بدوي الجبل.. اللقب الذي صار اسما!

بدوي الجبل.. اللقب الذي صار اسما!

بدوي الجبل.. اللقب الذي صار اسما يحتاج إلى لقب، فكان شاعر العربية!

وبين اللقب واللقب اسم انغمر في بحر الشعر العربي سياسة ووطنية وتصوفا شفيفا وغزلا حييا.

إنه محمد سليمان الأحمد، أحد حجج المدرسة الكلاسيكية في الشعر العربي المعاصر القادرة على الإقناع فور السماع والتلقي. فبين قوافيه تربض أفكار حداثية مختبئة، وبعباءته ترفل معان جديدة لا تريد أن تغادر أفقها المرسوم بألوان شاعر تقلب على جمر السياسة مستفيدا من عطاياها مناصب وزارية عدة، ومتحملا عواقب الانجرار نحو متاهاتها في ذلك الزمن، حيث اختلط حابل الاستعمار بنابل الوطنية أحيانا.

وعلى الرغم من أن لقب الشاعر التصق بصاحبه مفارقًا حالته الوصفية ليكون المعنى والعلم، فإنه لم يكن من اختياره ولا اقتراحه أصلا، ففي بداياته مع النشر لجأ لرئيس تحرير صحيفة دمشقية اسمها «ألف باء» لينشر له قصيدة، فما كان من رئيس التحرير سوى الانحياز لمقادير مهنته التي تتطلب أحيانا التشويق والإثارة واختار للشاعر المجهول آنذاك اسما مستمدا من هيئته التي رآه عليها لأول مرة شابا يرتدي ثوبا عربيا ويعتمر كوفية وعقالا، فنشر القصيدة مذيلة باسم «بدوي الجبل» على الرغم من احتجاجات الشاعر الشاب والتي تحولت إلى موافقة عندما رأى الاستقبال الجميل الذي حظيت به القصيدة لدى القراء. وفيما توالى نشر قصائد في تلك الصحيفة وغيرها باللقب ذاته، وتطورت الموافقة الاضطرارية إلى إصرار على اللقب المختار الذي أخذ ينظر إليه كهوية أكثر من كونه لقبا أو اسما، حتى إن قصائده، تحت وطأة اللقب وسطوته على شخصية الشاعر ربما، لبست عباءة البداوة وتسامت بعنفوان الجبل لتصنع نسجها الخاص في خريطة الشعر العربي المعاصر كله.

ولد البدوي الشاعر في قرية ديفة بمحافظة اللاذقية السورية العام 1905، ودرس في مدارس القرية والمحافظة قبل أن يبدأ بقراءة الشعر العربي من مصادره القديمة، ويتابع مستجداته التي كانت تتابع مستجداتها في صحافة تلك الأيام. وتأثرًا بالقديم والجديد بدأ بتجاربه الشخصية في كتابة الشعر الذي استعذبه قصيدًا وطنيًا وقوميًا، متناسبًا مع تطلعاته الحماسية في شرخ صباه، وهي التطلعات التي قادته لأن يتصل بكثير من رجالات السياسة في بلاده آنذاك، من أمثال الشيخ صالح العلي في جبال اللاذقية، والمناضل يوسف العظمة وزير الدفاع في الحكومة التي سميت بالحكومة الفيصلية وغيرهما. وقد أدت به هذه الاتصالات والعلاقات السياسية المتضاربة مع بعضها أحيانا في ذلك الزمن المحتدم بين قوى الاستعمار والمقاومة إلى السجن بعد دخول الفرنسيين إلى سورية، فاعتقل في حماة ثم نقل إلى بيروت فاللاذقية قبل أن يطلق سراحه.

ويبدو أن المستعمرين الفرنسيين بعد تقسيم سورية انتبهوا لقيمة الرجل الفكرية وأرادوا الاستفادة من علاقاته وتطلعاته فعينوه نائبا في المجلس التمثيلي لما سمي «دولة العلويين». لكنه غير اتجاهه السياسي فيما بعد وانضم إلى الكتلة الوطنية وأصبح من معارضي الانفصال، حيث انتخب نائبا في المجلس النيابي العام 1937 وأعيد انتخابه عدة مرات بعد ذلك. وبسبب معارضته المتزايدة، والتي دلت على نمو طريقة تفكيره وتغير نظرته للحياة وأساليب العيش فيها، ضيق عليه الفرنسيون الخناق فلجأ إلى العراق العام 1939، قبل أن يعود إلى دمشق ثم اللاذقية، فاعتقله الفرنسيون وأطلقوا سراحه بعد 8 أشهر.

وقد أدت به أحلامه السياسية - والتي لم تخرجه يوما عن قالبه القومي الحاد - إلى أن تولى عدة وزارات منها الصحة العام 1954 والدعاية والأنباء، وعندما غادر سورية العام 1956 متنقلا بين لبنان وتركيا وتونس، قبل أن يستقر في سويسرا سرعان ما عاد إليها محملا بحنينه والكثير من قصائد الغربة العام 1962، وبقي فيها شاعرا أمينًا على تراث الأمة محدثا فيه، مما أضاف الكثير من رونق العصر على موروث القافية والوزن، ليصير بدوي الجبل شاعر العربية في زمن كان محتشدا بشعراء تشرف بهم العربية لغة وأدبًا وتراثًا.

توفي شاعر «العربي» لهذا الشهر سنة 1981 تاركا وراءه تراثه الخالد في عناوينه الخالدة، فهناك «البواكير» الذي صدر العام 1925. و«الأعمال الكاملة» العام 1979. ومن تلك الأعمال الكاملة نحاول أن نختار بعض الدرر الشعرية لبعض هوامش هذا العدد من «العربي» استذكارا للبدوي الشاعر واحتفاء بتجربته الخاصة.

 

سعدية مفرح