أمين الريحاني .. تراث من اكتشافات الروح

أمين الريحاني .. تراث من اكتشافات الروح

هل يكفي أن يكون أمين الريحاني مؤسس الأدب المهجري ليبقى؟ هل يكفي أن يكون أول مهاجر عربي إلى الولايات المتحدة انصرف لمهـنة الكتابة ليبقى؟ هل يكفي أن يكون أول مرة كتب الشعر المنثور بالعربية، وأول عربي كتب الشعر والرواية بالانجليزية ليبقي؟ هل يكفي أن يكون أول من ترجم المعري إلى الإنجليزية ونشر ترجمته في الولايات المتحدة فقرّرأي النقاد الأمريكيين على أن تلك الترجمة جاءت بقيمة ترجمة فتزجيرالد لرباعيات عمرالخيام، هل يكفيه ذلك ليبقى؟ هل يكفي أن يكون أول من طاف دنيا العرب فى العصر الحديث وكتب في الرحلة والاجتماع والسياسة والاقتصاد عن العرب معرفاً بعضهم بالبعض الآخر، ومعرفاً إياهم للغرب، كي يبقى؟ هل يكفي أن يدعو إلى التحرر الفكري والسياسي والأدبي، وإلى الالتزام بقضايا الأمة ومصير الشعوب؟ وإلى الوحدة العربية ونهضة العرب وتقدمهم كي يبقى؟ هل يكفي أن يسعى إلى مد الجسور بين الشرق والغرب، بين الدين والعلم، بين الروح والمادة، كي يبقى؟ وهل يكفي أن يدعوا إلى وحدة الوجود ووحدة العوالم ووحدة الأديان كي يبقى؟ وهل يكفي أخيراً، أن يدعو إلى "المدينة العظمى" المعدلة عن أفلاطون والفارابي، والآيلة إلى صيرورة بشرية تزاوج بين الواقع المعاصر والمثال المرتجى، كي يبقي؟

تبقى هذه الاسئلة قائمة برغم ما كتب عن امال الريحاني حتى اليوم ويبقى هذا الطرح مطلوبا ومبرراً. فالعصارة الأدبية أو الفكرية الباقية لا تقرم على سلسلة من المبادرات الأولى أو على سعى متواصل لشق طريق، أو لتكريس بداية، أو لتأسيس حركة. ورغم أن هذه المبادرات مسجلة ولمصلحة الريحاني غير أنها من المعايير النسبية التي تختلف قيمتها باختلاف الزمن، ويتضاءل معناها مع الأيام. الزيادة قيمة تاريخية لا قيمة جوهرية، وموضوع هذه المقالة هو البحث عن المنزلة الجوهرية، لا المنزلة التاريخية، عند الريحاني.

مغامرة في الشعر

رغم الاتفاق علي أن الريحاني هو اول كاتب عربي اكتشف الشاعر الأمريكي وولت ويتمان، و تأثر به، وأخذ عنه هذا النمط في الكتابة الشعرية الحديثة، وبالتالي أدخل الشعر المنثور، أو الشعر الحر، إلي العربية، يبقي الاختلاف قائما فيما إذا كان الريحاني هو صاحب الآثر المباشر في حركة الشعر العربي الحديث. فبينما يرى البعض أن الريحاني ترك اثرا في جبران ومن خلاله في تلك الحركة، قلما نقع على اعتراف مباشر من كبار شعراء العربية المعاصرين في مصر والعراق وحتى لبنان يشير إلى تأثرهم بـ "هتاف الأودية" مجموعة الريحاني في الشعر المنثور، ومع ذلك نقع على عدد من الأبحاث الصادرة في العالم العربي، خلال نصف القرن المنصرم، تشد خيوط وولت ويتمان ولغة القرآن الكريم، واستعارات الصوفيين العرب، وايحاءات الرمزيين الغربيين، كما تربط "هتاف الأدوية" بسلسلة من المجموعات الشعرية الحديثة التي بدأت تصدر في العالم العربي منذ الأربعينيات، لكن تبقى الفجوة الزمنية قائمة بين تاريخ إدخال هذا النمط الشعري إلى الأدب العربي مع الريحاني في العقد الأول من هذا القرن وتاريخ تحول هذا الريادة إلى حركة وتيار فاعل في العقدين الرابع والخامس ومابعدهما، وهنا يبقى المجال واسعاً لمزيد من الدراسات التي تبحث عن الصلة بين "هتاف الأودية" وما تلاها من مجموعات شعرية حديثة بالعربية وعن أصالة الريحاني في حداثته.

إلى جانب التحرر الشعري في "هتاف الأودية" يطلق الريحاني الدعوة إلى تحرر الفكر الديني أو "التساهل الديني" في "ريحانياته" بعد أن يمهد في "المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية" و "المكاري والكاهن". تجتمع المقالة والقصة والخطبة في الدعوة إلى نبذ العصبية المتأتية عن الايمان الأعمى وإلي مشاركة العقل في هذا الايمان وقد غلبت هذه الدعوة على معظم كتابات الريحاني العربية المتميزة يتحرره الفكري عامة والديني خاصة. وقد عاني الأمين من مغبة مواقفه المتحررة، في حياته وبعد رحيله على السواء، إذ واجه حملات قاسية شنها عليه رجال الدين من مختكف المذاهب واملأ، وكئ! المصالحة بينه وبين رجال الدين الآخذين بشئون العلم والثقافة، فهو يواجه اليوم حملات مماثلة من الحركات الدينية المتطرفة. وإذا ما كان الريحاني سابقا لعصره، كما يقول البعض فإن صوته اليوم يكاد يضيع في زحمة الممارسات المتسمة يسمه العصبية الدينية في مناطق مختلفة من العالم. لكن يبقي صوت التي تعاني منها الشعوب، خاصة حين يصبح التحرر منهجا فكريا وأسلوبا نقديا يتميز به الكاتب.

صراع المادة والروح

وقد عاني الريحاني، من الصراع الفكري، الصراع بين المادة والروح، بين العقل والإيمان، بين الطبيعة ونا وراء الطبيعة. ولئن أخذ بنظرية النشوء والارتقاء وتأثر بمادية بوخنر ثم التف عليهما بظواهرية كانط ووشح هذه النزاعات المتباينة بصوفية مستحدثة وعلائية أمريكية المتباينة بصوفية مستحدثة وعلائية أمريكية متمشرقة فانصهار ذلك، برأيي، يشكل عصارة من العصارات الفكرية المتميزة التي تبقى للريحاني، فهو ليس العربي الأول الذي تأثير بالفلسفة الداروينة، وهو ليس العربي الأول الذي تأثر بالفلسفة الألمانية بشقيها المادي الصارم والروحى المعمق، كما أنه ليس العربي المتفرد الذي أعجب بثورو وامرسون وسائر أدباء كونكورد واحتفالهم بالطبيعة الأمريكية. وهو واحد من كثيرين من مفكري العرب المعاصرين الذين شغلتهم الثورة الثورة الفرنسية وأدباؤها، والثورة الروسية والممهدون لها. ما الذي يبقي إذن للريحاني من كل ذلك؟ لقد صهر "فيلسوف الفريكة" كل هذه الروافد الفكرية والثقافية في نتاجه الأدبي فكان، ولا يزال، رمزا لقدرة التحول العربي، والانتقال من السكون إلى الحركة، من الانغلاق إلى الانفتاح، من "العلوم الأصلية" إلى "العلوم الداخلية"، لم يعد الدخيل دخيلا مع الريحاني، بات الدخيل أصيلا. وهنا تكمن نقطة التحول الجذري في عمق الفكر العربي المعاصر، هذه العلامة فارقة للريحاني تبقى له، وتبقي منه وهي علامة جوهرية، لاتاريخية، أي قيمة فكرية وأدبية قائمة بذاتها، تدخل في جوهر النتاج العربي اللأمريكي والإنساني الحديث، لأنها تدخل في طبيعة هذا النتاج وفي تحديده تحديداً نوعياً، قد يكون ذلك بتأثير من البيئة التي عاش تفاصيلهـا ردحاً من الزمن فالريحاني أول المهجريين، وأكثر المخ المهجريين، انخراطاً في الأوساط الثقافية الأمريكية، وأبعدهم تفاعلاً مع أدباء أمريكا وشعرائها وفنانيها، وأغزرهم كتابة بالإنجليزية. والريحاني بهذا المعنى، عربي في أدبه الإنجليزي ، غربي في أدبه العربي، وانساني شمولي في لغتيه وفي أدبيه. هذه عندي قيمة جوهرية باقية لأنها علامة فارقة لا للريحاني وحسب وحسب، بل للأدب العربي الحديث والفكر العربي المعاصر.

الانصهار الثقافي

ويلاحظ الباحث أن الانصهار الثقافي الذي يجمع بين روافد الحضارات والآداب المختلفة قد هيأ الريحاني لأن يختبر الولايات المتحدة اختبار داخلياً معمقاً، فنظر اليها كأمريكي مسجلالها محاسن الحرية والعلم ومبادئ حقوق الإنسان وحق الشعوب فى تقرير مصيرها، ومسجلا عليهـا مآخذ الإساءة إلى الديمقراطية، والتوغل في المادية القاسية التي لا ترحم. تلك هي تجربة "خالد" بطل رواية الريحاني الإنجليزي التي تحمل أسم "كتاب خالد". فإشكالية خالد، كإشكالية الريحاني، إنه أول مهاجر إلى الولايات المتحدة حمل القلم وانصرف إلي التأليف، بدلا من أن يحمل الدولار لينصرف إلى التجارة، وانخراط خالد في الحياة الأمريكية، اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، دفعه لأن بعاني من مغبة التصادم الحضاري بين روحانية مشرقية حملها خالد في أحشائه، ومادية غريبة تجسدت له في معاهد نيويورك ومؤسساتها وصحفها وأنديتها ومحالها وأرصفتها، وقد خرج خالد من هذه التجرية القاسية، كما خرج الريحاني، ليبشر بالإنسان المتفوق الذى يتجسد فيه تفوق أمريكا بعد أن يلقح هذا التفوق المادي العلمي بروحانيته المشرقية المضيئة، كما خرج خالد أيضا من تجربته تلك ليبشر بـ "المدينة العظمي" أو "الإمبراطورية الجديدة" التي أرساها على مبادئ الحرية، والديقراطية، والمساواة، والعلم، والثقافة بقيادة رجل الشعب الذي يبني "دولة مستقلة". بهذا المعني يبدو خالد نموذجاً للمهاجر الأمريكي في مطلع القرن العشرين الذي شارك في صميم الحياة الأمريكية وأفاد من مشاركته تلك بحيث وظف تجربته الأمريكية في سبيل بناء المستقبل العربي بناءً حديثاً يواكب تطور العصر على غير صعيد في نطاق السياسة والاجتماع والثقافة.

وهذه أيضا قيمة جوهرية باقية لأن "كتاب خالد" وتعاليم خالد في "الريحانيات" ليس بداية لأدب مهجري وحسب، بل هي تسجيل لتحول المهاجر الأمريكي- العربي الأصل- من مواطن تاجر، كما أشرت سابقاً، منفصل عن أوساطه الأمريكية إلى مواطن مفكر منخرط في تطلعات العالم الجديد ومشارك لها.

غير أن توغل الريحاني في شئون أمريكا الثقافية والسياسية لم ينسه انتماءه العربي بل على نقيض ذلك، عزز لديه هذا الانتماء خاصة بعد أن استعاد ذاكرته العربية عن طريق كتاب "الحمرا" لواشنطن أرفينغ، وكتاب "الأبطال" لتوماس كارلايل. وما كانت رحلاته العربية التي طاف خلالها معظم مناطق شبه الجزيرة العربية، وأرض الرافدين، وبلدان المغرب العربي، ولبنان وسوريا وفلسطين سوي الترجمة العلمية لذلك الشعور بالانتماء. وكانت غية

أرشيف الريحاني

يشير قسم الأرشيف والرثائق في متحف الريحاني في الفريكة، لبنان إلى أن سبعة وستين كتاباً وضع عن الريحاني، وأكثر من 6750 مقالاً أو مرجعاً صحفياً نشر عنه، وأكثر من ألف ومائة كتاب خصص عنه فصلاً أو جزءاً من فصل، وهذه المراجع نشرت في أربع وأربعين دولة، وفي ست وعشرين لغة، وذلك حتى نهاية العام 1995، أي بعد نيف ونصف قرن من رحيله.

ولم يصدر كتاب "هتاف الأودية" كمجموعة شعرية إلا عام 1955، أي بعد غياب الريحاني بخمسة عشر عاماً، قبل ذلك التاريخ كانت هذه المجموعة موزعة بين كتاب "الريحانيات" والصحافة العريية، خاصة في لبنان ومصر والعراق، وقد صدرت الطبعة الخاسمة لـ "هتاف الأودية" في بيروت عام 1988 مضافاً إليها قصائد الريحاني المخطوطة، والمنشورة في. الصحافة العربية، وأبرزها قصيدة "الحياة والموت أو الطبيعة في لبنان" والتي تعود إلى العام 1905 حين نشرتهـا مجلة "الهلال" في القاهرة مع مقدمة لجرجي زيدان حول دور الريحاني في إدخال الشعر المنثور إلى العربية.

 

أمين ألبرت الريحاني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات