عصافير البراري

عصافير البراري

في الطريق إلى بيت صديقي، حملت معي وهم السعادة، مع إحساس خفيف بالقلق ليقيني بأنني لا أحسن الاستدارة في المنعطفات في هذه المرّة كان التلفون ينتظرعذرًا لينفجر بعواطف أخت صديقي.. حكت لي بحديث يتسم بالبراءة لكنها تعرف كيف تضع المشاعر في ثناياه.. هي التي قال عنها أخوها إن أباه كسر القالب بعد ولادتها.. كنا نلعب لعبة التكتم والحياء، الذي اعتقدنا أنها جزء من رفيع الأخلاق. فلم نلتق وجهًا لوجه بعد، وكان التلفون وسيطًا رائعًا، ألتقطه في الأوقات التي يغيب فيها صديقي عن بيته وتكون هي حاضرة.. لم أنو غش صديقي ولا أردت اللهو، فهو الذي أثار اهتمامي بها كفتاة متميزة.. يقول: هذا الشاي أعدّته فلانة، وهي من صنعت هذه الحلوى، وحين علمت أنني أحب «التشريب» أرسلته لنا أول الصحون. لذلك كان لزامًا أن أكون عند حسن ظن نوايا صديقي الطيبة.

أما غرفة «الديوانية» في بيتهم فلا تحمل لي غير الضيق، بابها الرئيسي يطل مباشرة على خارج البيت وآخر صغير يفتح على البيت مغلق دائمًا، ليس لها أي نوافذ من مرايا العشاق، لذلك سلبت منا متعة الرصد المبكر، وأبقت لنا التكتم الذي ما إن يُطبّق على الحب إلا ويمسك العاشق بخناق نفسه. كنت أضطرب وأنا أقرع هذه المرة متعمدًا باب بيتهم وليس باب الديوانية كما أفعل سابقًا، اضطراب موجة تريد أن تبلغ الشاطئ.

في تلك اللحظات تكاثفت عليّ الرؤى، مررت بحالات لا تخلقها غير الظروف النادرة، فلم أكن ساعتها شجاعًا ولا جبانًا، حينها لا أعرف ماذا أفعل غير الرغبة بالتعجيل بحكم الأقدار أيا كانت لأخرج من هذا الضغط، جاء صوتها من خلف الباب، تدعونني للدخول من باب الديوانية الذي أعرفه جيدًا. أَحَجَمَتْ عن فتح الباب لأراها؟ كانت تعرف تمامًا إنني الطارق ولا أحد غيري.. بفعلها هذا كسرت كرامتي قبل قلبي.

***

بعد إغلاق التلفون بخمس دقائق يطرق صديق أخي كعادته باب الديوانية، اليوم ازدادت سخونة أسلاك التلفون بيننا فعجّل بالمجيء مبكرًا بثلاث دقائق، لا أدري لماذا يطرق باب الديوانية دائما بدلاً من باب البيت، فهل اضطراب العشاق يصيبه بالغباء؟! لكنه فاجأني اليوم بطرقه باب البيت في المكان الذي انتظرته فيه طويلا،ً وفي الزمان الذي أوكلت فيه أمي لي القيام بتنظيف البيت وغسل «أكوام» من الملابس بيدي العاريتين. كانت قدماي منتفختين انتفاخ أقدام الاستوائيين، عجزت عن العثور على «جورب» غير مثقوب لتغطيتهما، جريت نحو المرآة، فزعت من فوضى مظهري الذي لا يمكن تسويته إلا بساعات، في حين أن شراييني تكاد تنفجر وعيوني صفراء كعيون البقر.

***

أخبرتني أختي أن صديقي ينتظرني داخل الديوانية، جاءتني شعثاء، ملابسها مدعّكة في أكثر من مكان، وقد لاح الفتور في عينيها، فتور ما بعد الرغبة. منذ زمن وأنا مستمر في محاولاتي المستترة للتقريب بينهما، فصديقي هذا من أصول قروية، من الذين يضعون النساء في هودج، ولو زوجتها لأحد أبناء المدينة المغرمين بالخمور فسوف يجعل منها فتاة بار تجهز لأصحابه كئوس «العرق» و«المزّة وتغسل القيء من على السجاجيد والكراسي».. لا أعتقد أنهما كانا في خلوة ساخنة وربما كانا، فهي على غير عادتها صامتة هذه المرة، ينبئني محياها بشيء من الأسف. أيّا كان الضرر فسوف يصيب غروري وليس سمعتي فأنا والتلفون من تطفّلنا على أحاديثهما.. تبّا لي من متسرع، فقبل هذه اللحظات لم ير أحدهما الآخر، وهي في زي الخادمات هذا، لا تصلح للقاء الموعد الأول.

***

وضعت الآن غلاية الماء على «عين» الفرن، ذات اللهب الصغير ليغلي استعدادًا لتحضير «قوري» الشاي، سأبطئ هذه المرة، ثم أطل عليه في كامل زينتي.. أبدأ من جسدي هذا الذي أتركه على حاله بكرًا بكل زغبه، عدا وجهي الذي «أرتّشه» كما تعالج الصور الفوتوغرافية.ملابسي الداخلية هأنذا أرتديها أمام المرآة، أي الفساتين أنتقي؟ الذي يمشق جسدي؟!.. قدماي هما النشاز في تكويني.. سوف لن يراهما إلا في ليلة الدخلة.. شعري المكبل بدوائر ملفوفة أطلقه ينسدل على أعطافي من الأمام والخلف، يحيط بوجهي الأبيض مثل ليل يتوسطه قمر بلا نجوم.. أسمع صياح أخي يدعونني لجلب الشاي، غلى الماء وأطفأ لهب الفرن، ثم عاد الماء باردًا.

***

أدخلي.. صديقي من أهل البيت.. لا تخجلي.

دعوت أختي الواقفة على باب الديوانية الجانبي للدخول تحمل بين يديها «صينية» الشاي في زاوية لا يرى منها صديقي هذا البهاء الذي تكوّن سريعًا.. خالها تسمرت كتمثال من الجمال لا أستطيع أن أدعو صديقي إلى الخروج لمشاهدته.

تعالي.. سلّمي على فلان...

مازالت لا تفهم دلالة ألفاظي، وأنا أكرر دعوتي لها بما يفقدني احترام صديقي لي.. كيف السبيل وأنا من يستنجد به؟! كلاهما.. أرى ذلك في عيونهما المفتوحة بالدهشة والتوسل.. أتطلع صوب صديقي فاغر الفم ثم أنتقل ببصري نحو أختي الملوية الرقبة.. الذابلة البهاء، لو أمسكت يدها وأدخلتها الغرفة فلربما اعتبرني صديقي قوادًا.. كنت أعتقد أنني سوف أستمتع بالمحاولة، ولم يكن ذلك مجرد مشروع في ذهني، فلقد أحببت الاثنين، إلا أن حالهما يبدو كأحد الأشياء التي ليس مقدرًا لها أن تحدث.

ولكن ماذا عن الشاي؟ فهي لم تدعوني لآخذه من خارج الديوانية، كما في المرات السابقة.

***

إنني على بعد خطوات من أن أراه لأول مرة حاملة «صينية» الشاي بدلاً من «باقة» ورد.. ثوان قليلة وأكون معه في الغرفة كأنني أدخل إلى غرفة عرسي. ولكن ماذا لو شاهد أخي انفعالاتي واحمرار وجهي وارتجاف الصينية ما بين يدي؟! حينها أجلب له الخجل أمام صديقه.

طال وقوفها، لا تستجيب لدعوات أخيها، فهل أن ما بين الأخ وأخته من الهشاشة، بحيث لا تفهم أنه يفتح لها الباب بيديه، لا بل يدفعها دفعًا لدخوله أمام صمتي المضطرب؟! صمتي اليائس، صمتي الغاضب، هل أقامر وأدعوها للدخول بصوتي؟ فهم وإن كانوا من أبرز عوائل المدينة تحررًا، إلا أن ركام التراث هو من يتلبس نفوسهم فيما هم يلبسون الملابس السافرة الزاهية.

أخوها يخطو خارج الديوانية، أظنه يعتزم اصطحابها إلى الداخل، لكنه عاد بصينية الشاي فقط، سكب لي كوبًا، تناولته سريعًا، أرتشف جرعة منه، ذكرني بلا استغراب أنني لم أضع سكرًا على الشاي، وضعت ملعقة سكر دون أن تزيل طعم المرارة.

لماذا رفضت الدخول إلى الغرفة، لابد أنها تحب رجلاً آخر، في جميع مكالماتي التلفونية تلتقط الجهاز دون سائر أخواتها، كلامها المثير المحسوب المعاني، ربما تدربت عليه مع آخرين، يقينًا أن حبها للرجل الثاني الخفي هو الذي منعها من مقابلتي الآن.

خرجت من باب الديوانية لأرى «الدربونة» المتفرعة عن الشارع، والتي يقع في آخرها بيت صديقي، وقد انقلب كيانها السابق، حيث كنت أسير فيها دربًا ممتدًا من الآمال والأماني، وجدت.. الحقيقة... إنها لا تفضي إلى شيء.

 

حميد الأمين