«نماذج بشرية» بين محمد مندور وجون كالفيه

«نماذج بشرية» بين محمد مندور وجون كالفيه

القيمة الثقافية التي يحتلها محمد مندور في حياتنا الثقافية، منذ عودته من بعثة إلى فرنسا في أواخر الثلاثينيات، قيمة ثرية ومتنوعة ومثيرة للجدل، وربما كانت الصفة الأخيرة عاملاً ساعد على إضفاء مزيد من الحيوية عليها، وإعطاء تجربته الثقافية مذاق التحديات.

لاشك أن تجربته خلال البعثة نفسها، والظروف التي أحاطت بفترة ما بعد عودته منها، قد تركت تأثيرها على كثير من كتاباته اللاحقة. لقد قضى مندور في البعثة تسع سنوات، كانت أقرب إلى إشباع النهم الثقافي، منها إلى تحقيق هدف أكاديمي محدد، يتمثل في الحصول على درجة الدكتوراه في التخصص الذي اختاره له أستاذه طه حسين عقب تخرجه في قسم اللغة العربية بكلية الآداب. وكانت سنوات البعثة قد دفعته إلى أعماق الحياة الثقافية الفرنسية، اطلاعًا على الآداب، وتمتعًا بالفنون، وممارسة للحياة الصاخبة على طريقة «جفروش» بطل فيكتور هوجو، «كما نص هو على ذلك في سيرته الذاتية التي أملاها على فؤاد دوارة».

وهي الشخصية التي بدأ بها مقالاته في النماذج البشرية، كما دفعته إلى المشاركة في الصحافة الفرنسية، بكتابة مقالات سياسية، ينتقد فيها موقف فرنسا في معارضة إلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر، ويشترك في سجال على صفحات الجرائد مع وكيل وزارة الخارجية الفرنسية، الذي كان يترأس وفد بلاده في مفاوضات مونترو، وهي مقالات عصمت، محمد مندور، طالب البعثة المتمرد على قوانينها، من قرار حجب المرتب، الذي صدر ضده، بعد رحلته، غير المسموح بها، إلى بلاد اليونان، ليبحث عن مواقع أكاديمية الفنون، ويترسم وقع خطى وفلاسفة الإغريق، والذي كان يمهد لقرار آخر، هو الفصل من البعثة، وكان إنقاذه في يد مدير الجامعة أحمد لطفي السيد، مما دعا طه حسين إلى أن يوعز لتلميذه مندور، بترجمة قصيدة «بيت الراعي» لألفريد دي فيني، التي يعجب بها أحمد لطفي السيد، ويتمنى أن يقرأها في ترجمة أدبية رفيعة. وقد نفذ مندور النصيحة، وأرسل ترجمة، أمر لطفي السيد بنشرها في مجلة الرسالة، وعدم فصل صاحبها من البعثة. وربما تكون هذه الترجمة البديعة التي أظهرت قدرة مندور على إعادة صياغة النص الأدبي الفرنسي بالعربية، وبث روحه من خلاله، هي البذرة الأولى لما سيصنعه بعد ذلك في مقالات «نماذج بشرية»، مع عدم الاهتمام بالإشارة إلى مصدر العمل الإبداعي، كما سنرى.

وإذا كانت سنوات البعثة التسع قد كادت تغرقه في بحور النهم الثقافي والفني والحياتي، فإنها دون شك، قد قللت من درجات تعوّده على الخطوات الصارمة للدرس الأكاديمي، التي يتعود من خلالها الطلاب المتوسطون على إثبات مصادر معلوماتهم، والتنامي في درجات الدقة من إثبات المصدر أو المرجع، إلى الدخول في تفاصيل الطبعات المختلفة والصفحات المجددة، وعلامات التنصيص لبدايات الإفادة ونهاياتها، وحجم التصرف أو الالتزام، إلى غير ذلك من أولويات البحث العلمي، التي لا تشي حياة مندور في البعثة باهتمامه بها، ولا بإنجازه أيّا من الأطروحات على أساسها، فيما عدا الإشارة العابرة إلى بحث في موسيقى الشعر العربي، لم يعرف طريقه إلى النور، ولم يتحمس هو نفسه لإخراجه قرابة أربعين عامًا عاشها بعده.

وعدم التعود على هذه الخطوات أدى إلى النتيجة الطبيعية للبعثة. وهي عدم الحصول على الدكتوراه، وأشعل الغضب العارم لأستاذه طه حسين عليه، فمنعه من التعيين في الجامعة، وهو الموقف الذي ولّد رد فعل حانيا من أحمد أمين، فاحتضن الطالب الذي يملك فيضًا هائلاً من الثقافة بالقياس لأقرانه، ودفعه إلى إعداد أطروحة عاجلة - في تسعة أشهر - عن مناهج النقد عند العرب، لكي يخرج من أزمته الوظيفية.

مواجهة المشاكل المادية

وقد دفع هذا التعاطف أحمد أمين كذلك - وهو رئيس تحرير مجلة الثقافة - إلى أن يفتح أمام مندور باب كتابة بعض المقالات التي تساعده على مواجهة أعباء الحياة، ومنها مقالات «نماذج بشرية». ولنقرأ عبارات مندور في وصف هذه المرحلة، كما ينقلها عنه فؤاد دواره: «كان أحمد أمين - طيب الله ثراه - قد فتح أمامي باب الكتابة في مجلة الثقافة، التي كانت تصدرها وقتئذ لجنة التأليف والترجمة والنشر، وكان يرأس تحريرها، فبذلت أقصى جهد ممكن استجابة لهذا العطف الأبوي الكريم، وكتبت سلسلتين من المقالات، الأولى بعنوان «نماذج بشرية» والأخرى بعنوان «في الميزان الجديد». وبالرغم من أن مكافأة هذه المقالات كانت زهيدة لا تتجاوز جنيهًا ونصف جنيه للمقال، فإنها أسهمت في حل الكثير من المشاكل المادية».

هذا هو المناخ العام الثقافي والأكاديمي والاقتصادي الذي أحاط بكتابة مجموعة هذه المقالات، في مجلة الثقافة بدءًا من سنة 1941، فتتابعت مقالات مثل «فيجارو» مايو 1941، ودون كيشوت يوليو1941، وهاملت أغسطس 1941، وجوليان سوريل سبتمبر 1941، وفيليسنييه ديسمبر 1942، وإبراهيم الكاتب ديسمبر 1942، وراستينياك ديسمبر 1943، والعبيط نوفمبر 1943، وفبراير 1944، وأوليس يونيو ويوليو 1944. ثم جمع هذه المقالات في كتابه بعنوان «نماذج بشرية» (بقلم) الدكتور محمد مندور، صدر عن مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1944. وكتب محمد مندور إلى زوجته ملك عبدالعزيز إهداء في صدر الكتاب مشيرًا إلى أنه تعود على أن يملي عليها أو يقرأ عليها ما يكتب، وأنه يستجيب لمراجعاتها المعتمدة على ذوق هو «خير عون على الرجوع عما قد تسوقني إليه حرارة القلم عندما يتملكني الموضوع، فأندفع في أعقابه»، على حد تعبيره. ثم تلا ذلك مقدمة للكتاب في إحدى عشرة صفحة بقلم السيدة ملك عبدالعزيز، وهي سنة كما يقول مندور في الإهداء، «قد تبدو جديدة، ولكنها سنة خيرة»، لكنها أيضا سنة لم تكرر عند مندور في مؤلفاته الأخرى. ولقد حرصت السيدة ملك التي كانت في مطلع شبابها 1944 أن تقدم تحليلاً ضافيًا لعبقرية «المؤلف» في معالجة شخصياته، وركزت تركيزًا واضحًا على مصطلح «المؤلف» الذي تردد في المقال كثيرًا، وكأنها في هذه الفترة تؤكد النسبة التأليفية بين النماذج والدكتور مندور، الذي كان هو نفسه قد فضل عليها صيغة «بقلم» على الغلاف عندما ربط بين العمل واسمه.

وقد أحدثت هذه المقالات رد فعل طيبا لدى كثير من القرّاء، ولفتت النظر إلى منهج جديد في معالجة مفهوم «الشخصية» في العمل الأدبي عامة، والروائي خاصة، وربما تكون قد ساهمت، مع كتابات أخرى، في تطوير فن الرواية العربية، التي كانت تدخل في فترة نشر هذه المقالات طورًا جديدًا، مع دخول نجيب محفوظ إلى مجالها بإبداعات جديدة قوية.

هل هي سرقة أدبية؟

لكن هذه المقالات بدأت تثير كذلك، منذ أواخر حياة مندور سنة 1965، تساؤلات حول مدى صلة مادة هذا الكتاب بالمراجع الفرنسية، التي كان مندور يرجع إليها، ويغفل الإشارة إلى أسمائها. وفي هذا المجال، كتب الدكتور عبدالمطلب صالح في مجلة الرسالة الجديدة أبريل 1965 مقالا بعنوان: «هل الدكتور مندور هو المؤلف الحقيقي لكتاب «نماذج بشرية»، وأعاد نشر المقال في مجلة الأقلام العراقية سنة 1967. وأشار الدكتور الطاهر مكي في كتابه «الأدب المقارن: أصوله وتطوره ومناهجه» إلى أن مندور قد «سرق» كتابه من كتاب جون كالفيه الذي يحمل عنوانًا قريبًا هو «نماذج عالمية»، ودارت مناقشات صحفية وإذاعية بعد ذلك شارك فيها الدكتور الطاهر مكي، والدكتور عبداللطيف عبدالحليم والأستاذة ملك عبدالعزيز سنة 1996، ودارت حول تأكيد التهمة أو نفيها، ثم صدر بعد ذلك سنة 1999 كتاب للدكتور إبراهيم عوض بعنوان «د. مندور بين أوهام الادعاء العريضة، وحقائق الواقع الصلبة...ثلاث قضايا ساخنة»، وقد خصص فصلا فيه بعنوان «اتهام مندور بسرقة كتابيه «نماذج بشرية» و«محاضرات عن إبراهيم المازني»، واقترب في القسم الذي خصصه لنماذج بشرية، من نصوص مندور وكالفيه، مبينًا كثيرًا من أوجه التقارب، وإن كان العنوان الفرعي الذي اختاره للكتاب «قضايا ساخنة» قد أثر على درجة اندفاع الحوار دون أن يفقد الموضوعية في مواقف كثيرة.

ونود أن نقترب في هدوء أكثر من الكتابين، وبين أيدينا الطبعة الأولى من كتاب «نماذج بشرية» لمندور سنة 1944، بتقديم السيدة ملك عبدالعزيز، وهي تعالج أربعة عشر نموذجًا، يخصص لبعضها أكثر من مقال فتجيء في أربعة وعشرين مقالاً، والنماذج هي: جفروش، وفيجارو، ودون كيشوت، وفاوست وهاملت، والسيت، وبيتريس، وجوليان سوريل، وإبراهيم الكاتب، وفيليسنييه، والأستاذ منلان، وراستنياك، وأوليس والعبيط. ويقع الكتاب بمقالاته الأربع والعشرين، ومقدماته في 441 صفحة.

اما الكتاب الثاني فهو.

Jean Calvet, Types Universels dans La Litterature Française

نماذج عالمية في الأدب الفرنسي، وقد أضيف على صفحة الغلاف الداخلية أن الكتاب حصل على جائزة الأكاديمية الفرنسية

Couronne par L'academie Française

والطبعة التي بين أيدينا صادرة سنة 1964 عن دار نشر Fernand Lanore في 190 صفحة، وتعالج اثني عشر نموذجًا هي: دون جوان والسيت وجيرونت وتيركاريه وأميل وجوليان سوريل وراستنياك وجيروم باتيرو وجوزيف بريدوم ودرتانيون وجفروش وموران دي موري. وواضح من النظرة الأولى عدم التطابق الكامل بين النماذج المثارة هنا وهناك، وأن أربعة نماذج فقط تلتقي بين الكتابين. لكننا لابد أن نضيف أن الكتاب الذي بين أيدينا، يتحدث عن النماذج العلمية في الأدب الفرنسي فقط. أما بقية النماذج التي عالجها كالفيه فقد تضمنها جزءان آخران.

مقارنة بين نصين

ولنقترب الآن أكثر من نصوص الكتابين، لنرى عن قرب مفهوم اتكاء النص الثاني على النص الأول، ومدى التصرف بالإضافة أو بالحذف، ومدلولاته، وطريقة صياغة أسلوب النص العربي «المترجم أو المستفيد من النص الآخر»، من حيث الإيحاء بالاستفادة من مصدر آخر، أو محاولة تغطية هذه الاستفادة، أو التعمية عليها بصرف النظر عن ذكر اسم مؤلف النص الأصلي أو إغفاله (ولنُشِر عابرين إلى أن اسم جون كالفيه لم يرد أبدًا في الكتاب، لا على غلافه، ولا في إهدائه، ولا في مقدمة السيدة ملك، ولا في مراجع الدكتور مندور. وتلك في حد ذاتها نقطة ضعف منهجية وخلقية لا يمكن إنكارها، بالرغم من الإيجابيات الكثيرة للعمل والإنجازات المتعددة للرجل)، وسوف نختار نص جفروش الذي بدأ به مندور كتابه لنقارنه مع نص «جفروش» عند كالفيه.

- يحتل نص جفروش عند مندور خمس صفحات ونصف الصفحة، تبلغ نحو ألفي كلمة، ويحتل موقع المقال الأول في الكتاب، على حين يحتل النص عند كالفيه نحو اثنتي عشرة صفحة، وتزيد كلماته على أربعة آلاف كلمة، ويعني ذلك انتفاء التطابق الكمي، واكتفاء النص الثاني ببعض محتويات النص الأول.

- يبدأ مندور نصه بداية لافتة للنظر، يشف فيها أسلوبه، عند محاولة شخصنة العمل ونسبته الواضحة إليه اختيارًا ومعالجة حين يقول: «قد يبدو غريبًا أن نترك النماذج المشهورة كدون كيشوت وهاملت، وفوست، مثلا، لنبدأ بجفروش وعبارة «نترك»، و«نبدأ» قابلة لأن تحمل في وعي قلم الكاتب تأكيد الملكية، ولكنه قد تكون قابلة في «لاوعيه» أيضًا لتأكيد التبعية، ووجود نموذج آخر، يجري التحرك عليه بدءًا وتركًا. وعلى أية حال، فليس جفروش هو النموذج الأول عند كالفيه، على الأقل في الطبعة التي بين أيدينا، إذ يحتل النموذج قبل الأخير.

وتمتد ملامح محاولة الشخصنة إلى جمل أخرى، يحاول فيها مندور توضيح مدى ارتباطه الشخصي بشخصية جفروش.:

والواقع أن هذه العبارات التي نقلناها - على طولها النسبي - تبين حجم العباءة الفضفاضة، التي ارتداها مندور وهو يعالج الشخصية الأولى في النماذج البشرية - وحجم «الشخصنة» التي أراد أن يضفيها على العمل، خاصة إذا أدركنا أن كالفيه لم يشر إلى أي من هذه المعاني في معالجته لشخصية جفروش.

لقد دخل كالفيه إلى المعالجة بمدخل أكثر تواضعًا وموضوعية، من خلال إشارته لتطور شخصيات «الصبيان الأبطال» بالمعنى الروائي في الإنتاج الأدبي الفرنسي - وخاصة صبيان باريس Les gamins de Paris، الذين كانوا موضع اهتمام الأعمال الأدبية منذ القرن الخامس مثل Villon وغيره وإلى زيادة الاهتمام بهذه الفئة gamins enfant، مع التطورات السياسية والاجتماعية والأدبية في القرن التاسع عشر - عصر الثورة الفرنسية والرومانتيكية الأدبية وكيف برزت شخصيات من هذا النوع إلى صدر الأعمال الأدبية مثل شخصية جون جوزيف سنة 1836 أمير المستنقعات والقنوات المائية، ومنقذ الأطفال المهددين بالغرق في قناة سانامارثان.

لكن تطورًا مهمًا يدخل على هذا النموذج على يد فيكتور هوجو من خلال تجسيد نموذج «الصبي الشقي المحبوب gamin sympatique ممثلا في جفروش.

ويوضح جون كالفيه كيف اجتاح جفروش رواية البؤساء، الملحمة الديمقراطية الكبرى المملوءة بتمجيد كل ألوان الطيف للطبقات المنسحقة بين عامي 1815-1848.

وانطلاقًا من هذا الرصد التاريخي داخل الأدب الفرنسي (الذي لم ينقل منه مندور شيئًا واستعاض عنه بالإشارة إلى مسرحية بيراندللوست بشخصيات تبحث عن مؤلف)، انطلاقًا من هذا يبدأ كالفيه الدخول إلى عالم جفروش طفل باريس، بما يشبه اللوحة الغنائية ويفتتحها بعبارة دالة: «لباريس طفلها، وللغابة عصفورها»، ثم يستمر في بناء شخصيته من خلال المحور الوصفي الغنائي والمحور الدرامي.

وهو خلال بنائه لهذين المحورين، يعتمد كذلك على ازدواج مصدرين من مصادر التعبير هما:

أ- المصدر التوثيقي، معتمدًا على نصوص مسرحية البؤساء لفيكتور هيجو، والتي كان جفروش أحد أبطالها، وهو عندما يلجأ إلى أحد نصوص المسرحية، يضعه بين علامتي تنصيص، ويشير إلى مكانه المحدد في المسرحية.

ب- المصدر التعليقي، ويتمثل في تعليقات جون كالفيه، التي تتحرك من المسرحية إلى النموذج إلى المجتمع إلى القواعد المتعارف عليها في السلوك، وأنماط الخروج القبيحة أو الجميلة عليها.

ولسوف نجد مندور يستفيد من هذا الهيكل في بناء مقاله، دون أن يلتزم بمعايير الضبط التي فرضها كالفيه على نفسه.

ففيما يتصل بالمحور الوصفي الغنائي، ينقل مندور تقريبًا كل الأوصاف الجسدية والنفسية، وإن كان يعيد توزيعها: «وكان جفروش يرتدي بنطلونًا لم يأخذه من أبيه، وقميصًا لم يأخذه من أمه، وإنما كساه بتلك الأسمال قوم محسنون...»، «وكان شعوره بالسعادة أتم عندما يجد نفسه في الشارع، إذ إن حجارته كانت عليه أقل صلابة من قلب ذويه...».

ابتعاد عن الدقة

وتسير خطوات اقتباس المحور الوصفي الغنائي دون تقيد من مندور لا بالترتيب ولا بالتفصيل، ومع مراعاة خصوصيات القارئ العربي وثقافته حول النموذج الفرنسي. ويترك مندور فقرات كاملة لا يقف أمامها، وبعضها لمسات غنائية راقية، ويوجز في ترجمات بعض النصوص إيجازًا مخلاً مربكًا قد يهدم المعنى أو يضيّع النكتة الفنية. ولنأخذ مثالاً واحدًا معبرًا من ذلك المشهد الدامي الساخر، مشهد مقتل جفروش برصاص الجنود، أثناء تجوله بجرأة بين جثث موتاهم، لأخذ ما تبقى من ذخيرة حية، لكي تضاف إلى بنادق الثوار. لقد سقط جفروش وهو يغني أغنية مقبرة عبثية شعبية، تربط قافيتها بين أسماء أحياء باريس، وأسماء الأدباء المشهورين في لعبة لفظية. تقول الأغنية:

On est Laid Nanterre

C'est La Faut Voltaire

Et bete balaiseau

C'est La faut Rousseau

وقد ترجمها مندور ترجمة مبتسرة وغير دقيقة حين قال «لقد سقطت إلى الأرض، وتلك غلطة فولتير، لقد سقطت بالقناة وتلك غلطة...». والواقع أن النص ليس به أرض ولا قناة، وبه إلى جانب فولتير، روسو (بدل النقاط التي وضعها مندور). والنص يقدم نكتة شعرية عبثية جميلة، نقترب من فهمها، لو ترجمناها مثلا ترجمة حرفية، مراعين القافية بين أسماء الأحياء الباريسية وأسماء الشعراء، فقلنا مثلا:

كم أكون قبيحًا في «نانتير»
وهذه غلطة «فولتير»
وكم أكون غبيا في «باليسو»
وهذه غلطة روسو»

وقد تتضح النكتة الساخرة في أذهاننا أكثر، لو صنعنا على منوالها أغنية شعبية مصرية تقول مثلا:

أنا مش عارف رايح فين
ودي غلطة طه حسين
أنا ماشي راسي بيدور
ودي غلطة دكتور مندور

أما المحور الدرامي، فيتمثل في مجموعة من المشاهد التي تجسد خصائص شخصية جفروش، وقد أورد منها كالفيه مجموعة من المشاهد العابرة والمفصلة، وقد اقتبسها منه جميعًا دكتور مندور مع إغفال بعض التفاصيل، مثل إغفال اسم اللص مونبارناس، والشيخ صاحب الحديقة، أو مع زيادة بعض التفاصيل، كما صنع مع جفروش عندما اقترب من الحديقة ليلاً، فقد جعل مندور هدفه سرقة تفاحة، لكي يدخل منها إلى تعليق حول حكاية التفاحة التي أخرجت آدم من الجنة، «وهي زيادة ليست في الأصل» لكي تظل بقية المشاهد الدرامية هي هي عند كالفيه ومندور. فجفروش يبيع الصراع بين اللص والشيخ، ويرد المحفظة المسروقة لصاحبها، ويهتم بالصبيين الصغيرين، ويوفر لهما مأوى، سواء كان تحت أقدام التمثال - كما ذكر مندور - أو في جوف تمثال الفيل الضخم، كما ذكر كالفيه. وجفروش في نهاية المطاف ينضم إلى قافلة الثوار، ويعتصم معهم في معسكراتهم، ويشترك في قتال الشوارع حتى يموت وهو يغني.

هناك إذن تطابق في المحورين الغنائي والدرامي، اللذين تم من خلالهما بناء شخصية جفروش عند كل من كالفيه ومحمد مندور، وهناك التزام من كالفيه بأمانة الإشارة إلى مصادره حتى، ما هو معروف منها مثل رواية البؤساء لفيكتور هيجو مهد الشخصية ومسرح تحرّكاتها، وتحديد مواضع الاقتباس، وعدم التزام مندور بأمانة الإشارة إلى مصادره جملة أو تفصيلاً، مع أنه قد وضع علامات التنصيص في الأصل.

إن مندور كان يؤمن - دون شك - بعبارة بول فاليري الشهيرة: «ليس الأسد إلا خراف عدة مهضومة»، ولقد أكل مندور كثيرًا من الخراف من حمى «الراعي» كالفيه، دون أن يستأذنه، كما كان من قبل قد دخل «بيت الراعي» ألفريد دي فيني، ولكنه دخله مستأذنًا بإشارة من طه حسين، وخرج منه مبتهجًا، وهو يضع اسمه إلى جانبه ويقدمه إلى لطفي السيد، فيكتسب مجد الترجمة الجيدة، ويفلت من عقاب الفصل من البعثة، ولكنه عندما نسي هذا التقليد مع نسيانه بعض تقاليد الصرامة الأكاديمية، وعلى حساب إشباع النهم الثقافي، استحق - دون شك - مجد إدخال نمط كتابي جديد إلى العربية، وزهو تلقي الثناء من أجيال متتالية، ولكنه لم يستطع الإفلات من عقوبة عدم الحرص على الالتزام بمبدأ خلقي علمي، كان هو ممن وجّه أجيالاً كثيرة إلى أهمية دقة الالتزام به.

إن صنيع مندور هنا يقف على درجة قريبة مما صنعه المنفلوطي قبله بقليل مع «ألفونس كارر» في رواية ماجدولين، أو تحت ظلال الزيزفون مع أدمون روستان في الشاعر أوسيرانودي برجلاك. ولكن المنفلوطي كان أكثر تحوطًا، عندما أعطى لنفسه الحرية التي أرادها في المشاركة في إعادة إبداع النص - كما صنع مندور - ولكنه في الوقت ذاته وضع اسم صاحب النص الأول، الذي لم ينتقص أبدًا جزءًا من هالة مجد الإبداع اللغوي والأدبي الجميل لصاحب النص الثاني، وهذا ما فات مندور - مع الأسف - الالتفات إليه. ولكل جواد كبوة.

 

أحمد درويش