جمال العربية

جمال العربية

من كنوز الحب الإلهي والوجد الصوفي

يمثل ديوان الحب الإلهي والوجد الصوفي في تراثنا العربي قديمه وحديثه صفحات متميزة، عامرة بأقباس هذا الحب وإشراقة وتجلياته، شعرا ونثرا، وهذا الحب الذى هام فيه الصوفية، وفنوا وتفانوا، معبرين عن خوالجهم وعن شطحاتهم، في أدعيتهم وابتهـالاتهم، وشروحهم وتعليقاتهم، ومنظوماتهم وكتاباتهم، نستطيع أن نتعرف على حقيقة معناه ودلالته وصورته الأولى من خلال التعبير القرآني المحكم، ومأثور كلم الرسول الكريم.

فقد جاء هذا المعنى سورة المائدة آية 54 يحبهم ويحبونه في قوله تعالى: سورة المائدة آية 54 فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولايخافون لومة لائم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم (سورة المائدة الأية 54).

وفي قوله تعالى: سورة آل عمران آية 31 قل إن كنتم تحبون الله، فاتبعوني يحببكم الله، ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (سورة آل عمران الآية 31).

وقوله تعالى: سورة البقرة آية 165 والذين آمنوا أشد حبا لله (سورة البقرة الأية 165).

ويروى عن الرسول الكريم: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إليّ من نفسي وأهلي ومن الماء البارد،

ومن مأثور قول الرسول الكريم: من أحب الله فليحبني، ومن أحبني فليحب أصحابي ومن أحب أصحابي فليحب القرآن ومن أحب القرآن فليحب المساجد، فإنها أبنية أذن الله تعالى برفعها و تطهيرها، وبارك فيها، فهي ميمونة ميمون أهلها فهم في صلاتهم والله تعالى في حوائجهم، وهم في مساجدهم والله تعالى في نجح مقاصدهم.

في القرن الثاني الهجري، تتأكد فكرة حب الله، من خلال شخصية التفت حولها القلوب والعقول، هي شخصية رابعة العدوية التي ظهرت في البصرة داعية بدعوة جديدة هي دعوة التقرب إلى الله عن طريق حبه، وهي تنادي بهذا الحب لأنها ترى أن الله أهل لأن يحب أولا لأنه مصدر النعم التي لاتنقطع، فلا سبيل لأن ينقضي حب المنعم بها على العباد، وهو أهل لأن يحب ثانيا لجماله وجلاله. تقول رابعة:

أحبك حبين: حب الهوى

وحب لأنك أهل لذاكا

فأما الذى هو حب الهوى

فشغلي بذكرك عمن سواكا

وأما الذي أنت أهل له

فكشفك لي الحجب حتى أراكا

فلا الحمد في ذا ولا ذاك

ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

وفي موضع آخر من شعرها تقول رابعة:

يا سروري ومنيتي وعمادي

وأنيسي وغدتي وعتادي

أنت روح الفؤاد، أنت رجائي

أنت لي مؤنس وشوقك زادي

أنت لولاك ياحياتي وأنسي

ما تشتت في فسيح البلاد

كم بدت منة، وكم لك عندي

من عطاء ونعمة وأياد

حبك الآن بغيتي ونعيمي

وجلاء لعين قلبي الصادي

ليس لي عنك ما حييت براح

أنت مني ممكن في الفؤاد

ويبدو أن نفاذ شخصية "رابعة" في القلوب ودوران شعرها على الألسنة والأسماع، هو الذى أغرى كثيرين بالنظر إليه متابعة واستلهاما، يقول واحد منهم يعزف على وتر رابعة:

لما علمت بأن قلبي فارغ

ممن سواك، ملأته بهواكا

وملأت كلي منك، حتى لم أدع

مني مكانا خاليا لسواكا

فالقلب فيه هيامه وغرامه

والطرف لاينفك عن ذكراكا

والطرف حيث أجيله متلفتا

في كل شيء يجتلي معناكا

والسمع لايصغي إلى متكلم

إلا إذا ما حدثوا بحُلاكا

ابن عريي وتجلياته الروحية

عندما تنتقل التجربة الصوفية في التعبير عن الحب الإلهي- نثرا وشعرا- إلى محي الدين بن عربي، تزداد لغتها قوة وحرارة ورصانة، وتمتلئ بالتعابير والاصطلاحات والرموز التي يتطلب فهمها واستيعابها شروحا وذيولا وإفاضات تفتح مغاليق ذلك العالم الواسع الرحيب الذي يحلق فيه ابن عربي ويطوف في مشاهد أنسه ومجال تجلياته.

فالعاطفة وليس العقل هي السبيل للوصول إلى الله، والحب البشري كما يبدو في آثاره طريق إلى الحب الإلهي، إذ الجمال في الخليقة مرآة جمال الله والأصل في خلق الكون هو الجمال الإلهي، كما جاء في الحديث القدسي: كنت مخفيا فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني

من هـنا، فإن ابن عربي وغيره من عشاق المتصوفة بتأملهم في جمال الخلق يتقربرن إلى جمال الحق، وبطول تأملهم فيه يعتريهم ذلك الشعور الفياض، الذي يستغرقون فيه حتى يصلوا إلى حالة الوجود ويغيبون عن وعيهم الحسي ويعتريهم من الهيام بالله ما يرقصون فيه طربا لاهجين بذكر الله أو مرددين اسمه على لسانهم في حلقات الذكر والوجد.

يقول محيي الدين بن عربي:

ذبت اشتياقا ووجدا في محبتكم

فآه من طول شوقي آه من كمدي

يدي وضعت على قلبي مخافة أن

ينشق صدري لما خانني جلدي

مازال يرفعها طورا ويخفضها

حتى وضعت يدي الأخرى تشد يدي

ونتأمل تفسير ابن عربي لما أنعم به الله عليه من فتوحات ضمنها كتابه "الفتوحات المكية" من أن الكتاب ليس إلا وليد تلك الصور الخيالية التي كان يتلقاها- كمحب- بعين الخيال في حال اليقظة وأحيانا في أحلامه، ويصف هذا كله بأنه نوع من الإلقاء الإلهي الذي يتزل على قلبه، ويسرع ابن عربي- خشية المسارعة إلى اتهامه في دينه وعقيدته- بتأكيد أن مايتلقاه من فيوض وفتوحات "ليس شبيها بالوحي الذي اختص به الله رسله- إذ انقطعت النبوة والرسالة بوفاة الرسول الكريم وإنما هو جود إلهى، أو هو ضرب من الحكمة، تلك الحكمة. التي لايعلمها إلا من أوتيها، فهي هبة من الله تعالى، كما وهبنا وجود أعياننا ولم تكن شيئا وجوديا.. وهذا الكتاب من ذلك النمط، فوالله ماكتبت منه حرفا إلا عن إملاء إلهي، والقاء رباني، أو نفث روحاني في روع كياني ".

الله أنشـأ من طي وخولان

جسمي فعدلني خلقا وسواني

وأنشأ الحق لي روحا مطهرة

فليس بنيان غيري مثل بنياني

إني لا أعرف روحا كان ينزل

بي من فوق سبع سماوات بفرقان

نريد قوله تعالى: سورة الأنفال آية 29 إن تتقوا الله يجعل لكنم فرقانا(سورة الأنفال الأية 29)

وفي آثار المعاصرين

لم تتوقف كتابات عشاق المتصوفة- نثرا وشعرا- بداً من القرن الثاني الهجري حتى الآن، وإن اتخذت صورا وتجليات عدة، وتأثر فيها الأندلسيون والمغاربة بما أبدعه المشارقة وأضافوا إليهم، وضعوا تجلياتهم المتفردة وكشوفهم الروحية، وفي كتابات المحدثين والمعاصرين من أمثال مصطفى البكري وأحمد الحلواني وعبدالغني النابلسي وعلي عقل ومحمود حسن إسماعيل وطاهر أبو فاشا وغيرهم. يقول طاهر أبوفاشا وهو يعزف على وتر رابعة العدوية وينسج على منوالها محاولا استشراف الآفاق الأولى لشعر الحب الإلهـي والوجد الصوفي:

عرفت الهوى، مذ عرفت هواكا

وأغلقت قلبي عمن سواكا

وقمت أناجيك، يامن ترى

خفايا القلوب، ولسنا نراكا

وأشتاق شوقين: شوق النوى

وشوقا لقرب الخطى من حماكا

فأما الذي هو شوق النوى

فمسرى الدموع لطول نواكا

وانا اشتياقي لقرب الحمى

فنار حياة خبت في ضياكا

ولست على الشـجو أشكو الهوى

رضيت بما أشكو الهوى

ويقول على لسان رابعة

غريب على باب الرجـاء طريح

يناديك موصول الجوى وينوح

يهون عذاب الجسم والروح سالم

فكيف وروح المستهام جروح

وليس الذي يشكو الصبابة عاشقا

وما كل باك في الغرام قريح

يقولون لي: غني وبالقلب لوعة

أغني بها في خلوتي وانوح

ولي في طريق الشوق والليل هائم

معالم تخفى تارة وتلوح

ولي في مقام الوجد حال ولوعة

ودمع أداري في الهوى ويبوح

وأنت وجودي في شهودي وغيبتي

وسرك نور النور أو هو روح

وما دخلت إلا إلـيك مواجدي

وداعي الهوى بالواهين يصيح

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات