رحلة وسط التنوع العرقي والثقافي

رحلة وسط التنوع العرقي والثقافي

مازال الكاتب يواصل رحلة الكشف عن جذوره المعرفية. وهاهي الرحلة تمتد من بلدته الصغيرة في وسط دلتا مصر إلى أمريكا، حيث كان موعده المتواصل في رحلة التعلم والمعرفة.

وقد تعوّدت أن أذهب مع إسماعيل وزوجه بيف إلى ميلووكي كبرى مدن الولاية وعاصمتها، بين الحين والحين، وكان يحدث ذلك كلما وجدنا وقتًا من الفراغ، فننطلق للنزهة، للتمتع بجمال الحقول المحيطة بماديسون، أو الغداء في أحد المطاعم الهادئة البعيدة عن المدينة، أو الذهاب إلى ميلووكي لزيارة متاحفها، وأهم معالمها. وكانت ميلووكي، ولاتزال فيما أظن، ضمن أكبر المدن الأمريكية من حيث الكثافة السكانية، تأتي بعد نيويورك، ولوس أنجلوس، وشيكاغو، وهيوستن، ودالاس، وسان فرانسيسكو،.... وغيرها. وتقع على الشاطئ الجنوبي الغربي لبحيرة ميتشجن، وعلى بعد حوالي تسعين ميلاً من شمالي مدينة شيكاغو، وذلك في نقطة التقاء تصل ما بين ثلاثة أنهار: مينيمون، وكينكين، وميلووكي. وكلها تسميات ترجع إلى الهنود الحمر - السكان الأصليين لأمريكا - الذين لاتزال نسبة قليلة من بقاياهم تعيش في المدينة التي تتميزبالتنوع العرقي بين سكانها الذين يرجعون إلى هجرات جاءت إليها من ألمانيا، وأيرلندا، وإنجلترا، وإيطاليا، وفرنسا، وإسبانيا، وأمريكا اللاتينية، فكانت النتيجة هي المزيج المتنوع عرقيًا الذي يضم العديد من الأجناس والأعراق، ابتداء من الأصول الأوربية، وانتهاء بالمنتسبين إلى السكان الأصليين من الهنود الحمر الذين لايزال أحفادهم يعيشون في المدينة، وتتنوع المدينة دينيًا كما تتنوع عرقيًا. ففيها ديانات عدة، ومذاهب متنوعة من المسيحية، التي تضم الكاثوليك واللوثريين والميتوديين (أتباع الحركة الدينية التي قادها - سنة 1729 - شارلز وجون ويزلي في أكسفورد، وذلك لإحياء كنيسة إنجلترا) وبعض المسلمين.

وتتوزع المدينة ما بين أغلبية بيضاء، وأقلية سوداء، حوالي ثلث عدد السكان تقريبًا، تعتز بحمل صفة الأمريكيين الأفارقة بثقافتها وفنونها المغايرة، التي تؤكد أصالتها بطرق عدة. ولذلك توصف المدينة بأنها كوزموبوليتانية، مثل شيكاغو القريبة منها، والأكثر منها عددًا وتنوعًا، ويبدو أن طابع التنوع البشري للعاصمة ميلووكي هو المسئول عن حضور نزعة راديكالية يسارية فيها، وفي بقية المدن الكبرى للولاية، وهي نزعة كانت، ولاتزال، تُقرن الدفاع عن الحقوق المدنية للسود (الأمريكيين الأفارقة) بالدفاع عن الحقوق العادلة للعمال. وينعكس طابع التنوع البشري في الفنون والاحتفالات وأشكال الاحتفالات، وذلك إلى الدرجة التي جعلت من ميلووكي مدينة الاحتفالات الموسيقية الأولى في الولايات المتحدة، حسب كتاب جينس الشهير.

الظاهرة الأفروأمريكية

ولا أزال أذكر متعتنا المشتركة - أنا وإسماعيل وزوجه - باحتفالات ميلووكي وصخبها، أيام الصيف، وحماسة إسماعيل للفنون الأفروأمريكية، فقد كان سودانيا، أكثر مني قربًا إلى إفريقيا السوداء، التي لم أكن أعرف عنها الكثير، وأكثر تشجيعًا لي على تذوق هذه الفنون، والاقتراب من الثقافة الأفروأمريكية، وقد كان يقول لي: نحن أولى بالانتساب إليها، مادمنا جئنا من القارة الأصل، التي نبعت جذور هذه الفنون منها، لكن بعد زرعها في تربة مغايرة ومناخ مختلف. ولم تكن متعتنا بهذه الفنون تخلو من اللهو، خصوصًا عندما نتجول ما بين احتفالات ميلووكي، التي كان يطلق عليها مدينة البيرة والشراب، لأن فيها أعلى نسبة من الحانات بالقياس إلى عدد السكان، ويرجع معنى اسمها - في أصله الهندي الأحمر - إلى دلالات تجمع ما بين «الأرض الطيبة» و«التجمع الطيب» و«البلاد الجميلة المبهجة».

ولم تكن زياراتنا إلى ميلووكي تخلو بالطبع، من زيارة جامعاتها العديدة، أو متاحفها، أو مسارحها، أو الاطلاع على جرائدها، أو مشاهدة تلفزيونها المحلي، أو الاستماع في الطريق إليها إلى محطات إذاعاتها المحلية، فكنا نشعر بالانتقال من هدوء ماديسون وقلة عدد سكانها إلى الصخب النسبي لعاصمة الولاية، التي كانت، بالتأكيد، أقل صخبًا من مدينة شيكاغو القريبة منها، والتي تعوّدت الذهاب إليها مع اثنين أو ثلاثة من طلابي الذين صاروا أصدقاء لي.

وما أسرع ما كانت أوقات الفراغ القليلة تنتهي، فنعود من ميلووكي إلى ماديسون في السيارة، التي كانت تقودها زوجة إسماعيل، بيف، التي كانت لا تكف عن شرح كل شيء لي، كأنها أستاذ حنون، حريص على تعليم تلميذه كل ما يعرفه، الأمر الذي كان يضيف إلى بهجة طريق العودة، وسط الحقول الخضراء المترامية على مدى البصر، فقد كانت وسكنسن، ولاتزال إحدى الولايات الزراعية، التي تغلب عليها حياة الريف (الأمريكي طبعًا). ويتميز أهلها بالبساطة، ومدينتها ماديسون بالهدوء والأمان. وكانت تلك ميزة كبيرة، فلم تكن ماديسون عامرة بأنواع التسلية البريئة أو غير البريئة، مثل غيرها من المدن الكبرى الصاخبة، ابتداء من ميلووكي وليس انتهاء بشيكاغو، فلم يكن في ماديسون سوى الجامعة، التي تتركز حولها المدينة الهادئة، الأمر الذي كان يبعث على التفرغ للعلم، وعدم الانشغال عنه بمغريات العقول أو الأجساد. وكانت ماديسون- ولاتزال- واقعة في منطقة البحيرات الكبرى في «الميدوست» (وسط الغرب) الأمريكي، أما مباني الجامعة، فكانت موزعة على تلال محاطة ببحيرات كبيرة، هي امتداد للبحيرة الكبرى، التي تطل عليها مدينة شيكاغو، التي كانت تبعد عن ماديسون مسافة ثلاث ساعات بالسيارة.

وسط المخلفات

وكان المبنى الذي أخذت أعمل فيه من عشرة طوابق، وتطل غرف مكاتبه كلها على بحيرة «ميندوتا» الجميلة، التي كانت تحيط بالتلال التي تقع عليها الجامعة، والتي كنت أصعد إليها يوميًا للتدريس والعمل، فأقضي الوقت فيها بين تدريس اللغة العربية بالإنجليزية لمن لا يعرفونها، والعمل في المكتب الذي تركه لي داستن كاول، فأجلس إلى الطاولة التي تطل على بحيرة ميندوتا، مبتهجًا بالمشهد الذي يبعث على الراحة، ويحث على العمل. وكان ذلك بعد أن تعاقدت على استئجار شقة صغيرة مفروشة من غرفتين، واحدة للنوم، والثانية للمكتب، لمدة عام بإيجار معقول، لا نظير له في هذه الأيام. وكان أول ما لاحظته في صباح اليوم الأول من إقامتي أمام العمارة، التي أسكنها جهاز تلفزيون قديمًا، موضوعًا مع أشياء قديمة أخرى، في انتظار عربة حمل المخلفات، ولما لاحظت أنه لايزال صالحًا للاستخدام، فيما بدا لي - وفيما تحقق ظني بعد ذلك - سألت المشرف على المبنى إذا كان في إمكاني أخذه بعد أن لم يعد أصحابه في حاجة إليه، فأذن لي، وحملت الجهاز إلى مسكني، وكان أول ما أضفته إلى المسكن بجوار الدولاب الفارغ المخصص للمكتبة الذي أخذ يمتلئ يومًا بعد يوم بالكتب الجديدة.

وكانت الرحلة من المنزل إلى الجامعة، ومنها إلى المنزل، متعة للعين والحواس: شوارع هادئة، تحيط بالجامعة، وطريق مستقيم يقودني من المنزل إلى مدخل الحرم الجامعي مباشرة، وانقسمت حياتي ما بين مكتبي وسكني إلى قسمين غير متكافئين: القسم الأصغر نسبيًا، هو قسم الأستاذ الذي يقوم بتدريس لغته ونصوصها وقواعدها. والقسم الأكبر هو قسم الطالب الذي أخذ يحصّل كل ما يحتاج إليه من معارف وآفاق جديدة. وظل كلا القسمين يحتاج إلى جهد، فلم أكن أعرف معرفة المتمكن المقابلات الإنجليزية لمصطلحات النحو والصرف العربيين، فضلاً عن قواعد النحو الإنجليزي التي كان لابد من الاستعانة بها على سبيل المقارنة التوضيحية. وقد فوجئت بضعف الطلاب في هذا الجانب، على نحو ما كان عليه حال طلابنا الذين يجهلون قواعد لغتهم. واستعنت بالكتب التي وجدتها في المكتبة على تذليل هذه العقبة، وكان أغلبها كتب المستشرقين الذين تخصصوا في قواعد اللغة العربية وصرفها، وأهمها كتاب المستشرق رايت عن «النحو العربي». يُضاف إلى ذلك الكتاب المقرر الذي اشترك في تأليفه عدد من أساتذة جامعة ميشجن، منهم بيتر عبود وغيره، وأصبح الكتاب المعتمد لتدريس العربية للمبتدئين في الكثير من الجامعات الأمريكية، سواء بأجزائه الثلاثة المتدرجة في المستويات اللغوية، أو بالشرائط الصوتية الملحقة به للتدريب عليها - في معمل اللغات، خصوصًا في المرحلة الأولى التي تقترن بتعلم كيفية نطق الحروف والمقاطع التي لم يتعود الطالب الأجنبي، أو الأمريكي، على النطق بها.

وكان الكتاب المعتمد يضم، في مجلده الأخير، عددًا من النصوص الأدبية السهلة في بناء جملها وتراكيبها. ولاتزال تعلق في ذهني قصة قصيرة جدًا بعنوان «سوزان وعلي»، للطيب صالح الذي كان كتابه «مواسم الهجرة إلى الشمال» قد ترجم إلى اللغة الإنجليزية.

وكانت هناك نصوص أخرى من إحسان عبدالقدوس وأشباهه من الكُتّاب الذين يتميزون بسهولة أسلوبهم وبساطته. وأحسبني تعلمت من تدريس اللغة العربية للأجانب أهمية اختيار نصوص القراءة، والتمييز بين الأسهل للطالب الأجنبي والأصعب، خصوصًا من منظور الأسلوب والتراكيب والمفردات. وكانت هذه الخبرة بمنزلة عدسة مضافة إلى عدسات قراءاتي السابقة، انتبهت معها إلى ما لم أكن أنتبه إليه من قبل، فأعدت قواعد التراتب الأدبي في ذاكرتي، ورفعت من لغة أمثال يوسف إدريس ببساطتها وبلاغتها العامية المفصّحة، بالقياس إلى لغة أمثال طه حسين المليئة بالمترادفات والفواصل الإيقاعية والموازيات البلاغية، وقس على ذلك كتابات العقاد وأمثاله، التي دفعتني قراءة النصوص مع طلاب أجانب عنها إلى إعادة النظر في آليات قراءتها، وتراتبات قيمتها.

اللغة العربية في أمريكا

هذا عن القسم الخاص بمدرس اللغة العربية للأمريكيين الأجانب عنها، وهو القسم الذي أفدت منه معرفة النحو المقارن وأحكام أجرومية اللغة الإنجليزية وقواعدها النحوية التي كنت أستعين بها لإفهام الطلاب أجرومية اللغة العربية. وكنت إذا وجدت ما يعسر عليّ شرحه أو تفسيره أو الإجابة عن سؤال خاص به - وما أكثر ما كان يحدث ذلك - أكرر جملة فرناند دي سوسير (1857 - 1913)، عالم اللغة السويسري، الذي انطلقت من نموذجه المنهجي الحركة البنيوية في مجالاتها المختلفة. وهي الجملة التي تتحدث عن اعتباطية اللغة، التي لا يمكن عقلنتها أو تبريرها المنطقي في كل الأحوال. وما أكثر الطرائف التي كانت تحدث لي في البحث عن المترادفات الإنجليزية للكلمات العربية ونطقها الإنجليزي الذي كان يفلت مني أحيانًا. ولاأزال أذكر ضحك الطلاب والطالبات عندما قلت لهم إن المقابل الإنجليزي لكلمة «باذنجان» هي كلمة «egglant» ولكني نطقت المقطع الصوتي الأخير بالمد والإمالة فأصبحت الكلمة «eggplanet» التي تعني بيضة كوكب من الكواكب السيارة، فانفجر الطلاب والطالبات بالضحك، ولم أنتبه إلى خطأ النطق الذي وقعتُ فيه إلا بعد أن أوضحت لي طالبة متعاطفة فرق المعنى بين النطق الصحيح والنطق الخاطئ، فانفجرت بالضحك أنا الآخر، وصارت الحادثة موضوعًا للتندر البريء في لقاءاتنا، خارج الدرس، وذلك بعد أن حرصت على إجادة النطق بأسرع ما يمكن، ولكن دون إحساس بالذنب، خصوصًا أنني كنت أسمع نطق المستعربين للكلمات العربية، وأمنع نفسي من الضحك لصعوبة إتقانهم النطق السليم إلا فيما ندر. ولم تنته الطرفة عند هذا الحد، فقد أخبرت الطالبة المتعاطفة والدتها بالقصة، فأصرت السيدة الطيبة على أن أزورهم في مزرعتهم غير البعيدة عن المدينة، وأن أتناول معهم طعام الغداء، ويأخذوني في جولة عبر الحقول لأرى بعيني الـ «egglant» مزروعًا في الأرض وليس الـ «eggplanet» المزروع في الفضاء، وقد قضيت يومًا ممتعًا مع الأسرة الريفية الطيبة وسط الحقوق الممتدة إلى ما لا نهاية.

أما القسم الثاني الخاص بالدارس الذي انقلب إلى طالب علم متحمس، متلهف على استكمال ما يجهله في الحقول المعرفية التي تبدأ من تخصصه، وتعود إليه في مدى تضافر الاختصاصات أو المجالات البينية، فكان أكثر قلقًا وتوترًا من المدرس، حريصًا على أن يحصّل في وقت قصير ما يحصّله غيره، عادة في وقت طويل، فلم أكن أملك رفاهية دارسي الدكتوراه الذين يطمئنون إلى تعدد السنوات، فالمتاح لي كان شهورًا معدودة في النهاية، ونهاياتها تلوح منذ بدايتها، فتصلصل عربة الزمن المجنحة بأجراسها في اندفاعها السريع إلى الأمام، ولذلك كنت أصل الليل بالنهار لمعرفة ودراسة ما كنت أحلم بتحصيله وتطوير أفقه. وكان كلا القسمين يحتاج إلى جهد كبير وتفرغ تام، لكن من الذي يهتم بصعوبة الجهد في مرحلة الشباب، مع وجود الدافع المتلهب لتأكيد حضور الذات وإصرارها على النجاح؟

وأخذت أبدأ يومي مبكرًا، فقد كانت المحاضرات تبدأ في الثامنة صباحًا، وذلك بعد عمل متواصل في الليل، أراجع في جزء منه ما أقوم بتدريسه في الصباح، وأدرس الكتب الجديدة في النقد الأدبي، الجزء الباقي، فلا يتبقى من الليل لي سوى سويعات قليلة للنوم، ولكني كنت أنهض نشطًا، ممتلئا بالحيوية والحماس، وأندفع في طريقي، سيرًا على الأقدام، صوب الحرم الجامعي الذي كان يبدأ بميدان فسيح مستطيل، تقع على جهته اليمنى مكتبة الجامعة التي كانت أول مكان زرته بالطبع، وعلى الجهة اليسرى مكتبة الجامعة لبيع الكتب (Book Store) المقررة على الطلاب، أو التي تقدم لهم وللأساتذة المتاح المتجدد في فروع المعرفة المختلفة، وتحتل أحد الأدوار، بين بقية الأدوار الثلاثة التي كانت مخصصة للملابس أو الأدوات الكتابية أو الهدايا أو الأدوات الكهربائية الصغيرة. وبعد انتهاء الميدان المستطيل، يبدأ التل الممتد الذي يقود إلى المبنى الذي يقع فيه القسم الذي عملت به طوال العام، وهو قسم اللغات والآداب الإفريقية، وذلك بعد أن كانت اللغة العربية وآدابها أهم ما يتم تدريسه في قسم اللغات السامية، ولكن اللوبي الصهيوني لم يهدأ إلا بعد طرد الدراسات العربية منه. ولحسن الحظ، أحسن استقبالها القائمون على قسم اللغات والآداب الإفريقية الذين نظروا إلى اللغة العربية وآدابها بوصفها إحدى اللغات والآداب الإفريقية، وذلك بتبرير مؤداه أن أكثر الناطقين بها يقعون، جغرافيًا، في قارة إفريقيا، ابتداء من مصر مرورًا بليبيا وتونس والجزائر وموريتانيا، وانتهاء بالمغرب. ولم يكن هذا التحدد الجغرافي يمنع من التعرض لآداب الأقطار العربية الأخرى التي لا تقع في إفريقيا، فلم يكن من الممكن الفصل بين هذه الأقطار من منظور وحدتها اللغوية والثقافية والقومية.

مجموعة الشعر

وسرعان ما تعرفت إلى زملائي في قسم اللغات والآداب الإفريقية، ابتداء من رئيس القسم هارولد شويب الذي كان شاعرًا من الأمريكان الأفارقة، وكان يدعوني إلى بعض جلسات مجموعة قراءة الشعر التي كان عضوًا مبرزًا فيها، وكان هناك إدريس ماكوارد، أظرف الزملاء وأكثرهم أريحية، وبفضله عرفت الحياة الاجتماعية التي تصل بين الأساتذة والطلاب في الحفلات التي كان مغرمًا بالإشراف عليها أو الدعوة إليها في منزله. ولم يفتني بالطبع أن بعض الأساتذة كانوا من الأفارقة الذين استقروا، في الجامعة التي تولوا فيها تدريس آدابهم الوطنية، بينما البعض الثاني من الأمريكيين السود - الذين كانوا معتزّين بهويتهم ولونهم، وذلك في مجتمع متعدد الأعراق والأصول، شأنه شأن غيره من مجتمعات المدن الأمريكية - متغايرة الخواص عرقيًا وثقافيًا واجتماعيًا.

وقد كنت أعرف المزيد عن هذا المجتمع وتعدده الثقافي من الكتب (لم تكن مباهج الإنترنت متاحة أو معروفة في ذلك الوقت) التي كنتُ اشتريتها في كل مجال واتجاه، سواء في حقل تخصصي الدقيق، أو الحقول المجاورة، المتأثرة به والمؤثرة فيه، وكان الشهر ينتهي، عادة، وقد أنفقت كل ما أملك على شراء الكتب التي كنت أقول في نفسي: إنها إن لم تنفع الآن، فسوف تنفع فيما بعد، وقد حدث ذلك كثيرًا، في مجالات الفلسفة الإسلامية أو التراث العربي بوجه عام، ولاأزال أحتفظ بترجمة جيمس مونرو وتقديمه لرسالة «التوابع والزوابع»، وكتبًا عن «الحب عند العرب» أو الطريق الذي سلكه أرسطو إلى ميراثهم، وقد فرحت بكتاب ولفسون الضخم عن فلسفة المتكلمين، فاشتريته، وظللت أحتفظ به إلى أن استعاره مني زميلي د.مصطفي لبيب الذي لم يرده لسنوات طويلة، إلى أن فاجأني بترجمته كاملاً، فنشرته له في مجلدين ضمن «المشروع القومي للترجمة» الذي أشرف عليه في المجلس الأعلى للثقافة.

هوس بالكتب

وكانت نتيجة التهوس بشراء الكتب في مجالات عديدة، أنني لم أدّخر شيئًا، ولم يبق معي من مرتبي في نهاية العام، قبل سفري، سوى ثمن التذكرة الذي سوف أعود بها إلى القاهرة، وبعض الهدايا البسيطة لأسرتي، ولكن قبل أسابيع قليلة من العودة فوجئت بخطاب من إدارة الضرائب في الولاية، يطالبني بدفع الضرائب التي قدّرتها الإدارة، بناء على معاييرها، ومن عاش في الولايات المتحدة يعرف جدية هذه الإدارة وتنفّذها القانوني المباشر، الذي يؤدي إلى سجن المتهربين من الضرائب، وعندما فتحت خطاب الضرائب في مكتبي «وقعت في حيص بيص» كما يقول العرب القدماء، فلم أكن أملك عُشْر المبلغ الضخم الذي يطالبونني به (آلاف عديدة من الدولارات). وكنتُ أعرف خطورة تجاهل هذا الخطاب، فطلبت رقم التلفون المطبوع على الخطاب للاستعلام، وتحدد لي موعد مع المسئول، بعد عدة أيام، ولم أنم في هذه الأيام من القلق، والتفكير في إمكان استدانة هذه الآلاف العديدة، لكن مِنْ مَنْ؟ وكيف؟ وفي النهاية، أسلمت أمري إلى الله، ذهبت لمقابلة المسئول الذي استقبلني ببشاشة، وتركني أشرح له المشكلة التي وضعني فيها حبي للكتب، وظل باسمًا طوال شرحي له أن حبي للكتب والعلم هو الذي جعلني بلا مدخرات على الإطلاق، وبعد أن فرغت، فاجأني الرجل بأسعد خبر سمعته طوال الاثني عشر شهرًا من إقامتي في الولايات المتحدة، وأبلغني بوجود معاهدة بين الحكومة المصرية والولايات المتحدة، وتنص هذه المعاهدة على إلغاء الضرائب عن مواطني كلا البلدين، إذا كانوا في عمل أكاديمي، أو منحة دراسية، وذلك بحد أقصى لا يجاوز سنتين من الإقامة المتصلة. وكدت أرقص من الفرح، فقد أزاحت هذه المعلومة التي لم أكن أعرفها من قبل كل الهموم عن كاهلي، وأكْمَلَتْ فرحتي بثروة الكتب التي لم أبخل عليها بالشراء، ولم تُبقِ لي مدخرًا من المال، لكنها لاتزال تبقي لي سعادة تشبه فرحة من يمتلك كنزًا من نفيس المقتنيات.

كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّةً لِلْمَرْءِ قَاتِلَةً مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِ أَنَّ السُّمَّ فيِ الدَّسَمِ
وَاخْشَ الدَّسَائِسَ مِنْ جُوعٍ وَمِنْ شِبَعٍ فَرُبَّ مَخْمَصَةٍ شَرُّ مِنَ التُّخَمِ
وَاسْتَفْرِغِ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنٍ قَدِ امْتَلأَتْ مِنَ المَحَارِمِ وَالْزَمْ حِمْيَةَ النَّدَمِ
وَخَالِفِ النَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمَا وَإِنْ هُمَا مَحَّضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِم
وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمَا خَصْمًا وَلاَ حَكَمًا فَأَنْتَ تَعْرِفُ كَيْدَ الخَصْمِ وَالحَكَمِ


البوصيري

 

جابر عصفور