خالد بن يزيد الكاتب شاعر الرقة والافتتان

خالد بن يزيد الكاتب شاعر الرقة والافتتان

هذا شاعر ربما لا يعرفه الكثيرون، ولكنه شاعر غزلي على جانب كبير من الرقة البديعة. وُلد في خراسان، وعاش وتوفي في بغداد، حتى عُرف بالبغدادي.

شغل شاعرنا مهمة كاتب في الجيش زمن المعتصم، ثم تولى وظيفة حماية بعض الثغور، ولاّه إياها وزير المعتصم، محمد بن عبدالملك الزيات. (المتوفى سنة 233 هـ / 847 م)، فخرج ذات يوم فسمع في طريقه امرأة تغنّي:

مَن كان ذا شجنٍ بالشام َيَطلبُهُ ففي سِوى الشام أمْسى الأهلُ والشَّجنُ


فبكى حتى سقط مغشيًا عليه، فأفاق وهو مختلط الفكر والإدراك، وانتابته هواجس شتى، تعاظمت مع الأيام لتصبح حالة مرضيّة أورثته الكثير من فقدان توازنه، فنُسب إليه السّوداء، وخاصة في مرحلة متأخرة من عمره الذي طال لديه حتى رقّ عظمُه وهَزُل، ولُقّب بالبارد، وكانت وفاته في حدود سنة 262 هـ، وجعلها صلاح الدين الصفدي في حدود السبعين والمائتين، وجعلها ياقوت الحموي 269 هـ.

علامات فارقة

أولى هذه العلامات، أن لقب «الكاتب» الذي لزم اسمه، لا يرتبط بحرفة الكتابة الفنية، بل بوظيفة كاتب الجيش، التي شغلها في مطلع حياته، فغلبت على شهرته، بينما هو في الحقيقة شاعر متوقد الشاعرية.

ومن هذه العلامات، ما أشرنا إليه سابقا: وَسْواسه الذي استحال لوثة مَرَضية، دفعتْ بعض الصبية والغلمان، من حينٍ لآخر، إلى أن يلحقوا به ويصيحوا: «يا خالد يا بارد، حتى وَسْوسَ». ويُرجعُ بعضُهم هذا السلوك الصبياني، إلى مقطع شعري أنشده في غلام أمرد هَوِيَه، وكان أبو تمام أيضًا يهواه... فبلغ ذلك أبا تمام، فقال فيه أبياتًا منها:

شِعرُكَ هذا كلُّه مُفْرطٌ في بَرْدِهِ يا خالدُ البارِدُ


فعَلِقها الصُبيان، وجاء فعلّمَها الصبيان، وراحوا كلما رأوه، يصيحون: «يا خالد يا بارد».

(الأغاني ج 20 / ص 280).

ومما يذكر من العلامات الفارقة هُزالُه وتشرُّدُه في شيخوخته، فسأله أحدهم: يا أستاذ، ما الذي أصار بك إلى هذا؟ فقال:

الهمومُ والسَّهرُ والسُّهادُ والفِكَرُ
سُلِّطت على جَسَدٍ فيَّ للهوى أثَرُ
لا، ومن كَلٍفتُ به ما يُطيقُ ذا بَشَرُ


(الوافي بالوفيات ج 13 / ص 280)

وكان لخالد بن يزيد، حركة اتصالات لا بأسٍ بها، جعلته يكتسب أبعادًا من عُلوٍّ المقام والتأثير في مجتمعه وبيئته، ما بين مُعجب به مؤتَنسٍ، ومتحفظ غيورٍ حاسد. نذكر منهم على سبيل التمثيل: عليَّ ابن هشام، وإبراهيم بن الخليفة المهدي، والخليفة المعتصم، ودعْبل بن عليّ الخزاعي، والحلبي الشاعر، والشاعر علي بن الجَهْم، وأبا تمام، وحمزةٍ بن أبي سلالة الشاعر الكوفي، ومحمّدً بن السَّريّ الضِّبيّ، أحد أمراء المأمون، وغيرهم... وسنذكر نُتفًا من أخباره معهم وبعض الأشعار، التي نجمتْ عن هذه العلاقة أو تلك:

حدَّث خالد الكاتب قال: دخلتُ على إبراهيم ابن المهدي، أخي هارون الرشيد (والمتوفي سنة 224 هـ / 839 م)، فاستنشدني، فقلت أيها الأمير، أنا غلام أقول في شجون نفسي، لا أكاد أمدح أو أهجو، فقال: ذلك أشدّ لدواعي البلاء، فأنشدتُه:

عاتبتُ نفسي في هَوا كَ فلم أجدْها تَقْبلُ
وأطعتُ داعيَها إلَيْـ ـكَ ولم أُطِعْ مَن يَعزِلُ
لا والذي جعل الوجو هَ لِحُسْنِ وَجْهِكَ تَمْثُلُ
لا قلتُ إنّ الصبر عَنْـ ـكَ من التصابي أجملُ


فبكى إبراهيم وصاح: وايْ! عليك بإبراهيم. ثم أنشدتُه أبياتي التي أقول فيها:

وبكى العاذِلُ من رحمتي فبُكائي لِبُكَا العاذِلِ


فأعطاه نصف ما بحوزته من مال... فاشترى بها منزله بِسابَاط الحَسن والحسين، وهو موضع في المدائن.

(الأغاني ج 20 / 278).

وفي «وفيات الأعيان» أنه استنشده، فأنشده المقطع الآتي:

رأتِ منه عيني منظَريْن كما رأتْ من البَدْر والشمس المضيئة بالأرضِ
عشيَّة حيَّاتي بِوَرْدٍ كأنهُ خدودٌ أضيفتْ بعضُهنَّ إلى بَعْضِ
وناوَلني كأسًا كأنّ حُبابها دموعيَ لما صَدَّ عن مقلتي غمْضي
وراح وفعلُ الراح في حركاتِهِ كفعل نسيم الريح في الغُصُن الغضِّ


فزحف ثم قال: يا بُنيّ، شبَّه الناسُ الخدودَ بالورد، وشبَّهْتَ أنت الورد بالخدود، فزحف ثم قال، زدْني! فأنشدْتُهُ: (عاتبتُ نفسي...) المقطع المذكور سابقا.

فزحف: ثم قال: زدْني، فأنشدْته:

ظِفرَ الحبُّ بقلبٍ دنفٍ بك، والسقْمُ بجسْمٍ ناحلِ
وبكى العاذلُ من رحمتهِ فبكائي لبكا العاذلِ


فصاح من تأثره الشديد وإعجابه، وأمر خازنَه باقتسام كل ما يملك من النقد العينيْ فيما بينهما.

ومن الشعراء الذين لقيهم خالد بن يزيد، الشاعر العباسيّ الهجّاء دعْبل بن عليّ الخزاعي (توفي بعد عمر طويل قارب المائة سنة 246هـ / 860 م). وقد استغرب أن يُقدم خالدٌ على نظم القصائد الطوال، فقال له:

«يا أبا الهيثم، كنتَ صاحب مقطعات، فداخَلْتَ الشعراء في القصائد الطوال، وأنت لا تدوم على ذلك، ويوشَك أن تتعب بما تقول، وتُغْلب عليه» فقال له خالد: «لو عرفتُ النصحَ منكَ لغيري، لأطعتُك في نفسي».

(نفسه/672)

ومنهم الشاعر المشهور عليّ بن الجَهْم (المتوفي سنة 249 هـ / 863 م) الذي استوهب خالدًا أحد أبياته الشعرية الرقيقة الذي يقول فيه:

ليت ما أصبحَ من رقَّـ.....ـة خدَّيْكَ بقَلْبكْ!

فقال له خالد: يا جاهل، هل رأيتَ أحدًا يهبُ وَلَده! ومنهم كبير شعراء عصره وسيّد فنّ الصنعة في الشعر العربي: أبو تمام (حبيب بن أوس المتوفى سنة 132هـ/ 648م) الذي كان وراء سوداويته واستهزاء الأولاد به، فكان هجاء متبادل، ومعارضات شعرية، أورد الأغاني بعضًا منها.

طابعه الشعري

قد لا أضيف جديدًا إذا قلتُ إن طبائع الكتّاب والشعراء تشكّل نسبةً كبيرة من طبيعة أدبهم، فيصطبغ هذا الأخير بهذا الطابع أو ذاك، من رصانة واتزان، ورويّة وجزالة، أو خفة ورقّة وعبثيّة، أو كآبة مستحكمة وقلق موتور وسوداوية.

يُصرِّح الشاعر نفسه بما يكنه من رقة العاطفة، في حوار عابر مع أحمد بن إسماعيل الكاتب، الذي لقيه ذات يوم وقد استمع إلى شعر له يتحسَّر فيه على زمن الصدق والأمان، ويَسْخط على غدر الزمان وإهلاكه بنيه الأصفياء، فسأله: «يا أبا الهيثم مُذ كم دخلْتَ في قول الهجاء؟ قال: مذ سالمتُ فحُوربتُ، وصافيْتُ فتوقفتُ».

(الأغاني ج 20 / 279)

فالشاعر إذن في الأصل مُسالم، مُصافٍ، وهما جذوتان مُوريتان لنار الرقّة والبساطة في الحياة واللغة والإبداع الشعري.

ومن نتاج هذا الطابع السلمي الوادع، وداعة بديعة في شعره، وإخلاص لامتناه في خفقان قلبه، يتضح ذلك في معظم ما أنشد ونظم، وألقاه لمن سأله الإنشاد. وهو الذي أجاب إبراهيم بن المهدي غداة مبايعته للخلافة، وقد طلب إليه إنشاده بعضًا من شعره: «يا أمير المؤمنين، ليس شعري من الشعر الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنّ من الشعر لَحِكمًا ، وإنما أمزحُ وأهزلُ، فقال: «لا تقل هذا، فإنّ جِدَّ الأدب وهَزْلَه، جِدُّ..».

(الأغاني ج 20 / ص 281)

وهو نفسه، الذي قال لمن أتى به إلى أبي عبدالله ابن الأعرابي (محمد بن زياد المتوفى 231 هـ / 846 م) لينشده شيئًا من شعره: «إنما أقول في شجون نفسي، ولا أمدح ولا أهجو».

(وفيات الأعيان 2 / 233)

ومهما يكن، فقد اختطّ خالد بن يزيد لنفسه خطوطًا حياتية وأدبية، قلّما حاد عنها في مسيرة حياته وشعره، وخاض غمار الشعر على طريقته، التي اتفقت مع طبيعته وتطلعاته ورغباته العاطفية والجمالية، ولم يخرج في شعره عن هذا النمط، كما أن سوداءه أو وسْوسته لم تؤثر في نغمية شعره وانسجام معانيه وألفاظه، ما جعله يخاطب الوالي محمد بن السَّريّ، بعد أن استمع إلى مقاطع من شعره الرائق العذْب قائلاً: «يا أبا جعفر، جُننتُ بعدك!» فقال ابنُ السريّ: «ما جعلك الله مجنونا، وهذا كلامُكَ لي ونَظْمك».

(الأغاني ج 20 / 283)

شاعر الغزل

اتفق الدارسون على أنّ خالد بن يزيد الكاتب شاعرٌ غَزِلٌ من الطراز الأول، وعمَّم بعضهم فقال، وهو أبو الحسن عليّ بن محمد المعروف بالشابُشتي (ت سنة 388 هـ / 998 م)، معرّفًا به: «... وكان مليح الشعر، رقيقه، لا يقول إلاّ في الغزل، ولا يتجاوز الأربعة أبيات، ولا يزيد عليها، ولم يكن له شعر في مدح ولا هجاء».

(الديارات ص 15)

فهو شاعرُ غزلٍ ونسيب راقيَيْن، ارتقى فيهما إلى ذُرًى عالية، ضاهى فيها كبار شعراء الحب قديمًا وحديثًا، حتى استحقّ غير لقب في هذا الباب، وهو ما نورده في حينه.

وسأقف عند نماذج دالّة على سموّ هذا الشعر وعمق نفاذه إلى النفس، تذوقًا وتأثرًا.

قال من مقطّعة في وصف سامرّاء، غداة إنجاز المعتصم بناءها والاحتفال بها:

اسْقِني في جرائرٍ وزقاقِ لتُلاقي السرور يوم التّلاقِ
من سُلافٍ كأنَّ في الكأس منه عَبَراتٍ من مُقْلتَيْ مشتاقِ


(الأغاني 20 / ص 276)

(الجرائر: ج جرار، والجرار، ج جرَّة، والزقاق،ج زقّ،: وعاء الشراب).

حتى الكلامُ في المدينة هنا، وما خالطه من إشارات وأوصاف خمريّة، قد تغمَّس كلُّه بحبر القلب ودمه الفوّار على الدوام.

وقال، مُجيبًا رغبة شاعر كوفيّ يُدعى حمزة ابن أبي سلالة، كان قد التقاه في إحدى الجنائن، يرتدي مبْطنة نظيفة وعلى رأسه قُلْنسوة سوداء، مقطعًا رفيع الدرجة والأثر:

قد حاز قلبي فصار يملكُهُ فكيف أسْلو وكيف أتركُهُ؟
رَطيبُ جسمٍ كالماء تَحْسَبُه يَخْطِرُ في القلب منه مَسْلكُهُ
يكاد يجري من القميص من النَّعْمةِ لولا القميصُ يُمسِكُهُ


(الأغاني ج 20 / 281)

غزلٌ رفيع يتفوق فيه الشاعر على نفسه وعلى شعره الأسبق.. والصورة فيه مبتدعة من خيال يتفجر خبالاً، ويتفطّر من جمال الحبيب وبليغ آثاره في النفس. فقد تحوّل جسم الحبيب إلى مسيل ماء، لرقّته ولطف روائه، فيدخل شرايين القلب ويتخذ مسلكه في قنوات شرايينه.. ولا يكتفي الشاعر بهذا التمثيل المرهف، بل يتوغل في حنايا الصورة، فيرى الجسم قد نضا عنه ثوبه، لا فرارًا من قيد بل رقّة وشفافية، فيمسك به القميص، كما يمسك النحلُ بشهده.

وقال في وصف ذاته المكابدة من حُرقة الشوق والتصابي، يُجيب رغبة الأمير محمد بن السَّريّ:

كبدٌ شفَّها غليلُ التصابي بين عَتْبٍِ وسَخْطةٍ وعذابِ
كلّ يوم تَدْمى بجرْحٍ من الشوق ونوعٍ مجدّدٍ من عذابِ


وقال في لحظة مكابدة أخرى مع الحسْن والجمال، واصفًا صورة الكمد العشقي وسقْم الافتتان الجمالي:

وضَعَ الدموعَ مواضعَ الحُزْنِ حَيُّ السُّهادِ وميِّتُ الجَفْنِ
عَبَراتُهُ نُطُقٌ بما ضمِنَتْ أحشاؤهُ ولسانه يَكْني
في كل جارحة له مُقَلٌ تبكي على قلبٍ له رهْنِ
لم يدْر إلا حين أسْلَمَه قدرٌ للحظة واحدة الحُسْنِ


(طبقات الشعراء ص 405)

ذاك هو شعر الأبعاد الذاتية المحترقة بسنا الجمال وشذا الانبهار، يتحولان إلى جمار متقدة بالأحاسيس ورهافة الخيال، وينساب الشعر فيهما انسياب الدموع من المآقي، وعُسالات الأثمار والأشجار ترفل نضجًا وارتعاشًا أمام مواسم الخير والعطاء.

وقال مخترقًا حواجز وسدودًا أمام عجلة الإبداع ومجرى الأحلام الزمرّدية:

إذا كنتَ في كُلّي بكُلّكَ مُفْزَعًا فأيُّ مكانٍ من مكانكَ ألطفُ؟
فمِنِّي إذا ما غِبْتَ في كل مفْصلٍ من الشوق داعٍ كلما غِبْتَ يهتفُ
إلى أين لي من حُسْن وجْهِكَ مذهبٌ ومن أين لي منه، إذا جاء، مَصْرفُ


(طبقات الشعراء ص 405)

صوفي دون تصوف

لقد تاخَمَ ابنُ يزيد، مراقي الصوفية من غير تصوف، وولج أبهاء التوحّد الذاتي في احتواء الحبيب، بجوارحه ومفاصله وخلايا ذاته، وذاك لعمري، تصور غريب بديع، زاد من بداعته، الشوقُ المتدافع مع كل حركة احتواء وغيابة في تلافيف الذات.. ثم زاد على الكل هَرَبه (أي خالد) من طغيان جمال وجه الحبيب ومخافته من الاضمحلال فيه إذا تملَّكه.

هكذا يثبت لنا هذا الشاعر من حين لآخر، أن موارد الإبداع وسبله لديه، تأتيه من كل صوب، وتتنزّل عليه في تتابع يشبه زخّات المطر الشتائيّ، بحيث لا تكاد تتملّى من صورة شعرية فسيحة الأرجاء حتى تكتنفك صورة أخرى تحمل في أحشائها صُوَيْرةً تنبض من وراء الحُجُب.

وليس بالكثير ما قاله ابن المعتزّ في شعره: «وليس لأحد من الرقيق ما له» وأضيفُ، انطلاقًا من مقطّعات كثيرة كالمقطّعتين الأخيرتين، بأنه يستحق أن يلقب بشاعر الحسن والافتتان. ذاك هو الغزل الشعري الحقيقي، غزل الانصهار الذاتي بالجمال، وتوقّد الأحاسيس حيال مفاتن المحبوب، يزيد من فتنته وجماله، ويجعل منه حديقة غنّاء ترتاض فيها الحواسّ الخمس، مضافًا إليها النزوع إلى مدارج الارتقاء إلى ما فوق.

ولا يسعني وأنا في الانفتاح على مساقط الإبداع في احتواء الجمال لدى هذا الشاعر، إلا الاستزادة في التأمل والتذوق، مستعينًا بزخّات الأبيات والمقاطع التي طلبها أحدهم من الشاعر وقد رآه على كبر وهزال، أوردها تباعًا كما جاءت في كتاب (الوافي بالوفيات) للصفدي، على شيء من الاختيار.

فقد رقّ هذا الرجل لخالد فسأله عما أوصله إلى هذه الحال المتداعية.. فأجابه بمقطع (رائيّ) من ثلاثة أبيات، وردت في مطلع الدراسة، ثم سأله شعرًا أرقّ، فأنشده:

أضمرُ أن أُضْمرَ حبي لهُ فيشتكي إضمارَ إضماري
رقّ فلو مرّتْ به نملةٌ لخضّبتْهُ بدمٍ جارِ


بلغت الرقة في تصوراته وأحاسيسه حدّ الضمور، وهو أشد الهزال والنحول، ودخل في دائرة الحدْس والضمير، ذلك العالم الذي لا حدود لأبعاده ،ولا قدرة لأحد على ولوج سراديبه، لأنه من الرقة وانعدام الجرْم، كيانٌ لامتناه في دقّته ونعومته. ثم أراد الشاعر أن يصور ذلك بالتمثيل الحسّي، فضرب له مثلاً نملة إن مرّت عليه أو لامسته، سال منه الدم كما لو كان من جراح بليغة.

ثم استزاده الرجل شعرًا أرق، فأنشده، متوغلاً في عالم الشوق والصبابة والاحتراق في كنف الحبيب:

صافحْتُهُ فاشتكتْ أناملُهُ وكاد يبقى بنانُه بيدي
وكنتُ إذْ صافَحتْ يداهُ يدي كأنني قابضٌ على البَرَد
لو لَحظَتْهُ العيونُ مُدْمنةً لذاب من رقّةٍ فلم يُجَدِ


أراد: لم يوجد، أي اضمحلّ واختفى من الوجود.

ثم استزاده رقّة أخرى أعظم وأمضى في الخاطر والوجدان فأنشده، عازفًا على وتر الحب المستعر في الأحشاء، وصبوة المتيَّم لرشح وصالٍ وجنى خيال:

تكوَّنَ من نور الإله بلا مسّ بقول عزيز: كنْ من الروح بالقُدْس
فلما رأتْه الشمسُ أخْمدَ نورَها وقالت له بالله أنتَ من الإنسِ
وقال لها: إني أظنُّك ضَرّتي وخَمَّس بالكفِّ المليح على الشمس


ثم استزاده، فزاده بشعر لا يُبقي ولا يَذر لشاعر آخر من إضافة أو مزيد، فدخل عالم الوهم والتفكير، بعد أن ولج عالم الحدس والضمير، بالغًا من ذلك ما يمكن تسميته بمستودع الرقة وينبوع اللطف:

توهَّمه طَرْفي فأصبح خَدُّهُ وفيه مكانُ الوهْم من نظري أثْرُ
وصافحهُ كفّي فآلَمَ كفَّهُ فمِن غَمْز كفِّي في أناملِهِ عَقْرُ
ومرَّ بفكري خاطرًا فجرحْتُهُ ولم أرَ جسْمًا قطُّ يجرَحُهُ الفكرُ


يشكل البيت الأول رؤية هندسية حسيّة في الشكل، لكنها تحوّلت في سياق البيت إلى تراء متخيّل، صار فيه النظرُ رأس سهم مَريش أصاب الخدَّ فترك فيه أثرًا، تعمَّق هذا الأثر ليصبح في البيت الثاني جرحًا داميًا.. في البيت الأول أثرٌ بيّنٌ في الخد من وهْم النظر.. وفي البيت الثاني تعاظم الأثرُ ليصبح عقْرًا.

وعلى الرغم من أن صور البيتين قد مرَّ معنا ما يشبهها، فإن البيت الأخير قد تخطى دائرة التخيل والترقّي الفكري في ابتداع صور وهيئات، إلى بقعة نائية لا يحطّ فيها ضوء ولا سحاب ألا وهي (مرور الخاطر في مسالك الفكر) وما تبع ذلك من تصدع الجسم وانبجاس الدم منه جرّاء هذا العُبور المتخيّل.. لكأن هذا الشاعر وهو يحيا مخاض الصورة المتنزّلة، كائن آخر، وهيئة لا عهد لنا أوْ لَهُ بها.. هيئة متضوّرة، مُنْعَصرة، محترقة، يعلو لهُبها فتنكشف دروبٌ وممرّاتٌ تتحرك فيها مخلوقات عجيبة.

ومما يذكر له في رقّة الوجد وعذابه المضنك، ما قاله لبعضهم:

بكى عاذلي من رحمتي فرحمْتُهُ وكم مثْلُهُ من مُسْعِدٍ ومُعينِ
ورقّت دموعُ العينِ حتى كأنّها دموعُ دموعي لا دموعُ جفوني


(وفيات الأعيان 2 / 236)

هو ذا دأبه، يخترق حجاب الأشياء، ثم يمعن في الاختراق ليصل إلى كنه الشيء وجوهره.

فالدموع التي تعْبر العيون ومؤقها، ليست سائلاً غُدديـّا، بل كائن حيٌّ له روحٌ وتحسّس، يذرف هو الآخر دمعًا، وينعصر حزنًا وكمدًا.

وقال مشتكيا لحبيبه:

تناسَيْتَ ما أوْعَيْتَ سَمْعَكَ يا سمعي كأنّكَ بعد الضرِّ خالٍ من النفع
أما عند عينيكَ اللتين هما هما لمُكتئب يرجوك شيئًا سوى المنْعِ؟
فإنْ كنتَ مطبوعًا على الصدِّ والجفا فمن أين لي صبرٌ فأجعلَهُ طبعي؟
فإن يكُ أضحى فوق خدَّيْكَ روضةٌ فإنّ على خدّي غديرًا من الدمعِ
سَلِ المطر، العامَ، الذي عمَّ أرضَكمْ أجاءَ بمقدار الذي فاضَ من دمعي؟!


(وفيات الأعيان 2 / 236 - 237)

رحم الله خالد بن يزيد، وعوّضه بِحُور جِنَانه يغسلْن كل دموع دنياه، ويُغدقْنَ عليه من بَرْد الجوى والوصال، أضعاف أضعاف ما كابَدَهُ من حرمان وخبال!!.

 

ياسين الأيوبي