي يتجه فيه قيس إلى حيث المقابر تلمُّساً لقبر ليلى, بعد أن أخبره (بشر) بالنبأ الفاجع, فيغمى عليه, ثم يفيق, فيتجه مشيراً إلى المقابر وهو مسترسل في إفضائه الشعري الذي لا يخاطب به أحداً غير نفسه: ويقترب قيس من القبر باكياً, فيكبّ بوجهه على حجر من أحجاره, ويستمرّ في مناجاته أو مونولوجه الذي تنزف فيه نفسه وتتهاوى مِزقاً من هول الفجيعة, فجيعته بموت ليلى: ويجيء هذا الافضاء الشعري قرب ختام الفصل الخامس والأخير من فصول المسرحية, فيكون بمنزلة الختام الحقيقي, حتى وإن أفسح خيال شوقي في المجال للأموي شيطان قيس للدخول في حوار مع قيس هدفه الدعوة إلى الصبر والتماسك, معزّياً إياه بأنه قد أخذ سبيله نحو الخلود, وأن عليه رسالة فريدة تنتظر القيام بها وهي أن يبسط جناحه فوق القفار والوهاد والآكام, ويترع بوتر شعره العبقري سماء القصور وأرض الخيم, وأن يؤلف على الحبّ شتى القلوب ويرسل النغم الشادي بسرّ الجمال, عليه أن يتغنّى بليلى ويبوح بالغرام, لأنه لا خير في الحب حتى يذيع, ولا خير في الزهر حتى ينشر عبيره ويفوح عطره. وفي سياق هذا الحوار بين الأمويّ شيطان شــعر قيـس وـقيـس, يجـيء بيت شــوق المحـكــم الجميـل: كما يُختتم هذا الحوار ببيت شوقي البديع: هذه المونولوجات أو أحاديث النفس الكاشفة, التي تتناثر في مسرحية شوقي (مجنون ليلى) كاليواقيت المشّعة تكسبها بهاء وغنى وعمقاً, وتكشف عن طبقات بعيدة من الوجدان الإنساني لشخصيات المسرحية في صراعها مع أقدارها من ناحية - تطبيقاً لتقاليد المسرح الكلاسيكي - وصراعها مع غيرها من الشخصيات من ناحية أخرى, وفي الحالين يطلق شوقي لإبداعه العنان,. وتشجيه هموم النفس الإنسانية وأشجانها, فيغني ويبكي, ويأسى ويحزن, ويعظ وينصح ويتأمل. لقد خلص إلى ذاته الشاعرة, بعيداً عن صخب المناسبة العابرة وجلبة الحدث الخارجي, وأخذ يُصغي - في إخلاص ومثابرة - إلى صوت نفسه موزّعة في نفوس شخصياته, ونجاواه مُصطبغة بنجاوى مخلوقاته وكائناته الفنية, التي حوّلها إبداعه الشعري إلى نماذج حيّة, خالدة على تعاقب الأزمان. وبحسبنا أن نُردّد مع (ليلى) هذه المقطوعة البديعة من شعر شوقي وهي تفصح عن حُبّها لقيس, وحيرتها في أمرها معه بين الحرص على العرض والشرف والاحتفاظ بمن تهواه وتضنّ به: إنها دعوةٍ إلى تأمّل هذه المونولوجات في كل مسرحيات شوقي الــشـعريـة, فـبـفـضـلـهـا تـكـتـسـب هذه المـسـرحـيـات قـيـمـتـهـا الفـنـيـة والإنسـانـيـة الـبـاقـيـة.
|